الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما يما يختص بالناحية الثانية، فقد قال البعض: لأنه محتاج بأن يصرف الأمور على النهج القويم، ويجريها على الصراط المستقيم، ولأن يعلم الحدود، ويستوفي الحقوق، ويفصل الخصومات بين الناس، وإذا لم يكن عالمًا مجتهدًا لم يقدر على ذلك.
ويقول البعض: إنما اشترط الاجتهاد في الإمام؛ ليتمكّن بذلك من إقامة الحجج وحل الشبه في العقائد الدينية، ويستقل بالفتوى في النوازل وأحكام الوقائع نصًّا واستنباطًا؛ لأن أهم مقاصد الإمامة حفظ العقائد، وفصل الحكومات، ورفع الخصومات.
وأما الذين ذهبوا إلى عدم وجوب هذا الشرط -وهم الأحناف كما قلنا- فقد بَنَوا رأيهم على أن اجتماع هذا الشرط مع غيره من الشروط المطلوبة في واحد أمر نادر، ويمكنه أن يفوض غيره من المجتهدين في الحكم في الأمور التي تستدعي الاجتهاد، أو يحكم بعد أن يستفتي العلماء. فهؤلاء هم الأحناف الذين لا يشترطون في الإمام أن يكون مجتهدًا، إنما يقولون: يُكتفى منه بأن يَسأل أهل العلم أو أهل الاجتهاد في أي مسألة من المسائل التي تُعرض عليه، ويبنى حكمه بناءً على ذلك؛ لأنه ربّما لا يتحقّق هذا الشرط مع الشروط الأخرى، ويكون اشتراطه من الأمور المعجزة؛ ولذلك يكتفون بالقول بأنه يرجع إلى غيره من المختصين؛ وبذلك لا يشترطون في الإمام الأعظم أن يكون مجتهدًا.
أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
2 -
شروط رئيس الدولة (2)
العدالة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
…
أما بعد:
فقد بدأنا الحديث في المحاضرة السابقة عن الشروط الواجب توافرها في الإمام الأعظم، أو ورئيس الدولة، وذكرنا أنه يشترط في الإمام الأعظم أن يكون بالغًا، عاقلًا، مسلمًا، حرًّا، ذكرًا، مجتهدًا، وذكرنا الاختلافات التي قد تكون بين الفقهاء في هذه الشروط، وبينا الرأي الراجح منها، ونواصل الآن الحديث عن بقية هذه الشروط فنقول:
الشرط السابع من شروط الإمام الأعظم أو ورئيس الدولة: هو أن يكون عدلًا، والعدالة ملكة في النفس تمنع صاحبها من ارتكاب الكبيرة، والإصرار على الصغيرة، وقد اختلف تعبير العلماء عن هذا الشرط، فالأكثرون يعبرون عنه
بالعدالة، والبعض يعبر عنه بالصلاح في الدين، وبعضهم يعبر عنه بالورع، وقد اشترط الماوردي عدة شروط حتى تتحقق العدالة المطلوبة فقال في (ولاية القضاء):
والعدالة أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفًا عن المحارم، متوقيًا المآثم، بعيدًا من الريب، مأمونًا في الرضا والغضب، مستعملًا لمروءة مثله في دينه ودنياه.
واعتبار العدالة في الإمام قال به الجمهور من علماء الأمة؛ إذ إن هذا الشرط مطلوب في الشاهد، والقاضي، أي أنه يشترط في الشاهد حتى تقبل شهادته أن يكون عدلًا، ويشترط في القاضي حتى ينفذ حكمه أن يكون عدلًا، فإذا كان ذلك مطلوبًا في الشاهد، والقاضي، فينبغي أن يكون مطلوبًا من باب أولى في من يتولى الإمامة العظمى؛ لأن الإمامة العظمى أعلى منزلة من الشهادة، والقضاء، والفسق هو نقيض العدالة، وإذا كان هذا مانعًا من تقليد القضاء، والشهادة، أي الفسق، فبأن يكون مانعًا من تولي الإمامة العظمى من باب أولى، وإذا كان مطلوبًا من الإمام أن ينظر في مصالح المسلمين، فكيف يتم ذلك وهو بفسقه لم ينظر في أمور نفسه.
يقول البعض: والفاسق لا يصلح لأمر الدين، ولا يوثق بأوامره ونواهيه، والظالم يختل به أمر الدين والدنيا، وكيف يصلح للولاية، وما الوالي إلا لدفع شره.
