المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌اعتبار المصالح المرسلة دليلا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية - السياسة الشرعية - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها

- ‌ مفهوم السياسة الشرعية

- ‌شروط العمل بأحكام السياسة الشرعية

- ‌موضوعات علم السياسة الشرعية

- ‌مراعاة الشريعة أحوال الناس فيما شرعته من أحكام

- ‌اعتبار المصالح المرسلة دليلًا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية

- ‌الدرس: 2 مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة والمدينة

- ‌خبرة النبي عليه الصلاة والسلام بتنظيم الحياة القبلية قبل البعثة

- ‌القواعد التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة

- ‌أهم المعالم للنظم الانتقالية التي وضعها النبي في المدينة

- ‌النظم الأساسية التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌تابع: النظم التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌الدرس: 3 النظام المالي للدولة الإسلامية

- ‌الزكاة من أهم الموارد المالية في عهد النبي

- ‌أهم الموارد المالية في عهد النبي: الغنائم، الفيء، الجزية

- ‌النظام المالي في عهد أبي بكر الصديق

- ‌تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌النظام المالي في عهد عثمان بن عفان

- ‌النظام المالي في عهد علي بن أبي طالب

- ‌المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌تابع: المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌موقف عمر بن عبد العزيز من الأخطاء المالية في عهد الأمويين

- ‌الدرس: 4 العمومية المعنوية والمادية للزكاة

- ‌المقصود بالشخص الطبيعي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء بالنسبة للزكاة في مال الصبي والمجنون

- ‌الخلطة في الأنعام كمثال للشخص المعنوي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء من تأثير الخلطة في الزكاة

- ‌حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌تابع: حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌تابع: الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌الدرس: 5 بقية أنواع الزكوات والعوامل التي تساعد على تحقيق العمومية فيها

- ‌الزكاة في الذهب والفضة

- ‌الزكاة في الحلي المباح والمحرم، وآراء الفقهاء

- ‌ما تجب فيه الزكاة من الحرث

- ‌زكاة عُرُوض التجارة، والرِّكاز، والمعدن، وما يستخرج من البحر

- ‌زكاة الأموال التي جدت في هذه العصور

- ‌تجنب الازدواج في أداء الزكاة، وتجنب الراجعية في الزكاة

- ‌محاربة التهرب من أداء الزكاة

- ‌الدرس: 6 الجزية والخراج والعشور

- ‌العمومية في الجزية

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الجزية

- ‌مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تابع: مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تاريخ الخراج، والعمومية فيه

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج

- ‌مراعات ظروف الممول في الخراج

- ‌من الموارد المالية للدولة الإسلامية: العشور

- ‌الدرس: 7 النظام السياسي الإسلامي

- ‌مصطلح السياسة منذ بداية الدولة الإسلامية

- ‌مرتكزات السياسة في الإسلام

- ‌مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي: أولا القرآن الكريم

- ‌السنة

- ‌حجيه السنة بجميع أنواعها

- ‌الإجماع

- ‌القياس

- ‌الاستحسان

- ‌المصالح المرسلة

- ‌العرف

- ‌الدرس: 8 قواعد النظام السياسي الإسلامي

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: أولا: الحاكمية لله

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: ثانيا: الشورى

- ‌تابع: أدلة الشورى

- ‌تحديد أهل الشورى والشروط الواجب توافرها فيها

- ‌كيفية إعمال واجب الشورى، وطريقة اختيار أهل الشورى

- ‌مدى الالتزام برأي أهل الشورى، وبيان آراء الفقهاء في ذلك

- ‌أهل الشورى، والشروط اللازم توافرها فيهم

- ‌الدرس: 9 قواعد أخرى للنظام الإسلامي وهي العدالة، مسئولية الحكام، الحقوق والحريات، سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌ العدالة

- ‌صور العدالة في القرآن

- ‌مسئولية الحكام

- ‌تابع: قواعد النظام السياسي في الإسلام: "مسئولية الحكام

- ‌مقدمة عن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي

- ‌ الحريات الشخصية

- ‌الحرية الفكرية

- ‌تابع: الحقوق والحريات الفردية في النظام الإسلامي: حرية التجمع

- ‌الحريات الاقتصادية

- ‌الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي

- ‌سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌الدرس: 10 الإمامة

- ‌مسئولية الحاكم أمام الأمة الإسلامية "مشروعية المسئولية

- ‌ الحكم عند العرب قبل الإسلام

- ‌الإمامة مبحث فقهي

- ‌معاني: الخلافة، وأمير المؤمنين، والإمام

- ‌معنى الإمامة العظمى

- ‌حكم نصب الإمام

- ‌القائلون بعدم وجوب تنصيب الإمام في كل حالٍ أو حالٍ دون حالٍ

- ‌الدرس: 11 شروط الإمامة العظمى

- ‌شروط الإمامة العظمى

- ‌العدالة

- ‌صحة الرأي في السياسة، والإدارة، والحرب

- ‌الكفاية الجسمية، والكفاية النفسية

- ‌شرط القرشية، وتولية الأفضل

- ‌الدرس: 12 طرق انعقاد الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه وأسباب انتهاء ولايته

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق العهد من الإمام الحالي

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق القهر والغلبة

- ‌انعقاد الإمامة بطريق النص

- ‌واجبات الإمام

- ‌حقوق الإمام

- ‌ تابع حقوق الإمام

- ‌انتهاء ولاية الإمام

- ‌الدرس: 13 توجيهات الفكر الإداري الإسلامي

- ‌العمل فريضة إسلامية

- ‌خصائص العمل في الإسلام

- ‌طبيعة تكوين المنظمة

- ‌تابع طبيعة تكوين المنظمة

- ‌الرقابة ومتابعة الإنجاز

- ‌العلاقات الإنسانية في العمل الجماعي

- ‌وجود علاقة عامة بين أفراد المنظمة

- ‌التوظيف حسب الجدارة

- ‌وجود قيادة سوية

- ‌الدرس: 14 المنهج الإداري في الإسلام

- ‌مقدمة عن المنهج الإسلامي الإداري

- ‌ التخطيط لنشر الدعوة

- ‌التخطيط للهجرة

- ‌تخطيط الحياة في المدينة بعد الهجرة

- ‌المنهج الإسلامي في التنظيم

- ‌المنهج الإسلامي في الرقابة

- ‌الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الإدارة في عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌موقف عمر من الأنظمة الإدارية في البلاد المفتوحة

- ‌الدواوين التي أنشاها عمر بن الخطاب

- ‌التجنيد الإجباري، ونشأة بيت المال

- ‌ رقابة عمر بن الخطاب لعماله

- ‌الإدارة عند الأمويين

- ‌الدرس: 15 أحكام وأنواع الوزارات وعلاقة المسلمين مع غيرهم والمعاهدات

- ‌مقدمة عن الوزارة في الدولة الإسلامية

- ‌وزارة التفويض

- ‌وزارة التنفيذ

- ‌مقارنة بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ

- ‌الإمارة على الأقاليم

- ‌ أنواع الإمارة على الأقاليم

- ‌الأسس التي قامت عليها علاقة المسلمين بغيرهم

- ‌حرية العقيدة

- ‌العدل

- ‌الوفاء بالعهد

- ‌الفضيلة

- ‌التسامح

- ‌الرحمة

- ‌أساس العلاقة بين المسلمين، وغيرهم: السلم

- ‌أحكام الدارين

- ‌مقدمة عن المعاهدات في الإسلام

- ‌أنواع المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌الدرس: 16 القضاء ووسائل التثبت والإثبات في النظام الإسلامي

- ‌ مشروعية القضاء وأهميته

- ‌تاريخ القضاء في الإسلام

- ‌أركان القضاء

- ‌الدعوى وشروطها

- ‌ الدعوى:

- ‌تعارض الدعويين مع تعارض البينتين

- ‌وسائل الإثبات

- ‌ التثبت من وسائل الإثبات

- ‌الحكم

- ‌القضاء في المملكة العربية السعودية

الفصل: ‌اعتبار المصالح المرسلة دليلا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية

والسنة؟

كما قلنا- لأن هذه الأمور تتغير، وتتبدل من زمن إلى زمن، ومن حال إلى حال؛ لذلك كان أنسب شيء أن يقوم بتنظيمها، وتفصيلها، وتطبيقها علم السياسة الشرعية، وهذا معناه أن الشريعة الإسلامية إنما هي صالحة للتطبيق في كل زمانٍ، وفي كل مكان، وهي صالحة لإيجاد الحلول للمشكلات التي تستجد، والوقائع التي تستجد، ومن الذي يفعل ذلك، وفي إمكانه ذلك، إنما هو علم السياسة الشرعية.

‌اعتبار المصالح المرسلة دليلًا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية

ومن الأدلة أيضًًا على اعتبار السياسة الشرعية المصالح المرسلة -يعني: عندنا من ضمن الأمور التي تحدث فيها الفقهاء في علم أصول الفقه، وهو المصالح المرسلة، والمصالح المرسلة إنما هي ضمن الأدلة المختلف فيها بين الفقهاء: هل هي دليل من أدلة الأحكام، أم ليست بدليل من أدلة الأحكام؟

لأنه لما نبحث في أصول الفقه عندنا هناك أدلة متفق عليه وهي: الكتاب، وهي السنة، والإجماع، والقياس، هذه أدلة متفق فيها بين الفقهاء، لكن هناك أدلة مختلف فيها كثيرة للغاية، منها: الاستحسان، منها الاستصحاب، منها شرع من قبلنا، إلى غير ذلك من الأمور، ومنها أيضًًا: المصالح المرسلة.

فعلاقة المصالح المرسلة بالسياسة الشرعية علاقة وثيقة، تظهر فيما نقوله الآن: فالمصالح المرسلة هي التي لم يقم دليل من الشرع على اعتبارها، أو إلغائها. المصالح المرسلة معناها: إننا -واقعة معينة- لم نجد هناك نص من الكتاب على اعتبار هذه الأشياء، أو عدم اعتبارها؛ لم يوجد نص لا في كتابٍ، ولا في سنة يدلنا على عدم اعتبار هذه المصلحة، أو عدم اعتباره؛ ولذلك سمية المصلحة مرسلة؛ لأنها مطلقة عن دليل، لماذا سميت المصلحة مصلحة مرسلة؟ قالوا: لأنها مطلقة عن دليل اعتبارها، أو إلغاءها -يعني: لا يوجد دليل يدل على أنها معتبرة شرعًًا، ولا يوجد دليل على أنها ملغاة شرعًًا، وعلى هذا: فإن المصلحة المرسلة لا تتحقق إلا في الوقائع التي سكت عنها الشارع، وليس لها أصل معين يمكن أن تقاس عليه، ويتحقق فيها معنى مناسب، والمعنى المناسب: هو ما يجلب للإنسان نفعًًا، أو يدفع عنه ضررًا.

