المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محاربة التهرب من أداء الزكاة - السياسة الشرعية - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 السياسة الشرعية: مفهومها، أحكامها، أدلة اعتبارها

- ‌ مفهوم السياسة الشرعية

- ‌شروط العمل بأحكام السياسة الشرعية

- ‌موضوعات علم السياسة الشرعية

- ‌مراعاة الشريعة أحوال الناس فيما شرعته من أحكام

- ‌اعتبار المصالح المرسلة دليلًا لاعتبار أحكام السياسة الشرعية

- ‌الدرس: 2 مفهوم النظم الإسلامية ونشأتها في مكة والمدينة

- ‌خبرة النبي عليه الصلاة والسلام بتنظيم الحياة القبلية قبل البعثة

- ‌القواعد التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة

- ‌أهم المعالم للنظم الانتقالية التي وضعها النبي في المدينة

- ‌النظم الأساسية التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌تابع: النظم التي وضعها النبي لجماعة المؤمنين في المدينة

- ‌الدرس: 3 النظام المالي للدولة الإسلامية

- ‌الزكاة من أهم الموارد المالية في عهد النبي

- ‌أهم الموارد المالية في عهد النبي: الغنائم، الفيء، الجزية

- ‌النظام المالي في عهد أبي بكر الصديق

- ‌تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌تابع: تطور النظام المالي في عهد عمر بن الخطاب

- ‌النظام المالي في عهد عثمان بن عفان

- ‌النظام المالي في عهد علي بن أبي طالب

- ‌المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌تابع: المستحدثات المالية في عهد الأمويين

- ‌موقف عمر بن عبد العزيز من الأخطاء المالية في عهد الأمويين

- ‌الدرس: 4 العمومية المعنوية والمادية للزكاة

- ‌المقصود بالشخص الطبيعي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء بالنسبة للزكاة في مال الصبي والمجنون

- ‌الخلطة في الأنعام كمثال للشخص المعنوي في الزكاة

- ‌موقف الفقهاء من تأثير الخلطة في الزكاة

- ‌حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌تابع: حكم الخلطة في الماشية، وتأثيرها في الزكاة

- ‌الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌تابع: الحيوان الذي تجب فيه الزكاة، وشروط زكاته

- ‌الدرس: 5 بقية أنواع الزكوات والعوامل التي تساعد على تحقيق العمومية فيها

- ‌الزكاة في الذهب والفضة

- ‌الزكاة في الحلي المباح والمحرم، وآراء الفقهاء

- ‌ما تجب فيه الزكاة من الحرث

- ‌زكاة عُرُوض التجارة، والرِّكاز، والمعدن، وما يستخرج من البحر

- ‌زكاة الأموال التي جدت في هذه العصور

- ‌تجنب الازدواج في أداء الزكاة، وتجنب الراجعية في الزكاة

- ‌محاربة التهرب من أداء الزكاة

- ‌الدرس: 6 الجزية والخراج والعشور

- ‌العمومية في الجزية

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الجزية

- ‌مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تابع: مراعاة ظروف المكلفين بالجزية

- ‌تاريخ الخراج، والعمومية فيه

- ‌العوامل التي تساعد على تحقيق العمومية في الخراج

- ‌مراعات ظروف الممول في الخراج

- ‌من الموارد المالية للدولة الإسلامية: العشور

- ‌الدرس: 7 النظام السياسي الإسلامي

- ‌مصطلح السياسة منذ بداية الدولة الإسلامية

- ‌مرتكزات السياسة في الإسلام

- ‌مصادر الأحكام السياسية في النظام الإسلامي: أولا القرآن الكريم

- ‌السنة

- ‌حجيه السنة بجميع أنواعها

- ‌الإجماع

- ‌القياس

- ‌الاستحسان

- ‌المصالح المرسلة

- ‌العرف

- ‌الدرس: 8 قواعد النظام السياسي الإسلامي

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: أولا: الحاكمية لله

- ‌قواعد النظام السياسي الإسلامي: ثانيا: الشورى

- ‌تابع: أدلة الشورى

- ‌تحديد أهل الشورى والشروط الواجب توافرها فيها

- ‌كيفية إعمال واجب الشورى، وطريقة اختيار أهل الشورى

- ‌مدى الالتزام برأي أهل الشورى، وبيان آراء الفقهاء في ذلك

- ‌أهل الشورى، والشروط اللازم توافرها فيهم

- ‌الدرس: 9 قواعد أخرى للنظام الإسلامي وهي العدالة، مسئولية الحكام، الحقوق والحريات، سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌ العدالة

- ‌صور العدالة في القرآن

- ‌مسئولية الحكام

- ‌تابع: قواعد النظام السياسي في الإسلام: "مسئولية الحكام

- ‌مقدمة عن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي

- ‌ الحريات الشخصية

- ‌الحرية الفكرية

- ‌تابع: الحقوق والحريات الفردية في النظام الإسلامي: حرية التجمع

- ‌الحريات الاقتصادية

- ‌الحقوق والحريات الاجتماعية في النظام الإسلامي

- ‌سلطة الأمة في الرقابة على الحكام

- ‌الدرس: 10 الإمامة

- ‌مسئولية الحاكم أمام الأمة الإسلامية "مشروعية المسئولية

- ‌ الحكم عند العرب قبل الإسلام

- ‌الإمامة مبحث فقهي

- ‌معاني: الخلافة، وأمير المؤمنين، والإمام

- ‌معنى الإمامة العظمى

- ‌حكم نصب الإمام

- ‌القائلون بعدم وجوب تنصيب الإمام في كل حالٍ أو حالٍ دون حالٍ

- ‌الدرس: 11 شروط الإمامة العظمى

- ‌شروط الإمامة العظمى

- ‌العدالة

- ‌صحة الرأي في السياسة، والإدارة، والحرب

- ‌الكفاية الجسمية، والكفاية النفسية

- ‌شرط القرشية، وتولية الأفضل

- ‌الدرس: 12 طرق انعقاد الإمامة، وواجبات الإمام وحقوقه وأسباب انتهاء ولايته

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌تابع انعقاد الإمامة عن طريق أهل الحل والعقد

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق العهد من الإمام الحالي

- ‌انعقاد الإمامة عن طريق القهر والغلبة

- ‌انعقاد الإمامة بطريق النص

- ‌واجبات الإمام

- ‌حقوق الإمام

- ‌ تابع حقوق الإمام

- ‌انتهاء ولاية الإمام

- ‌الدرس: 13 توجيهات الفكر الإداري الإسلامي

- ‌العمل فريضة إسلامية

- ‌خصائص العمل في الإسلام

- ‌طبيعة تكوين المنظمة

- ‌تابع طبيعة تكوين المنظمة

- ‌الرقابة ومتابعة الإنجاز

- ‌العلاقات الإنسانية في العمل الجماعي

- ‌وجود علاقة عامة بين أفراد المنظمة

- ‌التوظيف حسب الجدارة

- ‌وجود قيادة سوية

- ‌الدرس: 14 المنهج الإداري في الإسلام

- ‌مقدمة عن المنهج الإسلامي الإداري

- ‌ التخطيط لنشر الدعوة

- ‌التخطيط للهجرة

- ‌تخطيط الحياة في المدينة بعد الهجرة

- ‌المنهج الإسلامي في التنظيم

- ‌المنهج الإسلامي في الرقابة

- ‌الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الإدارة في عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌موقف عمر من الأنظمة الإدارية في البلاد المفتوحة

- ‌الدواوين التي أنشاها عمر بن الخطاب

- ‌التجنيد الإجباري، ونشأة بيت المال

- ‌ رقابة عمر بن الخطاب لعماله

- ‌الإدارة عند الأمويين

- ‌الدرس: 15 أحكام وأنواع الوزارات وعلاقة المسلمين مع غيرهم والمعاهدات

- ‌مقدمة عن الوزارة في الدولة الإسلامية

- ‌وزارة التفويض

- ‌وزارة التنفيذ

- ‌مقارنة بين وزارة التفويض ووزارة التنفيذ

- ‌الإمارة على الأقاليم

- ‌ أنواع الإمارة على الأقاليم

- ‌الأسس التي قامت عليها علاقة المسلمين بغيرهم

- ‌حرية العقيدة

- ‌العدل

- ‌الوفاء بالعهد

- ‌الفضيلة

- ‌التسامح

- ‌الرحمة

- ‌أساس العلاقة بين المسلمين، وغيرهم: السلم

- ‌أحكام الدارين

- ‌مقدمة عن المعاهدات في الإسلام

- ‌أنواع المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية

- ‌الدرس: 16 القضاء ووسائل التثبت والإثبات في النظام الإسلامي

- ‌ مشروعية القضاء وأهميته

- ‌تاريخ القضاء في الإسلام

- ‌أركان القضاء

- ‌الدعوى وشروطها

- ‌ الدعوى:

- ‌تعارض الدعويين مع تعارض البينتين

- ‌وسائل الإثبات

- ‌ التثبت من وسائل الإثبات

- ‌الحكم

- ‌القضاء في المملكة العربية السعودية

الفصل: ‌محاربة التهرب من أداء الزكاة

هذا ما ذكره علماء المالية من أنه كلما زاد الوعي المالي، ضعف الباعث على التهرب، وبالعكس كلما ضعف الوعي المالي كلما كان الباعث على التهرب من الضرائب قويًّا وملموسًا.

وعلى هذا فكلما كان الوعي الإسلامي قويًّا خاصة بالنسبة للزكاة كلما قل التهرب منها، وهذا وهناك أسباب أخرى يمكن أن تلاحظها الإدارة، والقائمون على شئون الزكاة، من حين لآخر، تبعًا للأحوال السائدة في المجتمع.

‌محاربة التهرب من أداء الزكاة

ولذلك نتكلم الآن عن الإجراءات الكفيلة بمنع التهرب من الزكاة:

هناك إجراءات عديدة من شانها أن تمنع التهرب من الزكاة، ومن أهم تلك الإجراءات عدل الإدارة، أو القائمين على جباية الزكاة، وهذا العدل يشمل العدل في الجباية، والعدل في التوزيع.

فالعدل في الجباية، هذا الموضوع يستلزم منا أن نوضح علاقة عمال الجباية بالممولين، هذه العلاقة نجد أنها تخضع لأمور، من أهمها: مدى احترام الممول للعامل، ومدى شعوره بأنه يؤدي له خدمة أكثر من أنه جابٍ لما يجب عليه من زكاة، وبالتالي كان منطقيًّا أن يكون أساس هذه العلاقة هو اختيار العامل نفسه، وقد ذكر الماوردي الشروط المعتبرة لعمال الزكاة، التي من أهمها: أن يكون العامل حرًّا، مسلمًا، عادلًا، عالمًا بأحكام الزكاة.

فمن العدل في السياسية المالية التي يملكها ولي الأمر على من ولاه شيئًا من أمور الزكاة، أن يراقبه، ويحاسبه، وأن يأخذ على يده، ويعزله، ويصادر ما يملكه، كله، أو بعضه، إذا علم أنه قد أثرى من جباية المال على غير الوجه الحق.

ولم يكتف الفقه الإسلامي بتحديد شروط اختيار العامل على الزكاة، بل ركز على مسئولية المصدق أمام الله عز وجل عن كل ظلم يقترفه في حق المكلفين، فقد

ص: 236

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العامل على الصدقة بالحق، كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)) وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحاسب عماله على ما في أيديهم محاسبة دقيقة.

بالنسبة لتوزيع الزكاة:

إذا كان سوء توزيع حصيلة الضرائب في النظم الوضعية من شأنه أن يؤدي بالممول إلى التهرب من أداء الضريبة كما ذكرنا، فإننا نجد أن الزكاة قد أُحسن توزيعها، فقد خصص القرآن الكريم استخدام حصيلة الزكاة لثمانية مصارف، حددها على سبيل الحصر، استهدف بها المساعدة على تحقيق أهداف معينة، حاول التشريع الإسلامي بكل مصادره إقناع المكلفين بضرورتها، وهذه المصارف ذكرها الله تبارك وتعالى بقوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (التوبة: من الآية: 60).

ومن تخصيص الآية الكريمة بعض حصيلة الزكاة للعاملين عليها، دل ذلك على أن حصيلة الزكاة لها حساب مستقل، ولها ميزانية مستقلة، تسدد من حصيلتها ما ينفق عليها، وهذا ما يبرر الوجود المادي لحصيلة الزكاة في نظر المكلفين، ويجعل من استخدامها أمرًا ملموسًا.

ومن الإجراءات أيضا التي تمنع التهرب من أداء الزكاة:

تحريم الاحتيال لإسقاط الزكاة: وهذا الإجراء يعتبر من أهم الوسائل الفاعلة لمكافحة التهرب من أداء الزكاة، وقد رأينا من خلال كلامنا عن صور التهرب من أداء الزكاة أن الفقهاء أجمعوا

ص: 237

على تحريم التصرف بكافة أنواعه في المال بعد وجوب الزكاة فيه؛ احتيالًا لإسقاط الزكاة، وعدم الاعتداد بهذا التصرف، وأيضًا رأينا جمهورهم يرى تحريم التصرف في المال قبل وجوب الزكاة فيه بمدة قليلة كشهر مثلًا؛ احتيالًا لإسقاط الزكاة، وعدم الاعتداد بهذا التصرف.

وفي هذا المعنى يقول أبو يوسف في كتابه (الخراج):

لا يحل لرجل يؤمن بالله، واليوم الآخر، منع الصدقة، ولا إخراجها عن ملكه إلى ملك جماعة غيره؛ ليفرقها بذلك، فتبطل الصدقة عنها، بأن يصير لكل واحد من الإبل، والبقر، والغنم، ما لا يجب فيه الصدقة، ولا يحتال في إبطال الصدقة بوجه ولا سبب.

أيضًا من الأمور التي تمنع التهرب من الزكاة:

تقرير عقوبات دنيوية مالية وجنائية، وأخروية على المتهرب:

فمن العقوبات المالية التي توقع على المتهرب من أداء الزكاة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في كل ابن سائمة في كل أربعين ابنة لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، ومن أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإن آخذيها، وشطر إبله، عزيمة من عزامات ربنا تبارك وتعالى) فهذا الحديث حجة في أخذ الزكاة من الممتنع، ووقوعها موقعها، وأخذ نصف إبل الممتنع، وبعبارة أخرى مصادرة نصف ماله، يعتبر نوعًا من العقوبة المالية، التي يلجأ إليها ولي الأمر عند الحاجة؛ ليؤدب بها المتهربين، وهو من العقوبات التعزيرية التي تخضع لولي الأمر طبقًا لما يراه محققًا للمصلحة العامة.

ولم يقف الأمر في عقوبة المتهرب من أداء الزكاة عند العقوبة المالية فحسب، بل إن هناك عقوبات جنائية تقع على المتهرب، إن لم تجد معه العقوبات المالية، وفي هذا يقول الإمام الماوردي:

ص: 238

وأما إذا ترك الزكاة فلا يقتل بها، وتؤخذ إجبارًا من ماله، ويعذر إن كتمها بغير شبهة، وإن تعذر أخذها لامتناعه، حورب عليها، وإن أفضى الحرب إلى قتله حتى تؤخذ منه كما حارب أبو بكر الصديق مانعي الزكاة. ينظر في ذلك الأحكام السلطانية للماوردي ص 192 وما بعدها.

وفي هذا الأمر أيضًا يقول ابن حزم:

وحكم مانع الزكاة إنما هو أن تؤخذ منه، أحب أم كره، فإن مانع دونها فهو محارب، وإن كذب بها فهو مرتد، فإن غيبها ولم يمانع دونها فهو آت منكرًا فواجب تأديبه أو ضربه حتى يحضرها، أو يموت قتيل الله تعالى إلى لعنة الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من رأى منكرا فليغيره بيده إن استطاع)) وهذا منكر، ففرض على من استطاع أن يغيره كما ذكرنا.

فعقوبة المتهرب إذن كما يظهر من تلك النصوص لا تقتصر على الغرامة المالية فحسب، بل قد تتعدى ذلك إلى العقوبات البدينة المناسبة.

على أنه يلاحظ أن التشريع الإسلامي لم يقصر الأمر في عقوبة المتهرب من دفع الزكاة على العقوبات الدنيوية المالية والبدنية، بل إنه قرر أيضًا عقوبة أخروية للمتهرب، فقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته مُثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، له ذبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه، (يعني بشقيه) ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ})) (آل عمران: من الآية: 180) وروي أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من

ص: 239

نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوي بها جنبه، وجبينه، وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)).

وهذه العقوبات التي ذكرناها الدنيوية والأخروية، هي لا شك عقوبات رادعة من شأنها أن تمنع كل من تسول له نفسه التهرب من دفع الزكاة من الإقدام على هذا التهرب، فهي إذن مانعة من هذا الخلق الرديء، وهو التهرب من دفع الزكاة، وفي ذلك القضاء على أخطر ما يهدد المبدأ الذي يجب أن يقوم عليه توزيع الأعباء المالية التي يلتزم بها الأفراد في الدولة، وهو المساواة بينهم في تحمل الأعباء، فبالقضاء على خطر التهرب سيتحقق هذا المبدأ العام، وسيساهم كل مواطن في التكاليف العامة المالية المقررة في الدولة الإسلامية.

أيضًا عرف في الفقه الإسلامي: الحجز عند المنبع:

يعني نأخذ الضريبة قبل أن يأخذ المسلم المال، فاتبعت طريقة الحجز عند المنبع، كإجراء يمنع المكلف من التهرب من أداء الزكاة، فقد روي عن القاسم بن محمد أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا أعطي الناس أعطياتهم -يعني رواتبهم- يسأل الرجل: هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة؟ فإذا قال: نعم، أخذ من عطائه ذلك المال، وإن قال: لا، أسلم إليه عطاءه، ولم يأخذ منه شيئًا.

وكذلك كان عمر بن الخطاب إذا خرج العطاء أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب، والشاهد. أيضًا كان عمر بن عبد العزيز إذا أعطى الرجل عملته، أي أجره أخذ منها الزكاة، وإذا رد المظالم أخذ منها الزكاة، وكان يأخذ الزكاة من الأعطية إذا خرجت لأصحابها، ينظر في ذلك إلى الأموال لأبي عقيل ص526 وما بعدها.

ص: 240

إقرار الثروة:

أوجب التشريع الإسلامي على المكلفين أن يقروا بما لديهم من أموال، بصورة أمينة، إلى عمال الزكاة، ولا يخفوها عنهم، ويدل على ذلك عن جرير بن عبد الله أنه كان يقول لبنيه: يا بني إذا جاءكم المصدق فلا تكتموه من نعمكم شيئًا، فإنه إن عدل عليكم فهو خير لكم وله، وإن جار عليكم فهو شر له وخير لكم، وروي عن زاهر بن يربوع أن رجلًا جاء إلى أبي هريرة فقال: أأخبئ منهم -أي عمال الزكاة- كريمة مالي، يعني الشاه الطيبة، قال: فقال لا، إذا أتوكم فلا تعصوهم، وإذا أدبروا فلا تسبوهم، فتكون عاصيًا خفف عن ظالم، ولكن قل: هذا مالي، وهذا الحق، فخذ الحق وذر الباطل، فإن أخذه فزاد، وإن تعده إلى غيره جمع لك في الميزان يوم القيامة.

عن أبي هريرة، وأبي أسيد صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما قالا: إن حقًّا على الناس إذا قدم عليهم المصدق أن يرحبوا به، ويخبروه بأموالهم كلها، ولا يخفوا عنه شيئًا فإن عدل فسبيل ذلك، وإن كان غير ذلك واعتدى لم يضر إلا نفسه، وسيخلف الله له، أي يعوضهم عما أخذ منهم.

ولا شك أن التشريع الإسلامي بهذا، أي بإقرار الثروة، يكون قد سبق علماء المالية العامة المعاصرين، الذين ينادون بضرورة العمل على إزالة أسباب التوتر بين الممولين، ورجال مصلحة الضرائب، حتى تزيد الثقة، ويتحقق التعاون بينهم؛ لأن العلاقة بين الممول، وبين عمال الجباية، يجب أن تكون بعيدة عن أي لون من ألوان العداوة، لذلك أنه في الوقت الحاضر تعمل الإدارات المالية جاهدة على تحسين علاقتها مع الممولين، وإزالة أسباب عدم الثقة والتوتر بينها وبينهم، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى مكافحة التهرب الضريبي.

ص: 241

أيضًا: على المسلم أن يعلم أن الزكاة تظل دينًا في عنق المسلم، لا تبرأ ذمته منه، ولا يصح إسلام إلا بأدائها، وإن تكاثرت الأعوام، وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن حزم:

من اجتمع في ماله زكاتان فصاعدًا، وهو حي، تؤدي كلها لكل سنة على عدد ما وجب عليه في كل عام، وسواء كان ذلك لهروبه بماله، أو لتأخير الساعي، أو لجهله، أو لغير ذلك، وسواء في ذلك العين، والحرث، والماشية، وسواء أتت الزكاة على جميع ماله، أو لم تأت، وسواء رجع ماله بعد أخذ الزكاة منه إلى ما لا زكاة فيه، أو لم يرجع، ولا يأخذ الغرماء شيئًا حتى تستوفى الزكاة.

وبهذا نرى أن مسلك التشريع الإسلامي يختلف عن مسلك التشريعات المالية الحديثة التي تأخذ بمبدأ سقوط الضرائب بالتقادم بمرور مدة معينة دون المطالبة بها، فمعنى ذلك أن الزكاة لا تسقط بالتقادم.

هذه هي أهم الإجراءات الكفيلة بمنع التهرب من أداء الزكاة، والأخذ بها -لا شك- من شأنه أن يكون حائلًا بين من تسول له نفسه التهرب من أداء الزكاة، وبين هذا التهرب، ونحن نعرف أن القضاء على التهرب من أداء الزكاة معناه أن يساهم الجميع في التكاليف العامة المالية المقررة في الدولة دون استثناء، وبالتالي تتحقق المساواة الكاملة بين المكلفين في تحمل التكاليف العامة المالية في الدولة، والتي من أهمها الزكاة.

ومن الأمور التي ينبغي أن نلفت إليها النظر مراعاة ظروف المكلف؛ لأنا -كما قلنا- ندرس هذه الزكاة، أو غيرها من موارد بيت المال، ندرسها من ناحية المساواة، ومن ناحية العدالة، والعدالة تقتضي أيضًا أن تفرض الزكاة بمقدار معين يتناسب مع المكلف، وهذا ما يسمى بمراعاة ظروف المكلف بأداء الزكاة.

ص: 242

نقول: لما كان الهدف من فرض الزكاة هو تعميم النفع، فليس من مقتضيات ذلك أن تفرض الزكاة على المكلفين بطريقة جامدة، لا تراعي ظروفهم، ولا تهتم بتوفير العدل الذي يتطلبه الإسلام في كل شئون الحياة في المجتمع، فالعدالة تقتضي أن يشترك المكلف في المساهمة في نفقات الدولة تبعًا لمقدرته المالية، أي أن توزع التكاليف العامة المالية على الممولين حسب يسارهم.

إن العمومية في الزكاة وإن كان لها أهميتها الكبرى، إلا أنها ولابد وأن تقترن بفكرة أخرى هي شخصية العبء الزكوي نفسه، فلا يكفي أن يتحمل كل فرد عبئً زكويًّا، ولكن لابد وأن يتفق هذا العبء مع مقدرة الممول المالية، وظروفه الشخصية، ولقد كان الإسلام سباقًا إلى تبني فكرة المقدرة التكلفية للممول، فالتكاليف المالية الإسلامية تفرض على أساس الطاقة المالية، أي المقدرة التكلفية، فالأصل في الإسلام أن يكون التكليف بما في الوسع والطاقة، وفي ذلك يقول الله تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية: 285) وقد حدد القرآن الكريم هذه الطاقة المالية بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ} (البقرة: من الآية: 219) والعفو هو الفائض المتيسر مما زاد عن الكفاية، والحاجة، وقد وردت الآية القرآنية تؤكد وجوب الإنفاق من الفضل الزائد عن الحاجة، فيقول الله تعالى:{وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُم} (البقرة: من الآية: 236).

وإذا كنا نقول بضرورة المساواة بين المسلمين في التكاليف بالزكاة، متى تحققت الشروط اللازمة لوجوب الزكاة، فإن ذلك لا يعني أن يتساوي مقدار ما يؤديه كل فرد من الزكاة، مهما اختلفت مقدرتهم المالية على الأداء؛ لأن المساواة في هذه الحالة ظلم؛ لأنها مساواة بين غير متماثلين، أما إذا تعادلت المقدرة المالية،

ص: 243

والظروف الاجتماعية، لطائفة من الممولين، فإنه يجب أن يتساوي المقدار المأخوذ من كل فرد من أفراد هذه الطائفة في الزكاة، فالمقصود بالمساواة إذن في هذا المجال أن يتحمل كل فرد قدرًا من الأعباء المالية، يتفق ويتناسب مع مقدرته المالية على الأداء، فيؤدي الجميع الزكاة وفق مقدار ثروتهم، وبعد مراعاة ظروفهم الشخصية، والعائلية.

ونستخلص مما تقدم أنه لا يتعارض مع المساواة في هذا المجال إعفاء من لم يملك النصاب من وجوب الزكاة عليه، أو من ملك نصابًا ليس فائضًا عن حاجته الأصلية، أو من عليه دينًا يستغرق نصاب لزكاة كله أو بعضه، أو طرح النفقات والتكاليف التي أنفقت على المال الخارج للزكاة، وسنتكلم عن ذلك بالتفصيل المناسب فيما يلي.

إعفاء ما دون النصاب من الزكاة:

من عدالة الإسلام في فرض الزكاة أنه أعفى المال اليسير من فرض الزكاة فيه، ولم يفرضها إلا على المال الذي يبلغ نصابًا كاملًا، وذلك ليكون أخذ الزكاة من العفو الذي يسهل على النفوس، ولا يشق عليها، قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ} وقد فسر العفو بأنه ما زاد على الكفاية والحاجة، وأساس هذا الإعفاء أن الإسلام إنما افترض الزكاة على الأغنياء من الأمة؛ لترد على فقرائها، والنصاب هو الحد الأدنى للغنى في نظر الشارع، فمن لم يملك هذا النصاب لم يملك الغنى الموجب للزكاة، ومن ثم لا معنى لأن تؤخذ منه زكاة؛ لأنه في حاجة إلى أن يعان، لا أن يعين، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((خير الصدقة من كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول)).

ص: 244

والحكمة من اشتراط نصاب معين لوجوب الزكاة أنه لما كان الأغنياء هم المكلفون بأداء الزكاة، لزم تحديد القدر الذي يعتبر به الشخص غنيًّا، فإذا كان غير مالك لهذا القدر اعتبر فقيرًا، لا يعفى فقط من أداء الزكاة، وإنما يمكن أيضًا صرفها إليه؛ إذ ما نقص عن النصاب يعتبر حدّا أدنى لازمًا للمعيشة، بحيث إذا لم يبلغ الشخص النصاب أصبح مستحقًا للزكاة.

والإسلام جعل لكل نوع من الأموال نصابًا معينًا لا تجب الزكاة فيما نقص عنه؛ وذلك مراعاة لظروف المكلف، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى، ذكرنا نصاب الزروع، والثمار، وغير ذلك، فنكتفي بما ذكرناه هناك.

إعفاء الحد الأدنى اللازم للمعيشة:

اشترط بعض الفقهاء أن يكون النصاب فاضلًا عن حاجات مالكه الأصلية؛ لأنه به يتحقق معنى الغنى، ومعنى النعمة، وهو الذي يحصل به الأداء عن طيب نفس؛ إذ المال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون صاحبه غنيًّا عنه، ولا يكون نعمة؛ إذ التنعم لا يحصل إلا بالقدر المحتاج إليه حاجة أصلية؛ لأنه من ضرورات البقاء، وقوائم البدن، والحاجة الأصلية هي ما لا غنى عنه للإنسان في بقائه، كمأكله، ومشربه، وملبسه، ومسكنه، وما يعينه على ذلك من كتب علمه، وأدوات حرفته، ونحو ذلك، وقد فسر بعض علماء الحنفية الحاجة الأصلية بقوله: هي ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقًا كالنفقة، ودور السكنى، وآلات الحرب، والثياب المحتاج إليها لدفع الحر، أو البرد، أو تقديرًا كالدين، فإن المدين يحتاج إلى قضائه بما في يده من النصاب؛ ليدفع عن نفسه الحبس الذي هو كالهلاك، وكآلات الحرفة، وأثاث المنزل، ودواب الركوب، وكتب العلم

ص: 245

لأهلها، فإن الجهل عنده كالهلاك، فإذا كان له دراهم مستحقة يصرفها إلى تلك الحوائج صارت كالمعدومة، والمعتبر هنا الحاجات الأصلية للمكلف بالزكاة، ومن يعوله من الزوجة، والأولاد، مهما بلغ عددهم، والوالدين، والأقارب الذين تلزمه نفقتهم، فإن حاجتهم من حاجته.

والحاجة الأصلية يعبر عنها بعض العلماء المحدثين بحد الكفاية، الذي يجب أن يتوافر للإنسان؛ لأنه مما يتعلق بمتطلبات الحياة الكريمة، بمعنى أن الفرد يعد فقيرًا متى لم تتوفر له متطلباته بالقدر الذي يجعله في بحبوحة من العيش، وغني عن غيره، وضمان حد كفايه هو في الإسلام أمر مقدس باعتباره حق الله الذي يعلو فوق كل الحقوق، وأن في إنكاره، أو في إغفاله إنكار للدين نفسه، ويدل على هذا الإعفاء قوله صلى الله عليه وسلم:((خير الصدقة من كان على ظهر غنى، وابدأ بمن تعول)) فهذا الحديث يدل على أن شرط المتصدق ألا يكون محتاجًا لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته، ويدل على ذلك أيضًا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)) فهذا الحديث يدل على أن حاجة الإنسان، وحاجة أهله الذين تلزمه نفقتهم، مقدمة على حاجة غيره.

وهذا الإعفاء في الواقع لا يتعارض مع مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل عبء الزكاة، وذلك لأن حاجة الإنسان مقدمة على حاجة غيره، وكذا حاجة أهله، وولده، ومن يعوله بمنزلة حاجة نفسه، فكيف نطلب منه الزكاة مما يحتاج إليه، ويتعلق قلبه به لمسيس حاجته إليه، وقد رأينا فيما سبق أن المقصود بالمساواة في هذا المجال أن يتحمل كل فرد قدرًا من الأعباء المالية يتفق مع مقدرته المالية على

ص: 246

الأداء، ولا شك أن الشخص الذي يكون في حاجة ماسة إلى المال الذي معه، ليست لديه مقدرة مالية على الأداء، وبالتالي فإن إعفاءه من الزكاة لا يتعارض مع مبدأ المساواة بين المكلفين، في تحمل التكاليف العامة المقررة في الدولة.

ومن الأمور التي يراعى فيها حال المكلف بالزكاة خصم الديون:

تختلف مقدرة الممول المالية بحسب ما إذا كان مدينًا، أو غير مدين؛ ولذا فإن مراعاة المقدرة على الأداء تتطلب وجوب خصم أعباء الديون من المال محل الزكاة، قبل فرض الزكاة عليه، وهذا ما قال به بعض الفقهاء، إذ يرون أنه لا تجب الزكاة على من عليه دين يستغرق النصاب كله أو بعضه، ولو كان الدين من غير جنس المال المزكي، فالدين عندهم يمنع وجوب الزكاة في سائر الأموال، فمن كان عنده مال وجبت زكاته، وعليه دين، فليخرج منه قدر ما يفي منه أولًا، ثم يزكي الباقي إن بلغ نصابه، ومعنى كلام هؤلاء الفقهاء أنه ينبغي عليه أولًا أن يخصم الديون التي عليه، ثم بعد ذلك ما بقي بعد هذه الديون إن بلغ نصابًا زكاه، وإن لم يبلغ نصابًا فلا زكاة عليه.

ويقول بعض العلماء في هذا الشأن:

من كان عليه دين يحيط بماله، وله مطالب من جهة العباد، سواء كان لله عز وجل كالزكاة، أو للناس كالقرض، وثمن المبيع، وضمان المتلفات، وأرش الجراحة، ومهر المرأة، وسواء كان من النقود، أو من غيرها، وسواء كان حالًا أو مؤجلًا، فلا زكاة عليه؛ وذلك لأن النصاب مشغول بحاجة المدين الأصلية، أي أنه معد لما يدفع عنه الهلاك حقيقة أو تقديرًا؛ لأنه محتاج إليه لقضاء دينه.

وهناك آثار كثيرة تؤيد خصم الديون: منها ما روي عن عثمان بن عفان أنه قال: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم. وهذه

ص: 247

الآثار موجودة في كتاب الأموال لأبي عبيد ص 534 وما بعدها، حتى يعرف ما بقي من المال بعد أداء الدين، فيخرج زكاته، إن كان يبلغ نصابًا.

أيضًا ما روي عن ميمون بن مهران أنه قال: إذا حلت عليك الزكاة، فانظر كل مالك، ثم اطرح منه ما عليك من الدين، ثم زك ما بقي.

وما روي عن سليمان بن يسار أنه سئل عن رجل له مال، وعليه دين، أعليه زكاة؟ قال: لا، هذا إذا كان ما بقي من المال بعد أداء الدين لا يبلغ نصابًا.

وخصم الديون من المال المعد للزكاة يتمشى مع روح الشريعة الإسلامية، فالزكاة لا تشرع إلا عن ظهر غنى، كما أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا غنى عند المدين، وهو محتاج إلى قضاء دينه، كحاجة الفقير أو أشد، وليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك، لدفع حاجة غيره.

ومما سبق نرى أن الدين الذي يستغرق النصاب كله أو بعضه، يمنع وجوب الزكاة في سائر الأموال؛ لأن الزكاة تفرض على أساس الطاقة، والسعة للمكلفين بها، وتحدد هذه المقدرة على أساس خلو ذمة المكلف من الديون، فضلًا عن أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء لترد إلى الفقراء، والمدين لا يمكن أن تؤخذ منه الزكاة؛ لأنه يعد من الغارمين الذين يستحقون الزكاة، وهذا ما قرره أبو عبيد بقوله: إذا كان الدين صحيحًا قد عُلم أنه على رب الأرض، فإنه لا صدقة عليه فيها، ولكنها تسقط عنه لدينه، كما قال ابن عمر، وطاوس، وعطاء، ومكحول، ومع قولهم أيضًا أنه موافق لاتباع السنة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سن أن تؤخذ الصدقة من الأغنياء فترد في الفقراء، وهذا الذي عليه دين يحيط بماله، ولا مال له، وهو من أهل الصدقة، فكيف تؤخذ منه الصدقة وهو من أهلها، أم كيف يجوز أن يكون غنيًا فقيرًا في حال واحدة؟ ومع هذا إنه من الغارمين أحد الأصناف

ص: 248

الثمانية، فقد استوجبها من جهتين. ينظر في ذلك الأموال لأبي عبيد ص 612 وما بعدها.

وإعفاء من عليه دين يستغرق النصاب كله، أو بعضه، من أداء الزكاة، لا يتعارض -في اعتقادنا- مع مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل عبء الزكاة؛ لأن المدين قد تأثرت مقدرته المالية على أداء الزكاة، والزكاة لا تفرض إلا على أساس الطاقة، والسعي -كما رأينا، وأيضًا فإن المدين أصبح بوجوب الدين عليه أصبح مستحقًّا للزكاة بوصف الغارمين الذين هم من الأصناف المستحقة للزكاة كما ذكرنا، وأيضًا يستحقها بوصف الفقر؛ لأن المدين ليس بغني، ونخرج من ذلك بأن إعفاء المدين من أداء الزكاة لا يتعارض مع مبدأ المساواة بين المكلفين في تحمل التكاليف العامة المالية المقررة في الدولة، ومنها الزكاة.

ومن الأمور التي نراعي بها ظروف المكلف بالزكاة، خصم النفقات، والتكاليف:

أخذ المشرع الإسلامي بفرض الزكاة على الدخل الصافي، ففي زكاة الزروع والثمار يرى بعض الفقهاء خصم الدين الذي يكون قد اقترضه رب الزرع والثمر، من أجل الإنفاق على الزرع، ويدل على ذلك الآثار الآتية:

ما روي عن جابر بن زيد أنه قال في الرجل يستدين فينفق على أهله، وأرضه، قال: قال ابن عباس: يقضي ما أنفق على أرضه، وقال ابن عمر: يقضي ما أنفق على أرضه، وأهله، أي أنه يخصم هذه النفقات من الأموال أولًا، وإن بقي مال بلغ نصابًا تجب زكاته، وإن لم يبلغ نصابً فلا زكاة عليه، ورواه يحيي بن آدم بقوله: قال ابن عمر: يبدأ بما استقرض فيقضيه، ويزكي ما بقي، وقال ابن عباس: يقضي ما أنفق على الثمرة، ثم يزكي ما بقي. وهذا موجود في الخراج

ص: 249

ليحيي بن آدم القرشي ص 162 وما بعدها. روي أن شريكًا سئل عن الرجل يستأجر أرضًا من أرض العشر بطعام مسمى فيزرعها طعامًا، قال: يعزل ما عليه من الطعام، ثم يزكي ما بقي.

ومن هذا يتبين أن ابن عباس، وابن عمر، وشريكًا، قد اتفقوا على أن الدين الذي أُنفق على الأرض والثمار، يخصم قبل أداء الزكاة.

رُوي عن مكحول أنه قال في صاحب الزرع المدين: لا تؤخذ منه الزكاة حتى يقضي دينه، وما فضل بعد ذلك زكاه إذا كان مم تجبه فيه الزكاة. وهذه الآثار موجودة أيضا في الأموال لأبي عبيد ص 611 وما بعدها.

ونرى مما سبق أن الزكاة إنما تكون في صافي الدخل أو الثروة، وللزارع أن يخصم ما أنفقه على زرعه ثم يزكي ما بقي إن بلغ نصابًا، أي أن صاحب الزرع إذا استدان لأجل النفقة على الزرع والثمر، كأن اشترى سمادًا، أو اشترى ما يحارب به الآفات الزراعية، فإن ذلك يخصم ولا يحتسب ما يجب فيه الزكاة، إلا بعد إسقاط ما أنفقه لنماء الزرع من سماد، وما أنفقه لحمايته من الآفات، ويقاس على الزرع غيره كإيراد المصانع، والعمارات، ونحوها، أما بالنسبة لعروض التجارة فإن النفقات ترفع فعلًا؛ لأن الزكاة إنما تؤخذ مما بقي من الأصل، والربح، إلى نهاية الحول، فما كان من نفقة فقد انقرض ما لم يكن منها دينار، كإيجار المحل الذي لم يُدفع فيطرح، ويزكي الباقي.

وأما بالنسبة للماشية فإن ما أُنفق عليها يُخصم من نصاب الزكاة، كالزروع، وعروض التجارة.

وبهذا نكون قد انتهينا من هذه المحاضرة استودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 250