ولم يخالف أحد الجمهور في القول باشتراط العدالة في الإمام إلا الحنفية، فإنهم لم يعدوها شرطًا من الشروط الواجبة، وأجازوا أن يلي الفاسق أمر الأمة، ولكنهم يكرهون ذلك، وهم يستندون فيما ذهبوا إليه، وهو أن العدالة ليست بشرط في الإمام الأعظم، يستندون في ذلك إلى أنه قد ثبت أن الصحابة صلوا خلف أئمة الجور من بني أمية، ورضوا بتقلدهم رياسة الدولة.
والرد على ذلك أن هؤلاء كانوا ملوكًا تغلبوا على الأمة، فتولوا هذا المنصب بالقهر، لا بالرضى والاختيار، وحال التغلب حال ضرورة، فلا يصح الاستدلال بها، ولو قلنا بعدم صحة ولاية المتغلب الذي ليس بعدل لتعطلت مصالح الأمة الدينية والدنيوية، من الفصل في الخصومات، وجهاد الكفار، وغير ذلك.
يقول البعض: وليس من شرط صحة الصلاة خلف الإمام عدالته، فقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة:((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برًّا كان أو فاجرًا، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برًّا كان أو فاجرًا، وإن عمل الكبائر)) والحكمة في أن العدالة لا تشترط في إمامة الصلاة، وتشترط في الإمامة العظمى، أن الصلاة لا تتعلق بحقوق الغير، بخلاف الإمامة، فإنها تتعلق بحقوق الغير.
يقول البعض: ومن حق الإمام أن يقوم بالحقوق كالحدود، والأحكام، والإنصاف، والانتصاف، وأخذ الأموال من وجوهها، وصرفها في حقها، والفاسق لا يؤتمن على ذلك، فقياس الإمامة العظمى على إمامة الصلاة إنما هو قياس مع الفارق ،ولذلك سقط ما استدل به الأحناف على أنه لا تشترط العدالة في الإمام الأعظم أو رئيس الدولة.
وقد قسم الإمام الماوردي في كتاب (الأحكام السلطانية) الفسق الذي تزول به العدالة إلى قسمين: الأول: ما تابع فيه شهوته، الثاني: ما تعلق فيه بشبهة.
فأما الأول: وهو ما تابع فيه شهوته، فيحصل باجترائه على ما نهى الله عنه، واتباعه هواه، فيرتكب المحظورات غير مبال بوعيد الله -سبحانه- فهذا فسق يمنع -في نظر الماوردي- انعقاد الإمامة له، وإذا طرأ بعد عقدها له فقد خرج -عند الماوردي عن الإمامة.
وأما الثاني من قسمي الفسق: فهو ما يتعلق بالاعتقاد المخالف للحق، بعروض شبهة، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب البعض إلى أنه يمنع انعقاد الإمامة، وإذا طرأ على من عُقدت له استحق العزل به، وعللوا ذلك بأنه لما استوي حكم الكفر بتأويل وغير تأويل، وجب أن يستوي حال الفسق بتأويل وغير تأويل، وذكر الإمام الماوردي أن كثيرًا من علماء البصرة ذهبوا إلى أنه لا يمنع من انعقاد الإمامة، ولو طرأ عليه بعد توليه الإمامة لا يخرج به منها، كما لا يمنع ذلك من تولي القضاء، وقبول الشهادة.
ثم إن الفسق الذي تذهب به العدالة تارة يكون ظاهرًا، بمعنى أن يعرفه الناس بالانتشار بينهم، أو بشهادة العدول عليه، وتارة يكون الشخص في الظاهر عدلًا، وفي الباطن فاسقًا، على عكس ما يعتقده الناس، فإذا كان يبطن الفسق، واختاره أهل الحل والعقد للإمامة، فهل يحل له قبول هذا المنصب، أم أن الواجب عليه أن يمتنع عن قبوله؟
قال بعض العلماء: إن الواجب عليه أن يتوب مما يعمله، ومما يعلمه من نفسه، ويقبل هذا المنصب بشرط أن يكون واثقًا من صلاحه واستقامته، وعدم عودته إلى ما يجرح عدالته، فإن لم يكن واثقًا من ذلك لزمه إظهار حاله على الجملة، ووجب على أهل الحل والعقد أن يقبلوا ذلك منه، ويرشحوا غيره للإمامة.
ولكن ما الحكم لو تعذر وجود العدالة؟
تعذر العدالة في الإمام يتحقق بأحد أمرين: إما باستيلاء من هو فاقد العدالة على هذا المنصب بالقوة، فلم يكن لأهل الحل والعقد اختيار في استيلائه على الإمامة، وإما بتعذر وجود العدالة فيما يستعرضه أهل الحل والعقد أمامهم من
الذين تتوافر فيهم الشروط الأخرى، ويمكن صلوحهم لتولى هذا المنصب غير أن العدالة غير متحققة فيهم، وكلا الأمرين متحقق فيه معنى الضرورة نقصد الأمر الأول، وهو أن يستولى على الإمامة من ليس بعدل، والأمر الثاني وهو أن أهل الحل والعقد لا يجدون شرط العدالة متوفرًا فيمن يصلحون للإمامة، نقول: وكلا الأمرين متحقق فيه معنى الضرورة؛ إذ لا سبيل إلى جبر الأول الذي استولى على الحكم بالقوة، لا سبيل لجبره عن التخلي عن الرياسة إلا باستعمال القوة، وهو ما يؤدي إلى وقوع الفتنة، وانتشار الفساد، وهي حال لا يرضاها الشرع، وحينئذ فينظر إلى أخف الضررين: ضرر وجود فاقد العدالة رئيسًا أعلى للأمة، وضرر انتشار الفتنة بين الناس عند محاولة إقصائه بالقوة، فيحتمل الضرر الأخف، وهو وجود فاقدها حتى تحين الفرصة لإقصائه عند أمن الفتنة، ووقوع الضرر.
يقول البعض: لو تعذر وجود العلم، والعدالة، فيمن تصدى للإمامة، بأن تغلب عليها جاهل بالأحكام، أو فاسق، وكان في صرفه عنها إثارة فتنة لا تطاق، حكمنا بانعقاد إمامته؛ كي لا يكون بصرفنا إياه، وإثارة الفتنة التي لا تطاق، كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، وبين الفقهاء أنه ما دمنا نحكم بنفوذ القضايا التي حكم فيها قضاة أهل البغي في دارهم، التي غلبهم أهل العدل عليها؛ لحاجة الناس إلى تنفيذ هذه الأحكام، فلا بد أن نحكم بصحة إمامة من فقد الشرط، وإلا لزم وقوع الفوضى بين الناس، وعدم صحة أحكام قضاتهم بناء على أنهم يولَّون القضاء من الإمام.
وكذلك الحال الثانية: وهي الحال التي لا يكون فيها فاقد العدالة قد استولى على الإمامة بالقوة، بل إن أهل الحل والعقد بتصفحهم أحوال من يصلح للإمامة عند إرادتهم اختيار الإمام، لم يجدوا من يتوافر فيه شرط العدالة، نقول: هذه الحال أيضًا حال ضرورة، أفتى فيها الفقهاء بجواز ولاية الفاسق، إلا أنه يلاحظ وجوب تقديم الأمثل فالأمثل، بمعنى أن الأقل فسقًا مقدم على غيره وهكذا.
وهنا يأتي سؤال: هل تجب عصمة الإمام عن الخطأ والذنوب؟
نقول: مما سبق علمنا أنه يشترط توافر صفة العدالة في الإمام، بمعنى أن يكون الشخص غير مرتكب للكبيرة، وليس مصرًّا على الصغيرة، فلا تؤثر الهفوات الصغيرة على عدالة الإمام، ما دام غير مصر عليها، وبناء على ذلك فلا يجب عصمته عن الخطأ والذنوب، وإنما تجب عدالته الظاهرة، فإذا ظهرت منه هذه العدالة كان إمامته صحيحة، ومتى زاغ عن ذلك وقفت له الأمة تبين له خطأه، وهذا ما يقول به الجماهير الكثيرة من الأمة الإسلامية، من أهل السنة، والمعتزلة، والزيدية، والخوارج، وشذت الاثنا عشرية، والإسماعيلية، من الشيعة فقالتا بوجوب أن يكون الإمام معصومًا عن الذنوب.