ص: 32

أقول: ويتحقق فيها معنى مناسب يصلح أن يكون مناطًًا لحكم شرعي، ووفقًا للرأي الراجح فإن المصالح المرسلة تعتبر مصدرًا من مصادر التشريع -كما قلنا- هذه المصالح المرسلة من الأدلة الشرعية المختلف فيها، بعض الفقهاء لا يأخذ بهذه المصالح المرسلة، ولا يعتبرها دليلًا من أدلة الأحكام، وبعض الفقهاء أخذ بهذه المصالح المرسلة، واعتبرها أدلة من أدلة الشرع.

الذين قالوا بأنها أدلة من أدلة الشرع، واعتبروا هذه المصالح المرسلة إنما هم في الحقيقة يطبقون مبدأ السياسة الشرعية؛ لأن السياسة توجد حيث توجد المصلحة، فإذا كانت هناك مصلحة للمسلمين؛ وجدت السياسة الشرعية، وأخذ بأحكام هذه السياسة الشرعية، نقول: وفقًًا للرأي الراجح؛ فإن المصالح المرسلة تعتبر مصدرًا من مصادر التشريع، إذ المتتبع لفقه الأئمة يجدهم يأخذون بالمصلحة المرسلة باعتبارها طريقًا من طرق الاستدلال بالنصوص، ولا يرفض الأخذ بهذه الطريقة أحد، إلا أنهم يطلقون عليها أسماء أخرى غير الاستدلال المرسل، أو المصلحة المرسلة -يعني: إذًن المسألة خلافية بين الفقهاء -كما قلنا- البعض يأخذ بهذه المصالح المرسلة، والبعض لا يأخذ بها.

ومن ناحية أخرى فإن أحدًًا منهم -يعني من الفقهاء- لا يترك النصوص الشرعية بالمصلحة، وإنما تطبق قواعد الترجيح بين الأدلة على تعارض المصلحة مع نصٍ شرعي -يعني: خلاصة القول في هذا: أن هذه المصالح -التي لم يقم دليل من الشرع على اعتبارها، أو لم يكن هناك دليل على إلغائها- أقول: لا ينظر باتفاق الفقهاء إلى هذه المصلحة إذا كان هناك نص شرعي يخالفها؛ لأنه إذ وجد نص شرعي يخالفها.

معنى ذلك: أنها مصالح ملغاة، مصالح ليست معتبرة شرعًًا؛ ولذلك هناك خلاف في المصالح المرسلة عندما لا يوجد نص يدل على إلغاءها؛ ولذلك إذا

ص: 33

كانت هذه المصلحة تتعارض مع نصٍ شرعي من الكتاب، أو من السنة، أو من الإجماع ففي هذه الحالة لا يطلق عليها مصلحة، بل هي مصلحة ملغاة -يعني: لا يعتد بها شرعًًا؛ ولذلك كانت المصلحة التي يحتج بها الفقهاء، أو هؤلاء الأئمة الذين، قالوا: بالأخذ بها، قالوا: هي المصلحة الملائمة -يعني: التي تشهد لها النصوص في الجملة- أو بمعنى آخر لا تتعارض مع القواعد العامة، والمبادئ العامة للفقه الإسلامي، لا بد وأن تكون هذه المصلحة -الذين قالوا بالأخذ بهذه المصلحة اشترطوا أن تشهد لها النصوص في الجملة- بمعنى أن لا تتعارض مع أحكام الشرعية الإسلامية؛ ولذلك وضعوا لها شروطًا فما هي شروط هذه المصلحة؛ حتى نأخذ بها؟

قالوا: يشترط في المصلحة المعتبرة مصدرًا من مصادر التشريع ما يلي:

الشرط الأول: أن لا تتعارض مع حكمٍ ثابتٍ بالنص، أو الإجماع؛ لأنه إذا تحقق التعارض ففي هذه الحالة يعتبر من قبيل المصالح الملغاة. يعني: التي ألغاها الشارع، مثال ذلك: إيجاب صوم شهرين في كفارة الجماع في نهار رمضان على مالك الرقبة؛ فإن كونه مالكًا لا يزجره إيجاب الإعتاق عن الإفطار؛ لسهولة ذلك عليه مناسب -يعني: إيجاب صيام شهرين لكفارة الجماع دون الرقبة، قال: هو مناسب لإيجاب الصوم عليه مبالغة في زجره عن قضاء شهوة فرجه حرمة للصوم -يعني: هذه من المصالح الملغاة- يعني: إنسان غني عنده الرقبة- يعني: عبيده -هم ليسوا موجودين الآن- فكان من ضمن الكفارات في الفقه الإسلامي كان الإنسان مثلًا الذي جامع زوجته في نهار رمضان، قالوا: عليه القضاء، وعليه الكفارة، الكفارة ماذا تعني؟ قالوا: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكينًا، فمعنى ذلك: بدأ بماذا؟ بدأ بإعتاق رقبة.

بعض الفقهاء يقول، أو بعض الذين نظروا في المصالح يقولون: الأفضل لهذا الإنسان الغني الذي عنده عبيده، كل ما نطلبه منه الذي جامع زوجته في نهار

ص: 34

رمضان؛ ولذلك خالف قول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: من الآية: 185) عقابًًا له، قالوا: يقضي اليوم، ثم بعد ذلك عليه كفارة.

