الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القواعد التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة
وجاهد الرسول الكريم في مكة على أن يرسي القواعد التالية، وفق ما جاء به القرآن الكريم: أول قاعدة من هذه القواعد التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بإرسائها بعد نزول القرآن الكريم في مكة: الدعوة إلى وحدانية الله خالق كل شيء، واتخاذ هذه العقيدة الدينية الأساس لبناء مجتمعٍ جديد له نظمه وله مثله العليا، التي تقف على طرفي نقيض مع المجتمع القبلي وما سيطر عليه من نظم وتقاليد وليدة العصبية، وهي أمور صارت تعرف في المصطلح الإسلامي والدعوة الإسلامية، باسم: دعوى الجاهلية.
فالدعوة إلى وحدانية الله كانت المعول الذي انقض على الجمود الجاثم على الحياة القبلية، وكانت سبيلًا لإيقاظ الفكر وتحريره من الرقود المقترن بروح المحافظة التي تدعو إليها النظم القبلية، وأوضح القرآن الكريم أهمية هذه الدعوة الجديدة، وأن العرب لم تكن لهم بها معرفة من قبل، فقال تعالى:{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} (سبأ: 44) واقترنت الدعوة إلى وحدانية الله، بضرورة إعمال الفكر وعدم الجري والانقياد الأعمى بما تدعو إليه النظم القبلية من تمسكٍ بتراث الآباء والأجداد ولو كانوا على غير هدي، وندد القرآن الكريم بهذا الجمود في كثيرٍ من الآيات فقال تعالى:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} (الصافات: 69 - 71) وحث القرآن الكريم في نفس الوقت على التدبر والنظر وإعمال الفكر، وأن إثبات وجود الله ووحدانيته يظهر للإنسان بالنظر العقلي في آيات الخالق، من ترابط الوجود وقوانين الطبيعة، بل وفي تأمل الإنسان نفسه لما وهبه
الله من سمع وبصر وغير ذلك من أسباب الحياة؛ ولذلك يقول تبارك وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} .
القاعدة الثانية من القواعد التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسيها في مكة، من أجل القضاء على هذه النظم القبلية البالية هي: تقرير فكرة البعث والحساب بعد الموت، حيث ينال الإنسان إما جنة الخلد أو عذاب النار حسب ما قدمت يداه في الحياة الدنيا لذلك يقول الله تبارك وتعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} (المدثر: 38) ويقول تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: 39 - 40) ويقول تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس: 34 - 37).
فكما قلنا: هذه القاعدة تعني: تقرير فكرة البعث والحساب بعد الموت، حيث ينال الإنسان إما جنة الخلد أو عذاب النار، حسب ما قدمت يداه في الحياة الدنيا، واستهدفت هذه العقيدة الإطاحة بمفهومٍ بالٍ من مفاهيم الحياة القبلية، وإقرار مبدأ جديد للمجتمع الإسلامي الوليد، فمسئولية المرء في عقيدة البعث والحساب بعد الموت، مسئولية فردية حيث يجزى الإنسان بما كسبت يداه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} (الزلزلة: 7 - 8) وأوضحت آيات القرآن الكريم بجلاء هذه المسئولية الفردية، على أساس أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأنه يوم القيامة لا يسأل والد عن ولده، ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا، وأن كل إنسانٍ مسئول عن أعماله يوم القيامة.
ولذلك فهذه العقيدة هدمت دعوى الجاهلية القائمة على العصبية القبلية، والتي تقرر أن الفرد يؤخذ بجريرة غيره، على نحو ما تقرره عادة الثأر في القبيلة، وما اقترن بها من دعوة كل فرد من أفراد القبيلة إلى أن ينصر أخاه ظالمًا أم مظلومًا، وهذا معناه أن فكرة البعث والحساب تقرر المسئولية الفردية للإنسان، وأن كل إنسانٍ مسئول عن عمله {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر: 38) {وَأَنْ لَيْسَ
لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وهذا بخلاف ما كان عليه العمل في النظم القبلية في الجاهلية، فالمسئولية الفردية لم تكن معروفة، وإنما كانوا يأخذون الشخص بجريرة غيره وبذنب غيره، وذلك كما كان حادثًا بالنسبة للأخذ بالثأر.