معنى العصمة:
قبل أن نذكر شبههم في ذلك، أي شبه الذين يقولون بأن الإمام يجب أن يكون معصومًا عن الذنوب، قبل أن نذكر هذه الشبه ورد أهل السنة، ومن معهم عليها، نوضح أولًا معنى العصمة فنقول:
فسر البعض العصمة بأنها خاصية في نفس الشخص، أو في بدنه، يمتنع بسببها صدور الذنب عنه.
وفسرها البعض أيضًا بـ: أن لا يخلق الله في العبد الذنب، مع بقاء قدرته واختياره.
وقد أوجب الاثنا العشرية، والإسماعيلية -كما ذكرنا- أوجبوا العصمة للأئمة على معنى أنهم مطهرون من كل دنس، وأنهم لا يذنبون ذنبًا صغيرًا، ولا كبيرًا، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، بل إنهم يساوون الأئمة بالأنبياء والرسل في هذه العصمة، والفرق بين الإمام، والنبي عندهم، هو أن النبي يوحى إليه، والإمام لا يوحى إليه، بل نرى بعض الشيعة يغالون في ذلك، فيجوزون الخطأ على الرسول صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي لا يجوزون فيه الخطأ على الإمام، فعندهم الرسول صلى الله عليه وسلم جائز عليه أن يعصي الله، وأن النبي قد عصى في أخذ الفداء يوم بدر، فأما الأئمة فلا يجوز ذلك عليهم، لأن الرسول إذا عصى فالوحي يأتيه من قبل الله، والأئمة لا يوحى إليهم، ولا تهبط الملائكة عليهم، وهم معصومون، فلا يجوز عليهم أن يسهوا، ولا يغلطوا، وإن جاز على الرسول العصيان، هذه هي معتقداتهم، الاثنا عشرية، والإسماعيلية.
ونذكر الشبه التي استندوا إليها في هذا، وهي شبه التي يدعون بها وجوب العصمة للأئمة:
يستدلون على على وجوب العصمة للأئمة بقول الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124) فدلت هذه الآية الكريمة على أن عهد الإمامة لا يصل إلى من كان ظالمًا، وكل من ارتكب ذنبًا فهو ظالم، انظر إلى قوله تعالى:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} (فاطر: من الآية 32) وإذا كان الأمر كذلك فالآية صريحة في أن من ارتكب ذنبًا،
سواء أكان الذنب ظاهرًا أم باطنًا، فهو غير مستحق لأن يكون إمامًا، فثبت أن الإمام يجب أن يكون معصومًا.
ويمكن أن نرد عليهم في هذا: بأن الآية الكريمة دلت على أن الإمام يجب ألا يكون مشتغلًا بالذنب، فأما كونه واجب العصمة، فلا دلالة في الآية عليه، هكذا أجاب الفقهاء عن هذه الشبهة بقولهم: لا نسلم أن الظالم من ليس بمعصوم، بل هو من ارتكب معصية مسقطة للعدالة، مع عدم التوبة، والإصلاح.
ومن الشبه التي استندوا إليها يقولون: ثبت بالدليل أن العصمة واجبة للنبوة، فبالقياس عليها نقول بوجوب العصمة للأئمة بجامع أن الكل مقيم للشريعة، ومنفذ لأحكام الله تعالى، هذه هي الشبهة الأخرى التي استندوا إليها، والتي يثبتون بها العصمة للأئمة، وهم يقيسون الأئمة على النبوة، بجامع أن الكل مقيم للشريعة، ومنفذ لأحكام الله تعالى.
والجواب عن هذه الشبهة:
أولًا: أن الفرق واضح بين النبي والإمام، فإن النبي مبعوث من الله -سبحانه- مؤيد منه بالمعجزات الدالة على عصمته من الكذب، وسائر الأمور التي تتنافى مع النبوة، ومنصب الرسالة، والإمام ليس كذلك، فلم يولَّ الإمامة إلا بطريق العباد، الذين لا يستطيعون الاطلاع على عصمته ومعرفة استقامة سريرته، فلا وجه لاشتراطها.