ما هي الكفارة؟ القرآن نص على أن الكفارة تبدأ أولًا -الكفارة هنا مرتبة- يعني: نبدأ بالعتق -عتق رقبة- بعض الفقهاء نظر إلى هذا الأمر، وقال: لو أوجبنا عليه عتق رقبة؛ فلن يتأثر من ذلك، هو إنسان غني، وإنسان ثري، ويملك رقابًًا من العبيد، عندما نقول له: اعتق رقبة، هذا أمر هين للغاية -بالنسبة له- فما أكثر العبيد عنده، وبذلك هو لم يتأثر بهذا الحكم، أو بهذه العقوبة؛ ولذلك البعض من الفقهاء قال ماذا؟ قال: نفرض عليه صيام شهرين -يعني: بدل أن يعتق رقبة- لا، نقول له: يجب عليك صيام شهرين، لماذا؟ قالوا: لأن صيام الشهرين في هذه الحالة سوف يترتب عليه العقوبة، هو أن يحس بالعقوبة؛ ولذلك لن يعود إلى ذلك مرة أخرى.

لكن الرأي طبعًًا -رأي كل الفقهاء- وقفوا إلى هذا وقالوا: إذن هؤلاء الذين أرادوا من هذا الشخص الغني الذي يملك الرقاب أرادوا منه أن يصوم شهرين بدل أن يعتق رقبة، قالوا: بأن المصلحة تقتضي ذلك؛ لأنه انتهك حرمة الصوم، والمصلحة تقتضي أن نفرض عليه صيام شهرين، وليس عتق رقبة؛ لأن الذي يؤثر عليه ويكون عقابًًا ناجعًا بالنسبة له هو أن نفرض عليه صيام شهرين، وليس عتق رقبة.

ولكن يرد على ذلك، نقول لهم: هذه المصلحة التي نظرتم إليها هي ملغاة ملغاة لماذا، قالوا: لأنها خالفت نصًًا من نصوص الكتاب؛ فالقرآن الكريم يبين أن الإنسان الذي جامع زوجته في نهار رمضان عليه القضاء، والكفارة، والكفارة تبدأ -كما قلنا- هي مرتبة، تبدأ بعتق رقبة، فإذن القرآن يقول لنا: نبدأ بعتق رقبة، وأنتم تقولون: إن المصلحة تقتضي أن يقال، أو يعاقب بصيام شهرين متتابعين، أو قولكم صيام شهرين بدل عتق رقبة.

ص: 35

إذن هذه المصلحة التي نظرتم إليها إنما هي مصلحة ملغاة، لا يعتد بها إطلاقًًا، ونحن نشترط في المصلحة أن لا تكون مخالفة لنص من نصوص الكتاب، أو السنة.

هذا هو الشرط الأول؛ لكي يعمل بهذه المصلحة، قلنا: ملغى شرعًًا؛ لأن الخصال مرتبة -كما قلنا- وهي العتق، ثم الصوم، ثم الإطعام.

أيضًًا بالنسبة لشروط إعمال هذه المصلحة المرسلة: أن تندرج المصلحة في مقاصد الشريعة -يعني: إذا أردنا أن نعتبر هذه المصلحة المرسلة، أو الذين قالوا بها، قالوا: من شروطها -كما قلنا- أن لا تتعارض مع حكم ثبت بالنص، أو الإجماع.

الشرط الثاني لإعمال هذه المصلحة: أن تندرج المصلحة في مقاصد الشريعة، ومقاصد الشريعة هي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. الشريعة جاءت من أجل المحافظة على الضروريات الخمس، أو على الكليات الخمس، هذه الأمور الخمس، أو الكليات الخمس هي: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ العرض، حفظ المال، وبالمناسبة: كل الشرائع جاءت من أجل المحافظة على هذه الكليات الخمسة، فالمصلحة لن تعتبر، ولن تكون معتبرة، ولن يعتد بها -عند القائلين بها- إلا إذا دارت في خلال هذه الكليات الخمس، أو كان يراد منها حفظ كلية من هذه الكليات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال.

فكل مصلحة كانت دائرة في فلك هذه الشريعة -يعني: تدور حول حفظ هذه الأمور الخمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال -كلها- مصلحة كانت دائرة في فلك هذه الشريعة؛ فهي مصلحة معتبرة شرعًًا، وكل مصلحة ليس عليها دليل إلا العقل؛ فهي مرفوضة شرعًًا.

وبمعنى آخر: ينبغي أن تكون المصلحة ضرورية، قطعية، كلية، والضرورية هي التي تكون من إحدى الضروريات الخمس -كما قلنا- وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض -يعني: إذا لم يكن يراد منها واحد من هذه الأمور الخمسة، أو كان يراد منها شيء غير المحافظة على واحدٍ من هذه الأمور الخمسة؛ فلا يعتد بها، ويشترط أيضًًا أن تكون قطعية، والقطعية هي التي يجزم بحصول المصلحة فيها، وأما الكلية فهي التي تكون موجبة لفائدة.