فالإسلام يقرر أن القاتل يقتل، لكن هؤلاء إن لم يتمكنوا من قتل القاتل كانوا يقتلون أي فرد من أفراد عائلته، وهذا أمر يأباه الإسلام، وهدمه الإسلام بالعقيدة التي جاء بها وهي: المسئولية الفردية للشخص، والقرآن الكريم يصور يوم البعث والحساب تصويرًا يؤكد للإنسان أهمية المسئولية الفردية، وأن هول ذلك اليوم ينسي كل مرضعة ما أرضعت، وأن لكل امرئ يومئذٍ شأن يغنيه فيخرج لكل إنسانٍ يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا مكتوب فيه:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} (الإسراء: 14) وأيضًا {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس: 34 - 36){يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (الحج: 2).
وهكذا هدمت عقيدة البعث والحساب وما اقترن بها من المسئولة الفردية، هدمت رابطة العصبية القبلية القائمة على الدم، وأحلت مكانها مسئولية جديدة تجعل من الإنسان نواة لوحدة يمكن أن تتسع على أساسٍ من مراعاة الضمير وتقوى الله في السر والعلن، ونعني بها: الوحدة التي يقف الفرد فيها إلى جانب الآخر كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) ويقول صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)).
والقاعدة الثالثة من القواعد التي حاول وجاهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسيها في مكة هي: اتخاذ التقوى بدلًا من العصبية القبلية أساسًا لبناء قيمٍ أخلاقية سامية تتعدى مجالاتها حدود القبيلة، وتتسع في نفس الوقت لا لتشمل العرب فحسب بل وجميع الأمم المجاورة لهم أيضًا فالتقوى في الإسلام تقرر مقاييس أخلاقية جديدة، لبناء مجتمعٍ لا تسوده المقاييس القبلية الله تبارك وتعالى يقول:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: من الآية: 13) فإذن: الله تبارك وتعالى يبين في هذه الآية أن أساس التفاضل بين البشر إنما هو تقوى الله تبارك وتعالى والعمل الصالح، وأن التمايز عن طريق الجنس أو اللغة أو الدين أو غير ذلك كل ذلك أمور لا ينظر إليها الإسلام وإنما ينظر إلى التقوى فقط {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
والنبي صلى الله عليه وسلم أيضًا يبين أنه ليس لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى والعمل الصالح، ويقول صلى الله عليه وسلم:((الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى)) ولذلك شريعة الإسلام جاءت لتسوي بين الناس، وأنهم متساوون فيما بينهم أمام الله تبارك وتعالى لكن الذي يميز بين فردٍ وآخر إنما هو التقوى التي نص عليها الله تبارك وتعالى في الآية التي ذكرناها {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فالشعوب والقبائل في الإسلام ليست وحدات منعزلة، وإنما هي تكون مجتمعات يستوي الناس فيها أمام الإسلام بصرف النظر عن أصلهم وجنسهم، وأن الفارق بين الناس هو فارق أخلاقي، لا يقوم على أساس الوراثة، كما دعت إليه العصبية القبلية، وأن كل فردٍ ينال ما يشاء من رفعت لا على أساس الحسب والنسب والثراء، ولكن على قدر كسبه وبره وتقواه.
وبدأت التقوى في الإسلام وما حوته من مقاييس أخلاقية، تنظم العلاقات بين الناس على قواعد جديدة، وتخرجهم من ظلمات النظم القبلية التي بلغت
مساوئها حدًا قاتلًا في مجتمع مكة، فالنظم الإسلامية التي تقررها التقوى، تستنكر المادية المرزولة التي اقترنت بالنظام القبلي في مكة، حيث الناس قد ألهاهم التكاثر بجمع المال، وعده وحبه حبًا جمًا مع سلبٍ لمال اليتيم، وعدم الحض على طعام المسكين، وإغراق في الموبقات، وإساءة إلى العلاقات الاجتماعية بين الأهل، والميل مع الهوى في معاملة الناس اقتصاديًا وأدبيًا. هذا هو ما كان عليه الحال في الجاهلية الحال في الجاهلية كان قائمًا على حب المال حب الثروة، ظلم القوي للضعيف، لكن جاءت التقوى لتبين أن الناس سواسية، وأنه لا فضل لإنسانٍ على آخر إلا بالتقوى، وأنه ليس هناك تمايز على أساس الحسب والنسب والثراء.
وأخذ الرسول الكريم يتلو الآيات القرآنية التي تحرم التنظيمات القبلية البالية، والتي تقرر مبادئ التقوى لتنظيم المجتمع الجديد وسعادة أفراده ورفاهيتهم قال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: 151 - 152).
