المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد - السياسة الشرعية - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها

- ‌ مفهوم السياسة الشرعية

- ‌شروط العمل بأحكام السياسة الشرعية

- ‌موضوعات علم السياسة الشرعية

- ‌مراعاة الشريعة أحوال الناس فيما شرعته من أحكام

- ‌اعتبار المصالح المرسلة دليلًا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية

- ‌الدرس: 2 مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة والمدينة

- ‌خبرة النبي عليه الصلاة والسلام بتنظيم الحياة القبلية قبل البعثة

- ‌القواعد التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة

- ‌أهم المعالم للنظم الانتقالية التي وضعها النبي في المدينة

- ‌النظم الأساسية التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌تابع: النظم التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌الدرس: 3 النظام المالي للدولة الإسلامية

- ‌الزكاة من أهم الموارد المالية في عهد النبي

- ‌أهم الموارد المالية في عهد النبي: الغنائم، الفيء، الجزية

- ‌النظام المالي في عهد أبي بكر الصديق

- ‌تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌النظام المالي في عهد عثمان بن عفان

- ‌النظام المالي في عهد علي بن أبي طالب

- ‌المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌تابع: المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌موقف عمر بن عبد العزيز من الأخطاء المالية في عهد الأمويين

- ‌الدرس: 4 العمومية المعنوية والمادية للزكاة

- ‌المقصود بالشخص الطبيعي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء بالنسبة للزكاة في مال الصبي والمجنون

- ‌الخلطة في الأنعام كمثال للشخص المعنوي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء من تأثير الخلطة في الزكاة

- ‌حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌تابع: حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌تابع: الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌الدرس: 5 بقية أنواع الزكوات والعوامل التي تساعد على تحقيق العمومية فيها

- ‌الزكاة في الذهب والفضة

- ‌الزكاة في الحلي المباح والمحرم، وآراء الفقهاء

- ‌ما تجب فيه الزكاة من الحرث

- ‌زكاة عُرُوض التجارة، والرِّكاز، والمعدن، وما يستخرج من البحر

- ‌زكاة الأموال التي جدت في هذه العصور

- ‌تجنب الازدواج في أداء الزكاة، وتجنب الراجعية في الزكاة

- ‌محاربة التهرب من أداء الزكاة

- ‌الدرس: 6 الجزية والخراج والعشور

- ‌العمومية في الجزية

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الجزية

- ‌مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تابع: مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تاريخ الخراج، والعمومية فيه

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج

- ‌مراعات ظروف الممول في الخراج

- ‌من الموارد المالية للدولة الإسلامية: العشور

- ‌الدرس: 7 النظام السياسي الإسلامي

- ‌مصطلح السياسة منذ بداية الدولة الإسلامية

- ‌مرتكزات السياسة في الإسلام

- ‌مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي: أولا القرآن الكريم

- ‌السنة

- ‌حجيه السنة بجميع أنواعها

- ‌الإجماع

- ‌القياس

- ‌الاستحسان

- ‌المصالح المرسلة

- ‌العرف

- ‌الدرس: 8 قواعد النظام السياسي الإسلامي

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: أولا: الحاكمية لله

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: ثانيا: الشورى

- ‌تابع: أدلة الشورى

- ‌تحديد أهل الشورى والشروط الواجب توافرها فيها

- ‌كيفية إعمال واجب الشورى، وطريقة اختيار أهل الشورى

- ‌مدى الالتزام برأي أهل الشورى، وبيان آراء الفقهاء في ذلك

- ‌أهل الشورى، والشروط اللازم توافرها فيهم

- ‌الدرس: 9 قواعد أخرى للنظام الإسلامي وهي العدالة، مسئولية الحكام، الحقوق والحريات، سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌ العدالة

- ‌صور العدالة في القرآن

- ‌مسئولية الحكام

- ‌تابع: قواعد النظام السياسي في الإسلام: "مسئولية الحكام

- ‌مقدمة عن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي

- ‌ الحريات الشخصية

- ‌الحرية الفكرية

- ‌تابع: الحقوق والحريات الفردية في النظام الإسلامي: حرية التجمع

- ‌الحريات الاقتصادية

- ‌الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي

- ‌سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌الدرس: 10 الإمامة

- ‌مسئولية الحاكم أمام الأمة الإسلامية "مشروعية المسئولية

- ‌ الحكم عند العرب قبل الإسلام

- ‌الإمامة مبحث فقهي

- ‌معاني: الخلافة، وأمير المؤمنين، والإمام

- ‌معنى الإمامة العظمى

- ‌حكم نصب الإمام

- ‌القائلون بعدم وجوب تنصيب الإمام في كل حالٍ أو حالٍ دون حالٍ

- ‌الدرس: 11 شروط الإمامة العظمى

- ‌شروط الإمامة العظمى

- ‌العدالة

- ‌صحة الرأي في السياسة، والإدارة، والحرب

- ‌الكفاية الجسمية، والكفاية النفسية

- ‌شرط القرشية، وتولية الأفضل

- ‌الدرس: 12 طرق انعقاد الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه وأسباب انتهاء ولايته

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق العهد من الإمام الحالي

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق القهر والغلبة

- ‌انعقاد الإمامة بطريق النص

- ‌واجبات الإمام

- ‌حقوق الإمام

- ‌ تابع حقوق الإمام

- ‌انتهاء ولاية الإمام

- ‌الدرس: 13 توجيهات الفكر الإداري الإسلامي

- ‌العمل فريضة إسلامية

- ‌خصائص العمل في الإسلام

- ‌طبيعة تكوين المنظمة

- ‌تابع طبيعة تكوين المنظمة

- ‌الرقابة ومتابعة الإنجاز

- ‌العلاقات الإنسانية في العمل الجماعي

- ‌وجود علاقة عامة بين أفراد المنظمة

- ‌التوظيف حسب الجدارة

- ‌وجود قيادة سوية

- ‌الدرس: 14 المنهج الإداري في الإسلام

- ‌مقدمة عن المنهج الإسلامي الإداري

- ‌ التخطيط لنشر الدعوة

- ‌التخطيط للهجرة

- ‌تخطيط الحياة في المدينة بعد الهجرة

- ‌المنهج الإسلامي في التنظيم

- ‌المنهج الإسلامي في الرقابة

- ‌الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الإدارة في عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌موقف عمر من الأنظمة الإدارية في البلاد المفتوحة

- ‌الدواوين التي أنشاها عمر بن الخطاب

- ‌التجنيد الإجباري، ونشأة بيت المال

- ‌ رقابة عمر بن الخطاب لعماله

- ‌الإدارة عند الأمويين

- ‌الدرس: 15 أحكام وأنواع الوزارات وعلاقة المسلمين مع غيرهم والمعاهدات

- ‌مقدمة عن الوزارة في الدولة الإسلامية

- ‌وزارة التفويض

- ‌وزارة التنفيذ

- ‌مقارنة بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ

- ‌الإمارة على الأقاليم

- ‌ أنواع الإمارة على الأقاليم

- ‌الأسس التي قامت عليها علاقة المسلمين بغيرهم

- ‌حرية العقيدة

- ‌العدل

- ‌الوفاء بالعهد

- ‌الفضيلة

- ‌التسامح

- ‌الرحمة

- ‌أساس العلاقة بين المسلمين، وغيرهم: السلم

- ‌أحكام الدارين

- ‌مقدمة عن المعاهدات في الإسلام

- ‌أنواع المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌الدرس: 16 القضاء ووسائل التثبت والإثبات في النظام الإسلامي

- ‌ مشروعية القضاء وأهميته

- ‌تاريخ القضاء في الإسلام

- ‌أركان القضاء

- ‌الدعوى وشروطها

- ‌ الدعوى:

- ‌تعارض الدعويين مع تعارض البينتين

- ‌وسائل الإثبات

- ‌ التثبت من وسائل الإثبات

- ‌الحكم

- ‌القضاء في المملكة العربية السعودية

الفصل: ‌انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثاني عشر

(طرق انعقاد الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه وأسباب انتهاء ولايته)

1 -

شروط رئيس الدولة (3)