نعطي مثالًا لذلك -لكي تعتبر هذه المصلحة أن تندرج المصلحة في مقاصد الشريعة، وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال-: إذا تترّس الكفار الصائلين بأسرى

ص: 36

المسلمين -يعني: أخذوا المسلمين الأسرى الذين هم عندهم، وجاءوا إلى بلادنا من أجل أن يغزونا، أو يقتلونا، تترس الكفار الصائلين -يعني: وضعوا الأسرى المسلمين في مقدمة الجيش، بحيث: لو ضربهم المسلمون؛ لضربوا هؤلاء الأسرى المسلمين، هذا هو نظام التترس- إذا تترس الكفار الصائلين يعني: المغيرين عليه بأسرى المسلمين، يعني: وضعوا أسرى المسلمين في مقدمة الجيش، وقطعنا بأنهم إن لم نرميهم ونقاتلهم؛ استأصلوا المسلمين المتترسين بهم، وغيرهم، بمعنى: أننا لو امتنعنا عن التترس؛ لصدمونا واستولوا على ديارنا، وقتلوا المسلمين كافة، حتى التترس -يعني: حتى الأسرى الموجودين معهم، والذين تترسوا بهم- ولو رمينا التترس؛ لقتلنا مسلمًا من غير ذنبٍ صدر منه.

فإن قتل التترس -والحالة هذه مصلحة- مرسلة؛ لكونه لم يعهد -في الشرع- جواز قتل مسلم بلا ذنب، ولم يقم أيضًًا دليل على عدم جواز قتله عند اشتماله على مصلحة عامة للمسلمين، لكنها مصلحة ضرورية قطعية كلية؛ فلذلك يصح اعتباره، أي: يجوز أن يؤدي اجتهاد مجتهدٍ إلى أن يقول: هذا الأسير مقتول بكل حال؛ فحفظ كل المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع من حفظ مسلمٍ واحد، معنى تلك المصلحة -يعني: إذا تترس هؤلاء الكفار بالمسلمين -الأسرى الموجودين عندهم- وهم يفعلون ذلك؛ لأنهم يعلمون أن المسلمين لن يقتلوا المسلمين مثلهم؛ ففي هذه الحالة ماذا نفعل؟ هل لا نضرب الكفار خوفًًا على المسلمين الذين تترسوا بهم، وفي هذه الحالة إذا لم نضربهم؛ فإنهم سوف يستولون علينا ويقتلوننا، ويقتلون أيضًًا الذين تترسوا بهم؟ ما هو الحل في هذه الحال؟ يعني: هل نحافظ على حياة التترس من المسلمين، وهي مصلحة خاصة، أم أننا ننظر إلى المصلحة العامة للمسلمين جميعًا، قالوا: والله المصلحة تقتضي -في هذه الحالة- أن نضحي بهذا التترس، أو بهذا الجزء من المسلمين، أو الأسير من المسلمين -الذي هو معهم- نضحي به من أجل ماذا؟ من أجل المصلحة العامة.

وهذا له ما يؤيده في القواعد الفقهية؛ ولذلك نقول: والله- الضرر الخاص يتحمل من أجل دفع الضرر العام، وهذا معناه: أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة -يعني: إذا تعارضت مفسدتان؛ روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما، هذه هي القواعد الفقهية.

فالقواعد الفقهية لا بد أن ننظمها، أو أن نطبقها في هذه الحالة، نقول: إذا قتلنا الكفار مع التترس -المسلم معهم- في هذه الحالة هناك فيه ضرر خاص بالنسبة لهذا

ص: 37

المسلم الذي قتلناه، والذي تترس به الكفار، ولكن حققنا مصلحة عامة، وهي المحافظة على بقية المسلمين، والمحافظة على الدولة الإسلامية؛ ولذلك نضحي بهذه المصلحة الخاصة، المصلحة الخاصة المتمثلة بالنسبة للحفاظ على حياة التترس من أجل المصلحة العامة، وهي المحافظة على بقية المسلمين، والمحافظة على دولة المسلمين، وهذا -كما قلنا- ما تؤيده القواعد الفقهية المعروفة، وهو أنه: قاعدة فقهية تقول: إذا تعارضت مفسدتان؛ روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما.

وأيضًا المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، هذه هي أهم الشروط التي قالها الفقهاء، لكن الحقيقة الإمام مالك توسع في هذا الأمر، وقال: ليس بلازم أن تكون المصلحة كلية ضرورية قطعية، يقول: المهم توجد مصلحة؛ فإذا وجدت هذه المصلحة العامة؛ ففي هذه الحالة تقدم على المصلحة الخاصة، ولما كانت الشريعة الإسلامية تجعل المصلحة المرسلة مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي -كما قلنا- لأن هناك بعض الفقهاء -يقولون بأن المصلحة المرسلة إنما هي تصلح دليلًا في التشريع الإسلامي، نقول: لما كانت الشريعة الإسلامية تجعل المصلحة المرسلة مصدرًا من مصادر التشريع الإسلام؛ فإن هذا معناه أن هذه المصلحة يمكن أن تغطي الوقائع المتجددة، والمصالح غير المتناهية، وهو ما تقصر عنه النصوص؛ لأنها متناهية، والمتناهي لا يفي بغير المتناهي.

والمصلحة المرسلة يمكن أن تواجه ما يستجد على الأمة من وقائع، ونوازل -يعني معنى هذا: أن المصلحة المرسلة التي قال الفقهاء بها، والتي رجحناها بهذه الشروط التي قالها الفقهاء، نقول: الأخذ بهذه المصالح المرسلة معناها: فعلًا سوف يترتب عليه أمور، هذه الأمور هي: أن كل الوقائع والحوادث التي تستجد في حياة المسلمين ننظر إليها بمنظار المصلحة للمسلمين، فإذا كانت هذه الوقائع فيها مصلحة للمسلمين علينا أن نعطيها الحكم الذي يحقق المصلحة للمسلمين عامة -يعني: لا ننظر إلى

ص: 38

المصالح الخاصة، وإنما ننظر إلى المصالح العامة- فالحقيقة الوقائع، وأحداث الناس متجددة، وغير متناهية، لكن عندنا الكتاب، وعندنا السنة نصوص، نصوص الكتاب، ونصوص السنة متناهية، محصورة، لكن الوقائع، والنوازل التي تستجد، وتوجد كل يومٍ هذه غير متناهية، كل يوم تستجد أشياء جديدة.