وأكد الإسلام في نفس الوقت أن التقوى ومبادئها لا تعني داء الواجبات السالفة تظاهرًا، وإنما الهدم منها مرضات الله تبارك وتعالى يعني: مطلوب من المسلم عندما يؤدي هذه الفروض التي فرضها الله عليه أن يؤديها خالصة لوجه الله تبارك وتعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة: من الآية: 5) لا بد من الإخلاص في
العمل لله تبارك وتعالى ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) ولذلك كما قلنا: أكد الإسلام في نفس الوقت أن التقوى ومبادئها لا تعني أداء الواجبات في الظاهر فقط، وإنما الهدف منها مرضاة الله؛ لأن الفرد سوف يحاسب على جميع ما يؤديه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
ونأتي إلى القاعدة الرابعة من القواعد التي حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسيها في تنظيمات الإسلامية في مكة، وهذه القاعدة تعني: التأكيد على وحدة الرسالات، وأنها تستمد تعاليمها جميعًا من نبعٍ واحد هو الله سبحانه وتعالى وذلك للقضاء على تعدد المعتقدات في الحياة القبلية، وما صاحب نظمها الدينية من وثنية وشركٍ وحيرة أيضًا بين أتباع المسيحية أو اليهودية، فأوضح القرآن الكريم أن الدعوة الإسلامية تصديق لما جاء في الكتب السماوية، ودعوة للعرب خاصة باتباع ملة أبيهم إبراهيم فقال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (الشورى: 13).
فإذن: وحدة الرسالات دعى إليها الإسلام لأن الرسالات كلها تدور على معنى واحد وهو توحيد الله تبارك وتعالى والإسلام هو أساس هذه الديانات جميعًا يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام} (آل عمران: من الآية: 19) ويقول أيضًا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) فإذن: الرسالات جميعها إنما جاءت لأمرٍ واحد وهو توحيد الله تبارك وتعالى هذا هو ما حث عليه الدين الجديد، وهذا كان مخالفًا لما كان معروفًا في النظم القبلية قبل بعثة
النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانت هناك تتعدد المعتقدات، من وثنية وعبادة أصنام، وغير ذلك، فجاء الإسلام وبين لهم أن أصل الرسالات واحد، وأن الدين عند الله الإسلام.
وخاطب القرآن الكريم العرب لا على أنهم من قحطان أو عدنان، يعني: ليس على أنهم قبائل عربية، وإنما تذكرهم الآيات القرآنية بملة أبيهم إبراهيم، فقال تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} (الحج: من الآية: 78) وصارت وحدت الرسالات هي السبيل الذي جهد الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يخرج به العرب من نطاق التشتت القبلي إلى نطاق الوحدة، التي يدعوهم إليها باعتباره خاتم النبيين، وأن الدين الإسلامي هو دين أبيهم إبراهيم، قال تعالى:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 162) ويقول تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 68).
تلك كانت هي القواعد التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم وعمل جاهدًا على أن يرسيها في مكة بالنسبة للتنظيمات الإسلامية، لكن هل أهل مكة وكفار مكة تركوا النبي صلى الله عليه وسلم هكذا، ليهدم هذه النظم القبلية التي كانوا يعيشون في ظلها، والتي كانوا يستفيدون منها؟ لا وقفوا للنبي صلى الله عليه وسلم فهناك مقاومة من النظم القبلية للتنظيمات الإسلامية التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسيها في مكة كما أوضحنا قبل ذلك، فقد سلك الرسول الكريم على هدي القرآن الكريم سبيل التدرج والتطور لنشر الدعوة الإسلامية، وإقرار التنظيمات الجديدة التي جاءت بها تلك الدعوة في مواجهة المقاومة الضارية التي واجهتها من النظام القبلي في مكة.
وحدد القرآن الكريم مراحل التطور من جهاد الرسول في مكة على النحو التالي: أولًا: أمر الله سبحانه وتعالى الرسول بأن يبدأ بعشيرته والمقربين له، وذلك في قوله تعالى:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) فالعشيرة بحكم قرابتها للرسول، تكون أكثر استعدادًا في نصرته عند توسيع نطاق دعوته إلى ما عداها من العشائر والقبائل، الثاني: أمر الله سبحانه وتعالى النبي بعد ذلك أن يبلغ رسالته لمكة وما حولها في قوله تعالى: {لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الأنعام: من الآية: 92) وتمثل هذه المرحلة انتقال الدعوة من العشيرة إلى قبيلة قريش صاحبة السيادة في مكة، ومعها خلفائها الضاربين خارج مكة نفسها.
ثالثًا: أمر الله سبحانه وتعالى الرسول بأن يوضح للناس أن دعوته والتدرج في نشرها لا تعني أنها محدودة بقريش والقبائل العربية وإنما هي دعوة للبشرية كافة، وأن جميع ما جاءت به تلك الدعوة من عقائد ونظم تتضح أهميتها الكبرى في قوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين} (يوسف: من الآية: 104) وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: من الآية: 28) فالدعوة هي دعوة عالمية للناس جميعًا، ولا غرابة في ذلك لأنها آخر الدعوات والرسول صلى الله عليه وسلم آخر الرسل، ولذلك كانت دعوة للناس جميعًا، إنما بعثت للناس كافة، كما يبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم واستجاب نفر من عشيرة الرسول الأقربين للدعوة الإسلامية، ولكنها كانت استجابة فردية رائدها الإيمان الصادق بما جاء به القرآن الكريم، وليس للعصبية دخل فيها، يعني: هؤلاء النفر الذين آمنوا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم من عشيرته، لم يؤمنوا بدعوته صلى الله عليه وسلم بسبب العصبية وأنه من عشيرتهم، ولكن بسبب اقتناعهم بهذه الدعوة كما وضحها القرآن الكريم.
لقد أفاد الرسول الكريم من عشيرته حين وقف عمه أبو طالب إلى جانبه في تلك الأيام الأولى من الدعوة الإسلامية، ولكن الرسول الكريم لم يشأ في نفس الوقت أن يعتمد اعتمادًا كليًا على عشيرته، أو يحد نفسه بها؛ لأن ذلك لا يتفق ودعوته التي تهدف إلى هدم العصبية القبلية بكافة أنواعها، ثم إن عصبية العشيرة نفسها تصدت للرسول تصديًا أعمى وأخذت تنزل به أشد الأذى، وذلك على نحو ما قام به عم للنبي نفسه اسمه: أبو لهب وزوجته، وقد نزل في هذا المشرك المتعصب قوله تعالى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} (المسد: 1: 5).
هذا معناه: أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لم تقم على العصبية بدليل أن أقرب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم وهو عمه وقف له بالمرصاد وحاربه، ولذلك عندما تنشط هذه الدعوة وتغزو العالم فليس معنى ذلك أنها دعوة للعصبية والقبلية، وإنما هي دعوة للناس جميعًا، والناس عندما يدخلون في هذه الدعوة لا يدخلونها من باب العصبية والقبلية، وإنما من باب ما جاءت به الدعوة من أدلة على أنها الدعوة الصحيحة، التي يجب أن يدخل فيها الناس جميعًا.
واندلعت نار العصبية من العشيرة إلى قبيلة قريشٍ حين نجحت الدعوة الإسلامية في تحدي النظم القبلية، وزاد عدد المعتنقين الأول للإسلام وقاد الملأ -وهم: أرستقراطية قريش من شيوخ العشائر، والبطون- قادوا هذه الحركة ضد النبي صلى الله عليه وسلم قادوا حركة المقاومة للرسول حينما لمسوا خطورة تنظيم أتباعه، على نظامهم القبلي وكيانهم الشخصي القائم على تقاليد هذا النظام.
إذن: عندما وجدوا أن هذه الدعوة سوف تنال من الأنظمة القبلية التي كانوا يسيرون عليها قبل الدعوة وجدوا في ذلك خطورة، ولذلك وقفوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالمرصاد، من أجل محاربته ومن أجل المحافظة على هذا النظام القبلي الذي كان يقرر مصلحة لهم، ولذلك أعلن رجال الملأ استنكارهم أولًا لما جاء به الرسول الكريم، ووصفوه بأنه غريب على تقاليدهم القبلية، وقالوا عنه على نحو ما ذكر القرآن الكريم:{وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} (القصص: 36) وكذلك {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} (ص: 7).