‌انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

ونتحدث الآن عن الطرق التي تنعقد بها رياسة الدولة، آراء العلماء إجمالًا:

الجمهور من الفقهاء، والمتكلمين، على أن توافر شروط الإمامة في شخص من الأشخاص ليس كافيًا بمجرده في انعقاد الإمامة له، بل لا بد من طريق يثبت به هذا المنصب، حتى على فرض أن الشروط المطلوبة في الإمامة لم تتوافر إلا في واحد فقط، تفرد بها عن سائر أفراد الأمة، فإن جمهور العلماء يقولون بعدم انعقاد الإمامة له بمجرد ذلك، بل لا بد من اختيار أهل الحل والعقد له، وإذا كان العلماء قد قالوا بأن الصلاحية وحدها ليست بكافية في انعقاد الإمامة، بل لا بد من وجود سلطة تسند إليه هذه الإمامة، إلا أنهم اختلفوا في أي الطرق يمكن أن يكون هو المبين لانعقادها.

فالإمامية قالوا: إن انعقادها -أي انعقاد الإمامة- ليس له طريق إلا النص، وأهل السنة قالوا: إن طريقها البيعة من أهل الحل والعقد، أو العهد من الإمام السابق.

وثمة طريقان آخران عند جماهير علماء الأمة لانعقاد الإمامة، غير اختيار أهل الحل والعقد، هما: العهد، والقهر أو الغلبة، وسنتكلم -بمشيئة الله- عن كل ما ذكرناه، وهو اختيار أهل الحل والعقد، والعهد، والقهر أو الغلبة، والنص الذي يزعمه الشيعة الإمامية، ذاكرين خلاف العلماء إن وجد في كل منها، ومرجحين ما نراه من الآراء.

ص: 525

الطريق الأول: هو اختيار أهل الحل والعقد:

اختيار أهل الحل والعقد، أو بيعة أهل الحل والعقد، هو الطريق الأصل في انعقاد الإمامة عند جماهير العلماء من الفقهاء، والمتكلمين، فإذا خلا منصب الإمامة بموت الإمام، أو بعزله من منصبه، وجب على الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد أن تتصفح أحوال من يمكن أن يقوم بأعباء هذا المنصب، فمن رأوه مستوفيًا شروطه بايعوه إمامًا لهم، فإذا لم يكن ثمة من تتوافر فيه الشروط غيره وجب عليه قبول هذا المنصب، إذا لم يكن هناك من الأعذار ما يبرر له رفض ما يعرضون عليه، وأما إذا كان له من الأعذار ما يمنعه من القيام بأعباء هذا المنصب، كما توضحه أحكام الشريعة، فحينئذ يعدلون عنه إلى غيره، مراعين في مبايعتهم الأفضل، حتى لا يلي هذا الأمر غير المستحق له.

يقول الإمام الماوردي في (الأحكام السلطانية):

فإذا تعين لأهل الاختيار من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها، وانعقدت ببيعتهم له الإمامة، فلزم كافة الأمة الدخول في بيعته، والانقياد لطاعته، وإن امتنع من الإمامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها؛ لأنها عقد مراضاة واختيار، لا يدخله إكراه، ولا إجبار، وعدل عنه إلى من سواه من مستحقيها.

ولكن نسأل سؤالًا: وهو لماذا يسند اختيار الرئيس إلى جماعة خاصة، كأهل الحل، والعقد؟

نقول: قد يكون لافتًا نظر الباحثين في نظام الحكم الإسلامي ما قرره فقهاء الإسلام من أن مهمة اختيار الإمام يجب أن توكل إلى جماعة خاصة دون باقي

ص: 526

أفراد الأمة، مما يوهم -في ظاهره- عدم الاعتداد بآراء جماهير الأمة، التي ما جُعل الإمام إلا للقيام برعاية مصالحها الدينية، والدنيوية، كان الواجب أن تسند مهمة اختيار الإمام إلى كل بالغ، عاقل، من أفراد الشعب، لا فرق في ذلك بين واحد، وواحد، حتى يكون الاختيار معبرًا تمام التعبير عما ترتضيه الجماهير، وسواء في ذلك أن يكون هذا الاختيار قد تم بطريق مباشر، كالاقتراع العام، أو بطريق غير مباشر، كأن يتم اختيار الإمام بوساطة هيئة خاصة ينتخبها الشعب، يسند إليها القيام بهذه المهمة الخطيرة، فقصر اختيار الإمام على جماعة خاصة مما يلفت نظر الباحثين؛ لأنه في الظاهر مخالف مبدأ إعطاء حق الاختيار لكل مواطن، حتى يكون الاختيار معبرًا عن الإرادة الشعبية تمام التعبير.

