الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقام عبد الله بن أريقط خبير الصحراء البصير، ودليل الهجرة الأمين بمهام الإرشاد للمهاجرين في الطريق من مكة إلى المدينة.
أما مهام الخداع والتمويه، فقد شارك فيها عامر بن فهيرة حيث كان يسير بغنمه في الطريق الذي سلكه الرسول وصحبه؛ ليزيل آثار أقدامهما، وظل بعد كل رحلة لعبد الله أو أسماء يؤدي المهمة، ويزيل آثار الأقدام، كما شارك في هذه المهام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنوم في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة؛ ليوهم قريشًا أن الرسول في فراشه لم يغادر بيته، ويعد كل من شارك في الهجرة قد قام بدوره في مهام الخداع والتمويه، وذلك بعوامل السرية المطلقة التي فرضوها على خطة الهجرة فلن تستبن قريش ملامحها.
ولو تأملنا هذه التكليفات، سنجد أن الأمور قد سارت على نحو دقيق، فتم وضع كل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسدت كل الثغرات، وغطيت كل مطالب الرحلة، واقتصر الأمر على العدد اللازم دون زيادة أو إسراف، وتمت كل المهام في سرية فلم تسمح لقريش بمعرفة مكان الرسول وصحبه، كما أنها تمت في تناسق مذهل حتى أن الثلاثة الذين كانوا يرتدون الغار كانوا يذهبون إليه في أوقات مختلفة، فلم يحدث أن التقوا مرة، ألم نقل إن أحداث الهجرة تصلح قاموسًا لمبادئ التخطيط العلمي السليم.
تخطيط الحياة في المدينة بعد الهجرة
وبعد ما انتهينا عن التخطيط للهجرة ننتقل للحديث عن التخطيط الحياتي في المدينة بعد الهجرة، فنقول: منذ أن وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، بدأ يخطط لإقامة مجتمعٍ إسلامي شعاره التوحيد، ومنهجه القرآن، وهدفه رفع راية الإسلام،
وكأي مخطط خبير نظر الرسول حوله؛ ليدرس الواقع وليقدر الموقف، فوجد أن مجتمع المدينة يضم جماعات متناثرة، عرب، ويهود مسلمين وغير مسلمين، أوس وخزرج أحزاب متفرقة لا روابط بينها، كان على الرسول أن يضع في اعتباره بناء المجتمع الجديد الذي يحفظ للجميع عقائدهم الدينية، وقيمهم الخلقية والقومية، وانطلاقا من فهمه عليه الصلاة والسلام لدور العلاقات الإنسانية، وأثرها في أفراد المجتمع، فقد عمل على تحقيق أهداف ثلاثة:
الأول: تأمين المسلمين وغير المسلمين على حياتهم وأرزاقهم حتى يزداد المؤمنون إيمانا، ويقبل على الإسلام المتردد الخائف الضعيف، وأيضا إطلاق مبدأ حرية العقيدة، والرأي لجميع طوائف المجتمع، فلا فتنة في دين، ولا ظلم بسبب عقيدة أو رأي، وأيضا القضاء على المنازعات الطائفية بين القبائل، ولتحقيق هذه الأهداف شملت خطة الرسول عليه الصلاة والسلام جوانب ثلاثة:
الجانب الأول: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ رغبة منه صلى الله عليه وسلم في القضاء على التنافس القبلي، وعلى حب الذات والأنانية، وتحقيقا لروح التعاون، والجماعة والحب في الله نفذ الرسول صلى الله عليه وسلم سياسة حكيمة، وهي أن يجعل من المهاجرين والأنصار أخوة في الله لكل منهم على الآخر كل ما للأخ على أخيه من الحقوق، قال عليه الصلاة والسلام:((تآخيا في الله أخوين أخوين)) وأخذ عليه الصلاة والسلام يؤاخي بين أنصاري ومهاجري، فاختار عمه حمزة بن عبد المطلب أخا لزيد بن حارثة، واختار أبا بكر أخا لخارجة بن زهير إلى آخره.
وفي هذا المجال ضرب الأنصار والمهاجرين أمثلة رائعة تدل على عظمة الحب في الإسلام، روى البخاري رضي الله عنه عن أنس قال:"قدم عبد الرحمن بن عوف إلى المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن ربيع الأنصاري، فعرض سعد عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك، لكن دلني على السوق".
ولقد مدح القرآن الكريم هذه المؤاخاة، وهذا الحب في الله، فقال تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: من الآية: 103).
الجانب الثاني: تحقيق الوحدة السياسية في مجتمع المدينة ككل، بعد أن آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار سعى بكل جهده، وما يملك إلى القضاء على جذور العداوة القديمة التي كانت تشعل نيران الحروب بين قبيلتي الأوس والخزرج؛ ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام يعرف طباع اليهود، وغدرهم فقد حاول أن يؤمن المسلمين منهم كما سعى عليه الصلاة والسلام إلى أن يحقق لهم الأمان على أنفسهم، ولتحقيق ذلك جمع سكان المدينة من مهاجرين وأنصار ويهود، وتشاور معهم، وانتهوا إلى تكوين اتحاد يضم أهل المدينة جميعًا، وكتب عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار كتابا، واعد فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم شروطًا، وشرط لهم، وكان هدف الرسول من ذلك أن تصبح المدينة وحدة متكاملة تدافع عن نفسها، وترعى مصالحها، وتعد هذه الوثيقة في مبادئها من أعظم ما عرف العالم من مبادئ حقوق الإنسان على مر التاريخ.