ودفعت العصبية القبلية ملأ قريش -يعني: رؤساء قريش- إلى الانتقال بعد ذلك من مجرد الاستنكار إلى مقاومة الرسول ماديًا ومعنويًا، حين تبين لهم أن دعوته برغم أنها بدأت دينية إلا أن تعاليمها أخذت تخلط بين أتباعها نظمًا جديدة تهدد وحدة النظام القبلي، وتقاليده، فأتباع الدين الجديد انفصلوا عن عشائرهم وقبائلهم، وتخلوا عن عصبيتهم القبلية وروابطها، وكونوا مجموعة لها روابط جديدة، ومثلًا وقيمًا جديدة وأشار القرآن الكريم إلى طبائع هذا الصراع داخل الأسرة الواحدة التي أسلم نفر منها دون الآخر فقال تعالى:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أَخْرُجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (الأحقاف: 17).
ثم رسم القرآن الكريم معالم التنظيم الخاص لهذه الظاهرة المبكرة في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8) ورأى الملأ من قريش أن مجتمع مكة انقسم شقين: مجتمع تهيأ له نظمه الاتساع والنشاط ويضم المؤمنين بالإسلام، ومجتمع جامد آخذ في الانهيار وهو المجتمع القبلي الذي
يتولى الملأ رئاسته في مكة، وبات الموقف يتطلب من الملأ سرعة العمل ضد الرسول، الذي هددت تعاليمه ومقاييسه الجديدة هددت سلطان الملأ نفسه، ومكانة قبيلة قريش ليس في داخل مكة بل وفي خارجها كذلك، فالدعوة الإسلامية وما نادت به من نظمٍ جديدة قائمة على التقوى كأساسٍ للتفاضل الاجتماعي بدلًا من النظم القبلية القائمة على العصبية والثراء، أخذت تكون طلائع جديدة للرئاسة العامة، ليس للملأ وشيوخ العشائر فيها نصيب، وزاد في خوف الملأ من طلائع هذه الرئاسة الجديدة أن شئونها العليا آلت بحكم النظم الإسلامية للرسول نفسه، حيث نادت الآيات القرآن بطاعة الله وطاعة الرسول.
وعبر الملأ عن خوفه من طلائع هذا النظام الإسلامي الجديد؛ لاختلافه عن القواعد التي قررها النظام القبلي للرئاسة على نحو ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف: 31) وأشار القرآن الكريم أيضًا إلى حقيقة الأسباب التي خاف من أجلها الملأ على مكانته في مكة في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (سبأ: 34 - 37)
وأخيرًا وجد الملأ ذريعة لتعبئة صفوف عامة قريش وعشائرها تحت لوائه، حين هاجمت التعاليم الإسلامية وثنية قريش وآلهة المشركين، إذ رأى الملك أن سيادة الدعوة الإسلامية الجديدة تعني: زوال سيادة قريش القائمة على صيانة أصنام
القبائل في الكعبة، وصرف تجار تلك القبائل وأهلها عن بيتهم العتيق، وأشار القرآن الكريم إلى الصراع الذي دار بين الملأ وبين الرسول حول هذا الأمر في قوله تعالى:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَاّ قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (القصص: 57 - 58)
ودار الصراع بين الملأ والرسول الكريم على مراحل كشفت نتائج كلٍ منها عن أن النظام القبلي قد فقد سطوته وأن ما أظهره من مقاومةٍ إن هي إلا صحوة الموت، على حين أن النظم الإسلامية تحمل من الفتوة من السمو ما يبشر بطلائع مجتمع عالميٍ جديد، ولذلك كتب الله تبارك وتعالى النصر لهذه الدعوة، وهكذا استطاعت التعاليم الإسلامية أن تحقق لصمود أتباعها أمام ملأ قريش مبدءًا جديدًا وهو أن واجب الفرد لم يعد يقتصر على قبيلته، وإنما صار يشمل المؤمنين بالدعوة الإسلامية على اختلاف الأصول القبلية التي ينتمون إليها، وبدأ هذا المفهوم الجديد يهز الحياة القبلية كلها برغم صلف قريش وضراوة الملأ فيها للدفاع عن بقاء تلك الحياة القبلية، ولم يعد أمام الرسول الكريم في نفس الوقت من سبيل سوى نقل هذا المفهوم والدعوة التي استند إليها هذا المفهوم إلى ميدان جديد، أشبه بالشكل من النبات الذي لا بد من غرسه في أرض جديدة تكون أكثر ملائمة لنموه وازدهاره، إذ اتضح للرسول الكريم أن بيئة مكة قد أصبحت بعناد ملأ قريش له معقلًا للنظم القبلية وعصبيتها الجاهلية، وأنه لا بد من البحث عن تربة جديدة غير تربة قريش، ولذلك اختار النبي صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.