صحيحًا أن الإسلام يوجب على الجميع -أي جميع أفراد الأمة- أن يبايعوا الإمام، ويدخلوا في طاعته، بعد انعقاد الإمامة له بعقد أهل الحل والعقد، ولكن ذلك الوجوب إنما قُصد به إغلاق باب التفرق، حتى لا تكون الفتنة والفوضى بين الناس، ولذلك قال العلماء: إنه إذا تمت البيعة من أهل الحل والعقد في ناحية، وجب عليهم أن يخطروا بها سائر أهل الحل والعقد في النواحي الأخرى.

يقول البعض: وإن أقام بعض أهل الحل والعقد إمامًا سقط وجوب نصب الإمام عن الباقين، وصار من أقاموه إمامًا، ويلزمهم إظهار ذلك بالمكاتبة والمراسلة؛ لئلا يتشاغل غيرهم بإمام غيره وقد وقعت الكفاية، ولئلا يؤدي ذلك إلى الفتنة، فعدم مبايعة سائر أفراد الأمة لا يؤثر في انعقاد الإمام؛ لأن العقد يتم بمجرد مبايعة أهل الحل والعقد، ولا يكون العقد صحيحًا إذا لم يبايع الإمام أهل الحل والعقد، فإذا فرض بعد موت الإمام مثلًا أو عزله، أن اجتمع جماعة من غير أهل الحل والعقد، وعقدوا

ص: 527

البيعة لواحد من الناس، فإن هذا البيعة لا اعتداد بها، وليست لها الصفة الشرعية التي تجبر باقي أفراد الأمة على الدخول في طاعة من بايعته هذه الجماعة.

وقبل أن نوضح المعنى المثالي الملاحظ في تقرير المبدأ الإسلامي القائل بوجوب أن تسند مهمة اختيار رئيس الدولة إلى جماعة خاصة، تسمَّى عرفًا بجماعة أهل الحل والعقد، يجب أن نقول بادئ ذي بدء: إننا إذا كنا حقًا نبحث عن الطريقة المثلى لاختيار رئيس الدولة، يجب علينا أن نسلم بأمرين:

أولهما: أن اختيار رئيس الدولة يجب ألا يوكل إلَّا إلى من توافرت فيه مقدرة التفرقة بين من يصلح، ومن لا يصلح، لتولي هذا المنصب الخطير، وتوافر هذه المقدرة لا يتحقق إلا بأن تفرض شروط، وصفات خاصة، في من يصح قيامه بهذه المسئولية، شروط وصفات من شأنها أن توجد في القائمين بهذه المهمة الصلاحيةَ الكاملة لها؛ وذلك لأنه لما كان رئيس الدولة لا يُختار إلا ممن توافرت فيه شروط خاصة، تؤهله للقيام بأعباء هذا المنصب، وهي التي بيناها فيما سبق عند الكلام عن الشروط المطلوبة في رئيس الدولة، نقول: كان لزامًا ألا يوكل اختيار الرئيس إلا إلى أشخاص تتوافر فيهم مقدرة التفرقة بين من تحققت فيه هذه الشروط، وبين من لم تتحقق فيه.

