الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظِله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، والدالة أيضًا على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم.
الوفاء بالعهد
ومن الأسس التي قامت عليه العلاقات الإسلامية الدولية: الوفاء بالعهد، ونقول في ذلك:
إن الوفاء بالعهد خلق كريم، وصفة طيبة، ومن ثَمَّ أمر الإسلام بالوفاء بالعهد، فيقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: من الآية: 1) يعني: أوفوا بالعقود التي عاهدتموها ربكم، والعقود التي عاهدتموها إياه، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقًا، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضًا، فأتموها بالوفاء، والكمال، والتمام منكم لله، بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منه، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم، ولا تنقضوها بعد توكيدها.
ويقول تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (الإسراء: من الآية: 34) يعني: أوفوا بالعقد الذي تعاقدون الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام؛ وفيما بينكم أيضًا، وفي البيوع والإيجارات، وغير ذلك من العقود، والله تعالى سيسأل ناقض العهد عن نقضه إياه، يقول: فلا تنقضوا العهود الجائزة بينكم، وبين مَن عاهدتموه أيها الناس، فتحقِّروه، وتغدروا بمن أعطيتموه ذلك.
والوفاء بالعهد خلق الأنبياء، يقول تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (مريم: من الآية: 54) ففي هذه الآية: يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد في هذا الكتاب إسماعيل بن إبراهيم، فاقصص خبره، إنه كان لا يكذب وعده، ولا يخلف، ولكنه كان إذا وعد ربه أو عبدًا من عباده وعدًا وفَّى به.
والوفاء بالوعد من صفات المؤمنين، يقول تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المؤمنون: 8) أي: للأمانات التي اؤتمنوا عليها، وعهودهم -وهو: عقودهم- التي عاقدوا الناس فهم لها راعون -أي: حافظون- لا يضيعون، ولكنهم يوفون بذلك كله.
ونبه القرآن أن من ينقض العهد يكون مذمومًا، بل هو شر الدواب عند الله، فقد نَعَى القرآن الكريم على اليهود نقضهم العهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم، فيقول:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} (الأنفال: 55، 56) يقول ابن عباس: "هم قريظة، فإنهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا: أخطأنا، فعاهدهم مرة أخرى، فنقضوه أيضًا يوم الخندق".
وقوله: {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} معناه: أن عادة من حكم العقل أن يتقي نقض العهد؛ حتى يسكن الناس إلى قوله، ويثق بكلامه، وفي نقض العهد إثم كبير، يقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2، 3) يعني: يا أيها الذين آمنوا، وصدقوا الله ورسوله: لم تقولون القول الذي لا تصدقونه بالعمل، فأعمالكم مخالفة لأقوالكم، عظم مقتًا عند ربكم أن تقولوا ما لا تفعلون.
والإسلام يوصي باحترام العهد مع الضعفاء كاحترامه مع الأقوياء فلا يكون ضعف الدولة داعيًا إلى نقض العهد معها، بل لا بد من الوفاء بالعهد، فلا مخادعة، ولا خيانة؛ لأن ذلك منهي عنه، يقول تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ
كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: 91 - 94).
وقد تضمنت النصوص السابقة ما يلي:
تضمنت أمرًا بالوفاء بالعهد، ونهيًّا عن نقضه بعد توكيده؛ لأن الله عز وجل شهيدًا عليه، وحافظ وضامن له، وهذا أدعى إلى الوفاء به.
أيضًا: شَبهت الآية الذي يخلف، ويعاهد، ويبرم عهده، ثم ينقضه بالمرأة الحمقاء، التي تغزل غزلها، وتفتله محكمًا، ثم تحله، فنقض العهد حماقة، تؤدي إلى تفكك الصلات بين الأفراد، والدول، والجماعات، وما هذا إلا عن سوء تفكير، وفساد تدبير.
وبينت الآية أنه لا تكون القلة والكثرة سببًا في نقض العهد، بل لا بد من الحفاظ على العهد والتمسك به؛ فالله تعالى ابتلى عباده بالتحديات، ومحاولة بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك؛ ليرى من يجاهد نفسه فيخالفها، ممن ينساق وراءها، ويعمل بمقتضى هواها.
وتضمنت الآية أيضًا وعيدًا لمن نقض العهد، وعقد العقد بالانطواء على الخديعة، والفساد فيها بعد الثبوت، وتزل قدمه فيهوَى إلى مدارك السقوط، فنقض العهد يزري بالمكانة، ويؤدي إلى المهانة، وهكذا.
نستخلص من الآيات:
أن السبيل لاستقرار السلام هو معاهدات الأمان، وعدم الاعتداء، وأن المعاهدات لا تستمد قوتها من نصوصها، بل من عزيمة عاقديها على الوفاء؛ ولذلك حث القرآن على الوفاء، واعتبر الوفاء بالعهد والميثاق قوة، والنكث فيه أخذًا في أسباب الضعف.
وأن مَن يوثق عهده بيمين الله فقد اتخذ الله كفيلًا بوفائه، فإذا غدر بعهده فقد اتخذ عهد الله للغش وزيف القول، وأنه لا يصح أن يكون الباعث على الغدر بين الدول هو الرغبة في أن تكون أمة أقوى مالًا، وعُدة، وأكثر عددًا، وأوسع رقعة من أمة أخرى.
ولقد بين الله أن الوفاء بالعهود هو المقصد الأساسي والأسمى الذي يتجه إليه المؤمنون؛ لتحقيق معنى الوحدة الإنسانية بإرادته واختياره، ويتحقق ما أراده الله تعالى الذي لو شاء لجعل الناس لا يختلفون أبدًا، ولكن كان الاختلاف؛ ليختبر الله الإرادات الإنسانية في تنفيذ ما يأمر به سبحانه.
وإذا كان القرآن الكريم يدعو المؤمنين إلى تقوية العهود، وتنفيذها، وتحقيق الأمن بين الناس بها فإن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ رسالة القرآن- قد حث أيضًا على الوفاء بالعهود؛ فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن الغادر ينصب له يوم القيامة لواء فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) وروي عن الحسن بن علي بن أبي رافع، أن أبا رافع أخبره قال: ((بعثتني قريش إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فلم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى الله تبارك وتعالى في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أخيس بالعهد -يعني: لا أنقض العهد- ولا أخيس البرد -يعني: لا أنقض، ولا أقتل الرسل- ولكن ارجع -يعني: