الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة والمدينة)
1 -
مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة
خبرة النبي عليه الصلاة والسلام بتنظيم الحياة القبلية قبل البعثة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
نتكلم في هذه المحاضرة -إن شاء الله- عن مفهوم النظم الإسلامية، ثم عن نشأة هذه النظم، فنقول -وبالله التوفيق-:
تعرف النظم بأنها جمع نظامٍ، وهي كلمة تطلق على كل شيء يراعى فيه الترتيب والانسجام والارتباط، وهي بهذا الاعتبار تشبه العقد من حيث انتظام أحجاره بعضها مع بعضٍ، ونظم أي دولة تتكون من مجموعات القوانين والمبادئ والتقاليد التي تقوم عليها الحياة في هذه الدولة، ومن هذه النظم: النظام السياسي، والنظام الإداري، والنظام المالي، والنظام القضائي، وهناك نظم أخرى كالعبادات من: صلاة، وصيام، وحجٍ، وزكاة. وهناك نوع آخر من النظم وهو النظم الاجتماعية التي تعني بدراسة حالة الشعوب.
وإذا أردنا أن نتكلم عن نشأة النظم الإسلامية، فسوف نتحدث عن المنابع الأولى لهذه النظم الإسلامية، فنتحدث عن تنظيمات الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ثم عن تنظيماته صلى الله عليه وسلم في المدينة، ونبدأ الآن بالحديث عن تنظيمات الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة: تكون الدعوة الإسلامية وجهاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في نشرها المفاهيم الفكرية التي استندت إليها جميع النظم، ومؤسساتها التي عرفتها الدولة الإسلامية، ذلك أن تعاليم الإسلام لا يمكن فصمها عن شخصية الرسول الذي لقنها، كما أن شخصية الرسول الكريم لا يمكن فصمها عن التطور الثقافي لأمته العربية، فهذه الأمور جميعها وثيقة الصلة في بناء النظم الإسلامية بدرجة توجب دراستها سويًا لأن كلًا منها ملتصق بالآخر التصاق الحمل بحامله.
وكان التطور الثقافي للأمة العربية قد تعرض -في السنوات الأولى من حياة الرسول الكريم قبل البعثة- إلى أزمة عنيفة هزت أركان الحياة القبلية في شبه جزيرة العرب كلها، وأصابت بالشلل جميع الأنظمة القبلية على اختلاف مظاهرها، من ممالك في اليمن وإمارات على أطراف الهلال الخصيب، ومشيخات في جوف بلاد العرب وبخاصة في مكة، وكان قوام هذه الأزمة هو الصراع بين الروح الفردية التي فطرت عليها النظم القبلية، وبين المحاولات التي قامت بها مجموعة من القبائل لبناء أحلافٍ تصلح نواةً لمجتمعات سياسية كبرى، فالهدف من النظام القبلي لم يكن إقامة حلفٍ كبير أو تشييد مجتمعٍ ثابت، وإنما ظل هذا النظام يعمل على تثبيت نفوذ أسرة كبيرة، أو إعلاء شأن عشيرةٍ أو قبيلة ورفعها إلى مكان الصدارة على أقرانها.
واتسمت المجتمعات السياسية التي قامت على قواعد هذا النظام القبلي، اتسمت بضيق الأفق، وقصر عمر المؤسسات فيها، إذ بقيت القبيلة هي الوحدة السياسية العليا، وشيخها هو الرئيس الأعلى دون أن تسمح النظرة القبلية الضيقة بانطلاق الأحداث الكبرى نحو بناء مجتمعٍ واحدٍ مترابط، وغدت صورة الحياة القبلية في بلاد العرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم غدت هذه الصورة صورة بناءٍ متداع، وما صاحب هذا التداعي من فوضى في جميع النظم التي سيطرت على تلك الحياة.
وبدأت مظاهر التداعي في النظام القبلي تدوي ابتداءً من سنة 571م التي شهدت ميلاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فشب عليه الصلاة والسلام وسط هذه الحياة القبلية الصاخبة ووقف على جميع نظمها عن كثبٍ وعن تجارب ذاتية عديدة، هيأت له عليه الصلاة والسلام حمل الأمانة وأداء رسالتها بإخراج العرب من ظلمات تلك النظم إلى نور الإٍسلام وإعدادهم في نفس الوقت لنشر هذا الدين في جميع
أرجاء العالم، وهكذا حصل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في مسقط رأسه بمكة قبل بعثته بخمس سنوات، حصل على صورة متكاملة لما آلت إليه الحياة القبلية بشتى نظمها ومؤسساتها؛ ذلك أن مكة غدت وأصبحت نتيجة وصولها إذ ذاك إلى المركز الديني والتجاري الأول في بلاد العرب، ووفود القبائل إليها من شتى أرجاء تلك البلاد، أقول: أصبحت تضم مجتمعًا متناقضًا، ترسبت فيه نظم تلك القبائل البدوي منها والحضري على السواء.
وتمثل هذا التناقض في النظم التي صارت عليها قريش نفسها فكان الفرد منهم يحتفظ بالعصبية القبلية في أبشع صورها من حيث السلب والنهب، والافتخار بالأحساب والأنساب، ويعتز في نفس الوقت بالتمايز الطبقي الذي صاحب حياة الاستقرار في هذا المركز الديني والتجاري، وهو مكة فدأب القرشي من الملأ -والملأ هذا: إنما هو مجلس يضم رؤساء أحياء قريش بعد توحيدها- على الافتخار بعشيرته من جهة وبثروته من جهة أخرى، وكان يسير في الطرقات وأنفه شامخ في زهوٍ وخيلاء حتى يكاد يخرق الأرض بقدميه رغبة في أن يبلغ الجبال طولًا، ثم هو ينطلق في أثناء مشيه سريع الغضب شديد البغي، يلطم من يعترض سبيله من المستضعفين، وهم الذين لا عشيرة أو قبيلة كبرى تحميهم.
وتحولت مكة قبيل بعثة الرسول الكريم بخمس سنواتٍ إلى مجتمع للمتناقضات في النظم القبلية، فهي مركز حضاري يتمسك أهله في نفس الوقت بالتقاليد البدوية الظاهرية، ومراعاتها شكليًا في واقع حياتهم، وما يتصل بتلك الحياة من معالم ومظاهر، فعاش فيها طبقة من أصحاب الثراء الواسع والترف العريض إلى جانب جماعات من الفقراء الساخطين الخاضعين لشتى مظاهر الاستغلال من
الربا وسوء المعاملة، وغدت النظم القبلية أداة في يد الملأ من سادة قريش يسخرونها لما يحقق لهم حياة النعيم على حساب بؤس وشقاء الآخرين.
هذه هي النظم التي كانت في مكة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بيناها وبينا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش هذه الحياة، وخبر هذه التجارب، وأصبح على علم تام بهذه النظم القبلية التي كانت سائدة بمكة، لكن بنزول القرآن الكريم، اندلعت الثورة على هذه الحياة القبلية ونظمها ومؤسساتها كما قلنا عند نزول الوحي بالقرآن الكريم على الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم وهو في الأربعين من عمره، أثناء تعبده في غار حراء، لقد نزل القرآن الكريم ثورة اجتماعية ودينية ضد الاتجاهات القبلية ونظمها ومؤسساتها التي تركزت في مكة، ودعا إلى إقرار نظمٍ جديدة في سبيل بناء مجتمعٍ متحرر من النظرة القبلية الضيقة، وقائم على أساس العدالة العالمية.
إذن: بنزول القرآن الكريم أصبح هناك ثورة ضد هذه النظم البالية التي كانت قائمة على العصبية، وعلى حب القبيلة أكثر من غيرها، والتي كانت سائدة عن العرب في مكة، جاء القرآن الكريم ليعلن الثورة على هذه النظم البالية ومن أجل أن تكون هناك نظم أخرى تكون أوسع أفقًا وتشمل العالم بأسره، وتمت تنظيمات الرسول أثناء نشر الدعوة على مرحلتين هامتين مترابطتين الأولى: استهدف فيها الرسول الكريم نشر تعاليم الإسلام بما ينظم حياة الفرد في مكة، للتخلص من قيود العصبية القبلية في هذا المعقل القبلي الآثم وهو مكة، أما المرحلة الثانية: عمل فيها الرسول الكريم بعد هجرته إلى المدينة على تنظيم جماعة المؤمنين فيها لإعلاء شأن المجتمع الإسلامي الوليد وإعداد أبنائه لحمل رسالة الإسلام إلى سائر أرجاء العالم.