وثاني الأمرين الذَين بجب التسليم بهما: هو أنه لا يصح ادعاء أن التنظيمات البرلمانية تمثل الشعب كله تمثيلًا صحيحًا، سواء في ذلك الشعوب التي بلغت مستوًى رفيعًا من العلم، والنضج السياسي، والشعوب التي لم تبلغ بعد هذا المستوى، وذلك لعدة أسباب:

السبب الأول: أن البرلمان بأجمعه قد لا يمثل سوى أقليَّة ضئيلة من الناخبين، وذلك إذا أسقطنا من حسابنا نوعين من الأصوات، أولهما أصوات الغائبين الذين لم يدلوا بآرائهم في هذه الانتخابات، وهؤلاء الغائبون يمثلون عددًا كبيرًا بالنسبة إلى باقي أفراد الناخبين في كل انتخاب، ويبلغ عددهم في أغلب البلاد نحو نصف عدد الناخبين،

ص: 528

وثاني النوعين الذين يجب عدم احتسابهما هو الأصوات الفاشلة، أي الأصوات التي حصل عليها المرشحون الذين لم يكتب لهم النجاح في هذه الانتخابات، ومجموع هذين النوعين يشكل عددًا كبيرًا، قد يكون هو الأغلب بالنسبة إلى باقي الأصوات، كما تفيده الإحصائيات، سواء في ذلك البلاد التي تأخذ بنظام التصويت الإجباري، والبلاد التي لا تأخذ بهذا النظام، وعلى ذلك فالبرلمان قد لا يمثل إلا أقليلة ضئيلة بالنسبة إلى عدد الناخبين، وبالتالي لا يمثل الاتجاهات الحقيقية لمجموع الأمة، وهذا فضلًا عن أنه من الملاحظ أن يحدث في كثير من البلاد خضوع الأغلبية البرلمانية لسيطرة عدد قليل من الزعماء والساسة، يوجهونها حسب أهوائهم، وميولهم، وقد تكون هذه الميول والأهواء لا تتوافر في أكثر الأحوال مع ميول الجماهير الذين ينوبون عنهم، وإن ادعوا كذبًا أنهم يعبرون عن مصالح جماهير الأمة.

السبب الثاني من أسباب عدم صحة ادعاء أن التنظيمات البرلمانات تمثل الشعب كله تمثيلًا صحيحًا، فساد الانتخابات في كثير من الأحوال: فإنه مهما قيل عن حرية الانتخابات، وعدم تدخل الإرادة فيها، فإنها في الواقع لا تخلو من استعمال طرق كثيرة فيها غير مشروعة، من الغش، وخداع الجماهير، وإغرائهم بالرشوة، والتغرير بهم، بقصد كسب أصواتهم مما يؤثر في نتيجة الانتخابات تأثيرًا كبيرًا.

السبب الثالث: أننا لو سلمنا جدلًا بأن الانتخابات تتم بطريقة نظيفة خالية مما يشوبها مما ذكرناه آنفًا، وفرضنا أن البرلمان يمثل فعلًا إرادة أغلبية الناخبين، فإننا لا نسلم أن يقال: إن البرلمان يمثل جماهير الأمة طوال الوقت؛ لأن اختلاف

ص: 529

النزاعات في الجماهير، واتجاهاتهم المتباينة، قد يجعل من المقبول الادعاء بأن البرلمان يمثلهم في بعض مسائل معينة لمدة قصيرة، وأن الادعاء بأن البرلمان يمثل جماهير الأمة طوال الوقت فإن هذا لا يعدو أن يكون نوعًا من السيادة للنائبين على المنوب عنهم.

وبعد فقد تبين مما ذكرناه أن ادعاء أن التنظيمات البرلمانية تمثل إرادة الجماهير، وتعبر عن الرأي العام، ادعاء غير مُسَلم؛ للأسباب التي ذكرناها، يتبين لنا مما سبق أن تخصيص جماعة معينة في النظام الإسلامي لانتخاب رئيس الدولة هو نوع من المثالية التي ينشدها الإسلام في تشريعاته، يعني كون هناك جهة معينة، أو جماعة معينة، يطلق عليهم أهل الحل والعقد، يقومون باختيار رئيس الدولة، هذا هو الأمر المهم، وهذا أفضل بكثير مما هو موجود في القوانين الوضعية، ونظم الانتخابات الوضعية، التي تبين لنا فشلها فيما قدمنا.

ولكن هل يُنتخب أفراد هذه الجماعة التي تقوم باختيار رئيس الجمهورية، أم يُكتفي باستفاضة أخبارهم، أو أخبار فضلهم، وعلمهم، وتقدمهم بين جماهير الأمة، هذا من الموضوعات الخلافية بين الفقهاء.

الرياسة عقد كسائر العقود:

لا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن فقهاء الإسلام، ومتكلميه، قد قرروا أن الإمامة عقد كسائر العقود التي تتم بين الطرفين، والأمة هنا هي الطرف الأول، والرئيس أو الإمام هو الطرف الثاني، فالإمامة عقد حقيقي مبني على الرضا، قائم بين الأمة والإمام، يجب بمقتضاه على الطرف الثاني، وهو الإمام أو الرئيس، السير

ص: 530

بحكمهم على وفق أحكام شريعة الإسلام، ويجب على الطرف الأول، وهو الأمة، بذل الطاعة والانقياد له فيما لا يخالف أوامر الشرع ونواهيه.

وإذا كان مفكرو الإسلام قد بينوا أن العلاقة بين الحاكم والمحكومين مبينة على عقد بينهم وبينه، فإنهم بذلك يكونون قد سبقوا الفكر الغربي في البحوث القانونية السياسية؛ إذ إن (جان جاك روسو) الذي يعتبر في نظر أوروبا أبًا لديمقراطية الحديثة بكتابه (العقد الاجتماعي) الذي كان بمثابة الإنجيل لدى زعماء الثورة الفرنسية، والذي ضمنه نظريته القائلة: إن الحاكم يتولى سلطاته من الأمة نائبًا عنها، بناءً على تعاقد حرر بنيهما، إذ إن (روسو) هذا قد سبقته النظرية الإسلامية بقرون عديدة، وإذا كان المفكرون الإسلاميون قد سبقوه، وسبقوا غيره، وتكلموا عن العقد بين الحاكم والمحكوم، فإنهم بذلك يكونون هم الرواد في هذا الميدان الفكري الهام، وبخاصة وأن العقد الذي يتكلم عنه (روسو) عقد تخيل حدوثه في العصور الساحقة، ولم يقم من الشواهد التاريخية ما يمكن أن يكون برهانًا حقيقيًّا عليه، بخلاف العقد الذي تكلم عنه مفكرو الإسلام، فإنه عقد حقيقي ثابت، من يوم أن وُجد نظام الخلافة، وكانت بيعة الأمة صورة لتحقيقه.

ومن ناحية أخرى فإن النظرية الإسلامية ليس فيها أفراد تنازلوا عن شيء من حرياتهم وسلطاتهم، وإنما لدينا أمة مكلفة وكلت عنها بعض أفرادها لرعاية صوالحها، وليس في الوكالة تمليك، ولا مظنة تمليك، والبيعة عقد يقيد الحاكم بدستور خاص، ويحدد له حدود مهمته، فإذا التزم شروط العقد فله حق الطاعة على المحكومين، فإذا جاوز ما عين له وخرج على الشرط انعزل من الوكالة، وخرج من العهدة بنفسه، أو بعزل الشعب الذي ولاه.

ص: 531

معنى البيعة:

وضح ابن خلدون معنى البيعة فقال:

البيعة: هي العهد على الطاعة، كان المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه، وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيءٍ من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر، على المَنشط، والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده؛ تأكيدًا للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع، والمشتري، فسمي بيعة.

وقد أصبح لفظ البيعة يستعمل مجازًا في الرضا بالإمام، والانقياد له، فإذا ما رضي الناس به، وانقادوا له، فحينئذ يقال مجازًا: إنهم بايعوه إمامًا لهم، ولهذا فإن الفقهاء، والمتكلمين، عندما يتكلمون عن البيعة فإنهم لا يريدون صفق اليد، وإنما يعنون بها الرضا، والانقياد، وإظهار ذلك، ويصرحون بأنه لا يشترط المصافحة باليد لتحقق البيعة.