على سبيل المثال القرآن، والسنة لم يضعا حكمًًا لموضوع عملية نقل الأعضاء -نقل الأعضاء البشرية على سبيل المثال- لم يضع حكمًًا لموضوع الاستنساخ، سواء أكان الاستنساخ بالنسبة للنبات، أو بالنسبة للحيوان، أو بالنسبة للإنسان، فماذا نفعل إزاء هذه الأمور المستجدة؟

صحيح كما قلنا: حتى فقهاءنا -رضوان الله تبارك وتعالى عليهم- القدامى؛ لم يبحثوا هذه النوازل، لم يبحثوا هذه الوقائع، لم يكن على عهدهم، هناك نقل للأعضاء البشرية، ينقل مثلًا على سبيل المثال: كلية لإنسان -من إنسانٍ إلى إنسانٍ آخر- ماذا نفعل في هذا الأمر؟ ما هو حكم الشريعة في ذلك؟ هذه هي الحوادث، هذه هي المستجدات، هذه هي النوازل التي يجب علينا أن ننظر إليها، يجب علينا أن نراها في المنظار الإسلامي، وفي ميزان الفقه الإسلامي، ونعطي لها الحكم.

كما قلنا-: لا يوجد نص لا في الكتاب، ولا في السنة، ولا الإجماع على حكم هذه الأمور الجديدة؛ كنقل الأعضاء البشرية، أو حكم الاستنساخ -كما قلنا- للزراعة، أو للحيوان، أو للإنسان، ماذا نفعل في هذه الحالة؟ هل لو وقفنا عند النصوص نصوص القرآن، ونصوص السنة، وأردنا أن نأخذ الحكم من هذه النصوص؛ فلن نجد هذا النص، لماذا؟ لأن -كما قلنا- إن هذه النصوص إنما هي متناهية، ومحدودة، أما حوادث الناس، والوقائع، والنوازل؛ فمتجددة، وليست بمحدودة، فعندما نذهب إلى الكتاب، أو إلى السنة؛ لن نجد حكمًًا لهذه الموضوعات الجديدة كنقل الأعضاء، أو الاستنساخ، فماذا نفعل؟ هل نقول: لا نعرف شيئًًا؟ هل نقول: ليس هناك حكم؟ لا نستطيع أن نقول: ليس هناك حكم في الإسلام لهذه النوازل، وهذه الوقائع الجديدة؛ لأننا لو قلنا ذلك، فمعنى ذلك أننا نقول: بأن شريعتنا جامدة، وغير متطورة، وغير صالحة للزمان، والمكان.

ص: 39

لكن الشريعة الإسلامية الله تبارك وتعالى عندما جعلها خاتمة الشرائع؛ أراد لها أن تكون صالحة للتطبيق في كل زمانٍ، وفي كل مكان، إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها؛ ولذلك لا بد أن نبحث، -كما قلنا- ليس هناك نصوص في الكتاب، والسنة لهذه الوقائع الجديدة، فماذا نفعل؟

نذهب إلى علم السياسة الشرعية، علم السياسة الشرعية الذي يقوم على تحقيق مصالح الناس في هذه الحياة؛ ولذلك نذهب إلى القواعد العامة، ولا بد وأن نجد هذه الأشياء، ننظر؛ هل هذه المستجدات؛ مثل نقل الأعضاء البشرية؛ هل فيه مصلحة للناس، أم فيه مضرة لهم؟ ومن هذا المنطلق نريد أن نعطي حكمًًا.

إذن المقياس هو المصالح التي نتحدث عنها الآن، ننظر إلى هذه الواقعة، وغيرها من الوقائع المستجدة، وسوف تستجد مع تطور الأزمان نضعها في نطاق المصالح، والمضار، فما كان صالحًا للناس، وكان الصلاح فيه أكثر من الضرر أبحناه، وما كان ضارًًا بالناس، أو كان الضرر فيه أكثر من الصلاح نمنعه من ذلك.

إذن -كما قلنا- يأتي منها حكم المصالح المرسلة فإذن المصالح المرسلة عندما نأخذ بها؛ هي تحقق لنا علم السياسة الشرعية -يعني: المصالح المرسلة منصب عليها حكم السياسة الشرعية لأننا -كما قلنا- السياسة الشرعية تنظر في مصالح الناس في الدين، والدنيا؛ ولذلك المصالح المرسلة إنما تعبر عن السياسة الشرعية؛ ولذلك -كما قلنا- إذا لم نعتمد على هذه المصالح المرسلة، معنى ذلك: أننا لن نستطيع أن نجد حكمًًا للوقائع المستجدة، والنوازل المستجدة في حياة الناس -كما قلنا- فهذه الوقائع نعرضها على المبادئ العامة في الشريعة الإسلامية نعرضها على السياسة الشرعية، نعرضها من باب المصالح، والمفاسد -كما قلنا- فما فيه صلاح أبحناه، وما فيه ضرر منعناه، والحقيقة -يعني: ومما قيل في مشروعية المصلحة ما ذكره ابن تيمية في المناظرة التي تمت بين ابن عقيل الحنبلي، وبين بعض الفقهاء، جاء فيها -يعني: كانت مناظرة ذكرها ابن تيمية في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين في الجزء الرابع صـ309 طبعة دار الحديث القاهرة).

جاء في موضوع يهم المصلحة المرسلة، وأردنا أن نقوله؛ لأن فيه مصلحة الحقيقة، ويدل على مدى فهم فقهاءنا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم لـ: أن الشريعة

ص: 40

صالحة لتطبيق في كل زمان، ومكان، وكل ما يؤدي إلى ذلك ينبغي أن ننصره، ونأخذ بيده.

ما قلنا- ذكر ابن تيمية المناظرة التي تمت بين ابن عقيل، وبين بعض الفقهاء جاء في هذه المناظرة، وقال الآخر -يعني: -أي: الذي كان يناظر ابن عقيل- قال: له لا سياسة إلا ما وافق الشرع -الذي يتكلم مع ابن عقيل قال: له لا سياسة إلا ما وافق الشرع- فقال ابن عقيل: السياسة كأنه يريد أن يبين له المقصود بالسياسة قال: له ابن عقيل السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد -وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي.

انظر إلى هذه -أيها الدارس، وأيتها الدارسة- انظر إلى هذا القول من ابن عقيل -هذا الذي فهم الإسلام فهمًًا جيدًًا هذا الذي؛ فهم الشريعة فهمًًا جيدًًا، وعلم أنها ينبغي أن نجعلها صالحة للتطبيق في كل زمانٍ، ومكان، وأن لا نقف عاجزين عن الوقائع المستجدة- ابن عقيل يرد على الآخر الذي يقول: له لا سياسة إلا ما وافق الشرع يقول له: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وهذا -كما قلنا- المصالح المرسلة التي تفعله -كما قلنا- الآن الوقائع ننظر إليها ما كان صالحًا أبحناه، وما كان ضارًًا منعناه، وما كان فيه صالح أكثر من الفساد أبحناه، وما كان فيه فساد أكثر من الصلاح منعناه يقول: ابن عقيل يؤيد.

هذا المعني بقوله: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي -يعني: حتى ولو لم توجد هناك نصوص في هذه الواقعة لا في الكتاب، ولا في السنة.

إذن ماذا ننظر لهم -يعني: واقعة من الوقائع جاءت لكن لم نجد لها حكمًًا لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله هذا معنى لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به، وحي، فماذا نفعل؟ ابن عقيل يقول: نعرضه على ننظر إليه من وجهة المصلحة، فما كان صالحًا أبحناه، وما كان غير صالحٍ، أو كان ضارًًا منعناه.

ص: 41

يقول: وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي؛ فإن أردت بقولك -هذا ابن عقيل يقول -للطرف الآخر الذي يناظره-: إذا أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع -أي: لم يخالف ما نطق به الشرع- فصحيح، وإن أردت أنه لا سياسة إلا ما نطق به الشرع؛ فغلط، وتغليط لفعل الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.

إذن أراد ابن عقيل أن يقول له: إذا أردنا بكلمة لا سياسة إلا ما وافق الشرع، هل مقصود به -يعني: لا بد أن يكون منصوصًًا على حكمه أم لا.

والله إذا أردت بقولك: لا سياسة إلا ما وافق به الشرع -يعني: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع، يعني: كان منصوصًًا عليه في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع- هذا قول لا ينفع، وهذا قول لا نأخذ به إطلاقًًا؛ لأننا لو أخذنا بهذا القول بهذا المعنى، وهو أنه لا نأخذ شيئا إلا من الكتاب إلا إذا كان منصوصًًا عليه أو على حكمه في الكتاب، أو السنة.

كما قلنا- معنى ذلك أن شريعتنا سوف تكون جامدة، لماذا؟ لأنه -كما قلنا- مرارًًا أن نصوص الشريعة المتمثلة في الكتاب، والسنة متناهية، ومحدودة، أما وقائع الناس، والنوازل؛ فهي غير متناهية، وغير محدودة؛ ولذلك لو قلنا: إنه لا سياسة إلا ما وافق الشرع -يعني: ما نطق به الشرع؛ فهذا يؤدي إلى -يعني: أمور خطيرة للغاية، وإلى أن الشريعة ليست صالحة للتطبيق في كل زمان، وفي كل مكان، لكن لو أردنا بقولنا لا سياسة إلا ما وافق الشرع -يعني: لا سياسة إذا خالفت الشرع؛ فهذا جائز، لماذا؟ لأن المخالفة معناها المخالفة العامة لأحكام الشريعة، وكل سياسة شرعية ينبغي أن تكون في الإطار العام للإسلام -يعني: المبادئ العامة، والأحكام العامة، والقواعد الكلية للفقه الإسلامي.

إذن كل ما لا يخالف المبادئ العامة نأخذه، ولا شيء فيه، أما الذي يخالف المبادئ العامة؛ فلا نأخذه، وكيف نعرف أنه خالف المبادئ العامة، أم لم يخالفها، فكما -قلنا:- ننظر إليه من ناحية المصلحة، وعدم المصلحة، فإن كان فيه مصلحة؛ أبحناه، وإن كان فيه ضرر منعناه.

ص: 42

ونخلص من هذا أن عدم دلالة شيء من النصوص الواردة للكتاب، والسنة على أحكام السياسة الشرعية تفصيلا لا يضر، ولا يمنع من أن السياسة الشرعية بكونها شرعية، يعني -كما قلنا- ليس بلازم أن تكون المصلحة منصوص على حكمها في الكتاب، أو في السنة، ولكن يكفي فقط أن تحتويها السياسة الشرعية، أو على المبادئ العامة، والأحكام العامة للشريعة الإسلامية، فما دامت هذه الوقائع -كما قلنا- متفقة مع الضوابط العامة، والأحكام الشرعية؛ فنأخذها.

أما الذي يضر، ويمنع من ذلك أن تكون تلك الأحكام هي أحكام السياسة الشرعية مخالِفةً مخَالَفةً حقيقية لنصٍ من النصوص التفصيلية.

أقول: يعني معنى ذلك أحكام السياسة الشرعية مأخوذ بها، ونأخذ بها ما دامت لم تتعارض مع نص تفصيلي، ما دامت لا تتعارض مع نص من نصوص الكتاب، أو نص من نصوص السنة، أو من الإجماع فنأخذ بها.

لكن إذا كانت هذه أو كانت هذه الأحكام التي تقولها السياسة الشرعية مخالفة مخالفةً حقيقية لنص من النصوص التفصيلية -ونقصد بالنصوص التفصيلية الأحكام التفصيلية التي تحدث عنها علم أصول الفقه، وهي الأدلة الإجمالية مثل: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس- فإذا كانت هذه الأحكام أحكام السياسة الشرعية قد خالفت حكما من الأحكام التي نص عليها الكتاب، أو الأحكام التي نصت عليها السنة، أو الأحكام التي نص عليها الإجماع، أو القياس؛ في هذه الحالة لا نأخذ بها؛ لأنها لا تعتبر سياسة شرعية في هذا الأمر.

نقول: فمتى سلمت هذه المخالفة، وكانت متماشية مع روح الشريعة، ومبادئها العامة؛ كانت نظامًًا إسلاميًا، وسياسةً شرعية -يعني: حتى ولو كانت هناك مخالفة،

ص: 43

لكنها ليست حقيقية، نقول: إذا كانت هناك مخالفة حقيقية، ومصادمة حقيقية مع نصٍ من نصوص الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو مصادمة للقياس؛ لا نأخذ بها.

لكن نفرض أن هناك مخالفة، لكنها ظاهرية -يعني: في الظاهر فقط، لكن عند التمعن، وعند التدبر؛ نجد أنه ليس هناك خلاف في الحقيقة، وهذا طبعًًا -كما قلنا كما مثلنا قبل ذلك بموضوع المؤلفة قلوبهم، وموضوع ضالة الإبل، أو الذي فعله سيدنا عثمان بن عفان، وسيدنا عمر ابن الخطاب- ما فعله لم يكن مخالفة حقيقية في النص، وإنما في الحقيقة هي مخالفة ظاهرية فقط، وليس هناك خلاف حقيقي، لماذا؟ لأننا لو نظرنا إلى مضمون الحكم، ونظرنا إلى سر الحكم، وإلى الحكمة من هذا الحكم، والتي أخذ بها سيدنا عمر؛ نجد أنه لم يخالف النص، ولكنه وجد أن العلة التي بُنِي عليها الحكم لا تتحقق في وقتٍ معين، وهو عندما أصبح المسلمون أقوياء.

فإذًن الحقيقة ليس هناك إن كان هناك تعارض هو ظاهري فقط، لكن عند التدبر نجد أنه ليس هناك تعارض، وكذلك الأمر أيضًًا إذا كانت هناك مخالفة، ولكنها ظاهرية، وليست ظاهرة، وليست حقيقية هذا حدث مع موقف سيدنا عثمان بن عفان مع ضالة الإبل -كما قلنا- فضالة الإبل الأصل أنها لا تلتقط، وتترك حتى يأتي صاحبها فيأخذها؛ لأنه لا خوف عليها من ذلك كما بين النبي صلى الله عليه وسلم: معها سقائها، ومعها حذائها، ترد الماء، وتأكل الشجر؛ ولذلك طلب من الذي سأله أن يتركها، ولا يتعرض لها حتى يأتي صاحبها لما خالف في ذلك سيدنا عثمان بن عفان، هو خالف النص، هذا في الظاهر، لكنها ليست مخالفة حقيقية، وإنما هي مخالفة ظاهرية فقط -بمعنى: أننا لو تمعنا موقف سيدنا عثمان بن عفان؛ لوجدنا أنه في الحقيقة لم يعارض النص، وإنما نظر إلى مضمون النص، وإلى الحكمة من النص، وإلى سر هذا النص.

ولذلك هو في الحقيقة وجد أنه إذا كان النص مبني على أن هذه الإبل

ص: 44

لن يتعرض لها أحد، لماذا؟ كما بين الحديث؛ لأن هناك وازع ديني يمنعهم من أخذ هذه الإبل، لكن عندما تغير وضع الناس، وأصبح الوازع الديني ضعيفا عندهم؛ لذلك ورد أن العلة التي بني عليها حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث هو أن الإبل لا تلتقط لم يعد موجودا -العلة لم تكن موجودة، بل تغيرت العلة، وأصبح الناس لا مانع عندهم من أن يأخذوا، ويسرقوا هذه الإبل؛ ولذلك وجد سيدنا عثمان أن العلة، أو أن الحكم يدور مع العلة، وجودًا وعدمًا، فلما وجد أن هؤلاء الناس لا مانع عندهم من أن يأخذوا هذه الإبل، لذلك قال: بأنها تلتقط، وتعرف، ثم تباع، ويحفظ ثمنها.

هذا وبالله التوفيق.

ص: 45