ثانيًا: أن النبي يأتي بالشريعة التي لا يعلم الناس عنها شيئًا إلا من جهته، فلو لم يكن معصومًا عن الكذب في تبليغها وارتكاب المعاصي، مع أننا مأمورون باتباعه في أمره ونهيه، واعتقاد أن ما يأتيه من الأفعال مباح، لكانت المعجزة التي أقامها الله -سبحانه- لتصديقه في ادعائه الرسالة، وصلاح أمر الدنيا والآخرة مفضية إلى ارتكاب المعاصى، واختلال حال العاجلة، والآخرة، يعني كأنه هناك فرق،
هم يقيسون الإمامة على النبوة، لكن الفقهاء يردون عليهم بأن هناك فرق واضح بين النبي، وبين الإمام، ولذلك هذا قياس مع الفارق، فالنبي مبعوث من الله سبحانه وتعالى مؤيد منه بالمعجزات الدالة على عصمته، وليس الإمام كذلك، فالذي ولَّى الإمام إنما هو الناس، أو أهل الحل والعقد، وهذا يختلف عن النبوة، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بشريعة لا نعلم عنها شيئًا، فإذا لم يكن معصومًا فإن ذلك قد يؤدي إلى الوقوع في المعاصي والذنوب، ويأبى الله ذلك.
من الشبه التي استندوا إليها يقولون: إن طاعة الإمام واجبة بالنص، والإجماع، قال تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: من الآية 60) وكل واجب الطاعة واجب العصمة، وإلا فلو لم يكن واجب العصمة لجاز أن يكذب في أوامر الله -سبحانه- ونواهيه، ويأمر بالمنكرات وينهى عن الطاعات، وبما أن طاعاته واجبة فيلزم وجوب اجتناب الطاعات وارتكاب المعاصي، واللازم باطل فبطل ما أدى إليه وهو عدم كونه واجب العصمة، فثبت نقيضه وهو كونه واجب العصمة.
لكن يرد عليهم أيضًا في ذلك بأن الإمام إنما تجب طاعته فيما لا يخالف الشرع فيه، أما إذا خالف الشرع فلا تجب له الطاعة عملًا بقول الحق سبحانه وتعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (النساء: من الآية 59) وقد كان يمكن قبول دعوى وجوب العصمة لو كانت طاعته واجبة بمجرد قوله، ولكن الأمر غير ذلك؛ إذ تجب طاعته لأن ذلك حكم الله ورسوله، وإذا كان الأمر كذلك فيكفي عدم كذبه في بيان الأحكام اشتراط الإسلام والعدالة، فيه كالقاضي، والوالي، بالنسبة إلى الناس، والشاهد بالنسبة إلى القاضي، وكالمفتي بالنسبة للمقلد، وأمثال ذلك.
ومن الشبه الذي استندوا إليها أيضًا أن الإمام حافظٌ للشرعية، فلو جوزنا الخطأ عليه لكان ناقضًا لها لا حافظًا، فيعود على موضوعه بالنقض.
ويرد عليهم في ذلك بأن الإمام ليس حافظًا للشريعة بذاته، بل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة واجتهاده الصحيح، فإذا اخطأ في اجتهاده، أو ارتكب إحدى المعاصي فالمجتهدونمن الأمة يصححون له اجتهاده، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر يصدونه عن ضلالته، وإن لم يفعلوا أيضًا على فرض ذلك فلا نقض للشريعة.
وبعد فقد بان فساد ما استدل به الشيعة الاثنا العشرية، والإسماعيلية على وجوب العصمة للأئمة.
ويهمنا الآن أن نشير إلى أن الباعث إليهم على إيجاب هذه الصفة على ِأئمتهم إنما هو المبالغة في إجلالهم وتقديسهم لدرجة أن وصلوا بهم إلى مرتبة فوق مراتب سائر البشر، وقربوهم من مراتب الرسل بإظهار المعجزة على أيديهم وعصمتهم من الذنوب، ولم يفرقوا بين الأئمة والرسل إلا في أن الرسول ينزل إليه الوحي، والإمام لا يوحَى إليه، وكان السبب في خلع هذه القداسية على الأئمة دخول أفواج كثيرة من الفرس في الدين الإسلامي بعد الفتح، الذين يعتقدون في قداسة ملوكهم، وصاحبهم هذا الاعتقاد بعد دخولهم إلى الدين الجديد، فأحاطوا عليًّا بهالة من القداسة والسمو كان أسلافهم قد ألفوا أن يحيطوا بها ملوكهم، وكما تعود أسلافهم أن يلقبوا كسرى يلقب الملك المقدس ابن السماء، وأن يصفوه في كتبهم بأنه السيد والمرشد، كذلك فعل هؤلاء الذين اعتنقوا الإسلام فلقبوا عليًّا بالإمام،