شروط صحة البيعة:

لكي تكون البيعة واقعة على الوجه الصحيح لا بد وأن تتوافر فيها بعض الشروط، وسنبين هذه الشروط، ذاكرين الخلاف إن وجد في أي شرط منها، وهذه هي:

الشرط الأول: أن تجتمع في المأخوذ له البيعة الشروط المطلوبة في رئيس الدولة، وهي التي بيناها فيما سبق، وعلى هذا فلا تنعقد الرياسة لواحد ممن فقد أي شرط من هذه الشروط، إلا في حال الضرورة، كحال الغلبة، والاستيلاء بالقوة على الحكم، وهو ما يعبر عنه في عصرنا الحالي بالانقلابات العسكرية،

ص: 532

فهذا طريق قد بين العلماء إمكان انعقاد الرياسة به، وكما إذا لم تكتمل الشروط المطلوبة في أحد ممن يصلحون لتولي هذا المنصب، فإنه يجوز حينئذ التنازل عن بعض هذه الشروط؛ نظرًا إلى حال الضرورة، فيولى الأفضل فالأفضل، حتى لا يخلو الزمان عن رئيس يقوم على حراسة الدين، وسياسة الدنيا.

الشرط الثاني: أن يكون الذين عقدوا البيعة للرئيس هم أهل الحل والعقد، فإذا عقدها غيرهم فلا تنعقد.

الشرط الثالث: أن يقبل الشخص الذين عقدوا الرياسة له، أن يقبل هذا المنصب، فإذا رفض فلا تنعقد رياسته، ولا يجبر عليها.

الشرط الرابع: الإشهاد على البيعة، وهذا هو شرط من الشروط الذي اختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن البيعة لا تحتاج إلى إشهاد، والقول الثاني: وجوب الإشهاد عليها، والقول الثالث: ينظر إلى عدد العاقدين، فإن كانوا جمعًا لم يشترط الإشهاد، وإن كان العاقد واحدًا اشترط ذلك.

الشرط الخامس: ألا يقارن هذا العقد عقدًا آخر، فلا يجوز أن تعقد الرياسة لأكثر من واحد.

وقبل أن نفصل الخلاف في هذا الشرط نرى أن نوضح أن تعدد العقد إما أن يكون بطريق الصدفة والاتفاق، أو يكون بغير طريق الصدفة والاتفاق، فالأول يحصل بأن تبادر مجموعات متعددة من أهل الحل والعقد بعقد البيعة لرئيس، على غير اتصال وتنسيق بين هذه المجموعات، فتبايع أحدى المجموعات رئيسًا مثلًا، وتبايع أخرى رئيسًا آخر، وهكذا لعدم علم كل منها بما فعلته كل مجموعة من المجموعات الأخرى، فتحدث مبايعات لمتعددين، كل واحد منهم

ص: 533

صالح للرياسة، فهنا يتعدد العقد مصادفة واتفاقًا، بدون أن يتعمد أهل الحل والعقد مبايعة أكثر من واحد.

والثاني: يحصل التعدد بأن يتعمد أهل الحل والعقد البيعة لأكثر من واحد.

وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح أن تعقد البيعة لأكثر من إمام واحد في القطر الواحد، سواء كان التعدد حاصلًا عن طريق الصدفة والاتفاق، أم كان عن غير ذلك.

وأما إذا كان التعدد في أقطار متعددة متباعدة فقد اختلف العلماء في هذا التعدد، هل يجوز، أو لا يجوز؟

فجمهور الفقهاء، والعلماء على منع التعدد، حتى ولو كانت الأقطار متباعدة، ويرى البعض -وهم قلة- جواز تعدد الأئمة في الأقطار المختلفة، ولكل واحد من هؤلاء أدلة أستند إليها.

أدلة الجمهور على منع التعدد:

استدل الجمهور على أنه لا يجوز تعدد الأئمة حتى ولو تباعدت الأقطار بأدلة منها:

أولًا: ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)) فإن هذا الحديث صريح في عدم مشروعية التعدد، وقتل الإمام الآخر يكون بعد مطالبته بعدم التمسك بالبيعة التي حصلت له، والخضوع للإمام الأول، فإن أبى فهو باغ يجب مقاتلته، فليس المراد بالحديث قتل الإمام الآخر بمجرد عقد بيعة أخرى له؛ لأنه يجوز عدم علمه بأن ثمة إمامًا آخر قد عُقدت له البيعة قبله.

ص: 534