الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم احترام الأحلاف العربية الإنسانية المعقودة في الجاهلية، فقال -في حلف الفضول الإنساني الذي حضره وهو شاب لنصرة المظلوم، وحماية زعيم مكة-:((لقد شاهدت -في دار عبد الله ابن جدعان- حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو ادعي به في الإسلام لأجبت)) وقال صلى الله عليه وسلم -مؤكدًا ضرورة الوفاء بأحلاف الجاهلية الخيرة-: ((أوفوا بحلف الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفًا في الإسلام)) أي أن الإسلام يقر المعاهدة على نصرة الحق والخير -أيًا كان مصدره- ويمنع التحالف على الفتن، والقتال القبلي، والعدوان الهمجي.
أنواع المعاهدات أو العقود:
المعاهدات بحسب مدتها؛ إما مؤقتة -كالأمان والهدنة- أو مطلقة دائمة كعقد الذمة.
والمعاهدات بحسب غرضها، أو هدفها: إما ذات صفة دينية، أو سياسية داخلية، أو خارجية، أو تجارية، وهي بهذا الهدف تشمل ما يأتي:
أولاً: عهود الإيمان، أو المبايعة على الإسلام أو الجهاد.
ثانيًا: المعاهدات السياسية.
ثالثًا: المعاهدات التجارية.
أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المحاضرة الرابعة والأربعون: أنواع المعاهدات وأحكامها في الفقه الإسلامي
أنواع المعاهدات في الشريعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فسنتحدث اليوم عن أنواع المعاهدات، وتنظيمها، وآثارها في الفقه في الإسلام؛ فنقول: يمكن القول بأنه يمكن تقسيم المعاهدات إلى قسمين: معاهدات سياسية، ومعاهدات اقتصادية.
فالمعاهدات الاقتصادية في مفهوم الإسلام: هي التي تتم مع غير المسلمين بقصد نشر الإسلام، وتبليغ دعوة الله، أو لإنهاء الحرب، أو من أجل السلم، والأمان بقصد دخول دار الإسلام للزيارة، أو لسماع كلام الله أو للتفاوض، أو للتجارة، ونحو ذلك من مهمات الأجانب.
وأنواع المعاهدات السياسية أربعة، وهي:
1 -
المعاهدة بقصد التعايش السلمي بين المسلمين، وغيرهم في بلدٍ واحد.
2 -
عهود الأمان.
3 -
معاهدات السلم الخارجية، أو ما نطلق عليه: الصلح، أو الهدنة.
4 -
معاهدات الصلح الدائم، أو ما نطلق عليه: عقد الذمة.
والكلام على هذه الأنواع فيما يلي: النوع الأول: معاهدة التعايش السلمي لى نحوٍ أهم من عقد الذمة، وهذه المعاهدة هي التي تتم بين المسلمين، وغيرهم على أساسٍ آخر غير عقد الذمة لصيانة السلم، والأمن الداخلي -في دار الإسلام- دون التزام دفع عوض مالي للمسلمين.
ومضمون هذه المعاهدة هو: تأمين غير المسلمين على أنفسهم، وأموالهم، وعقد تحالف، وتناصر، وتعاون متبادل بين المسلمين، وغيرهم في دار الإسلام، دون تحديد بمدة، من أمثلة ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة- كان أول عملٍ سياسيٍ عمله هو: أنه عاهد القبائل التي سكنت ما بين المدينة، وساحل البحر الأحمر، وغير ذلك من قبائل.
وما كاد يستقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ حتى عقد صلحًا دائمًا آخر مع طوائف المدينة، وفق فيه بين الأوس، والخزرج على أساس حسن الجوار، ومع اليهود أيضًا؛ فأقرهم فيه على دينهم، وعلى أموالهم، فكانت هذه المعاهدة أولَ معاهدة سياسية -بالمعنى الصحيح- بين المسلمين وقبائل المدينة، وبين اليهود -بفرقهم المختلفة- حرم فيها الاعتداء بين أطراف المعاهدة، والتزموا بالتعاون والتضامن لدرء العدوان الخارجي، وعقدوا بما يشبه التحالف الدفاعي المشترك بين شعبين، وأوجبوا على أنفسهم المساهمة في الإنفاق المشترك في سبيل الدفاع، ونحو ذلك؛ مما ينظم صلات المسلمين مع بعضهم، وصلاتهم بغيرهم كأمم، أو شعوبٍ متجاورة، وذلك يعد نموذجًا طيبًا للمبادئ الرائعة في تنظيم حالة السلم، والأمن الدوليين.
ونلاحظ على هذه المعاهدة شيوع روح الحذر فيها من اليهود الماكرين، وتقرير دعائم السلم الواجب، والاعتراف بالحرية الدينية، وإعلان مبدأ وحدة المسلمين، وتضامنهم، ومساواتهم في الدماء والأموال والحقوق، واستقلال كلٍ من المسلمين، واليهود مع بقاء حسن الجوار.
وتقرر هذه المعاهدة مبدأ مناصرة اليهود حالة الاعتداء عليهم، وأن الاعتداء على فئة مسلمة؛ اعتداء على كل الأمة الإٍسلامية، وأنه لا يحل مناصرة المجرم -أي: المحدث حدثًا- وأن حل النزاع يكون بالاحتكام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن كلًا من اليهود، والمسلمين أمة مستقلة، يربطهم تحالف عسكري؛ لصد عدوان غيرهم، وأن هناك حرية دينية لكلٍ من المسلمين، واليهود، وأن أي خلافٍ يحل بالوسائط السلمية، وبالتناصح والتشاور لا بالحرب، ونصت المعاهدة صراحة على مبدأ نصرة المظلوم، ونصرة الجار، وأن المناصرة في حربٍ تكون مشروعة، وأن قريشًا عدو الطرفين
المتحالفين، وأن الطرفين ملزمان بإجابة الدعوة إلى أي صلح فيه صون السلام وتحقيق الآمان، وأن مدة المعاهدة باقية على الدوام ما لم ينقضها اليهود، وأن المدينة بلد مفتوح، وحرم آمن، ولكلٍ من الطرفين حرية البقاء، والانتقال.
النوع الثاني من المعاهدات الأساسية: عقود الأمان:
أوضحتُ أن المعاهدات السياسية؛ إما دائمة، أو مؤقتة، ويحدد ذلك طرفا المعاهدة، وليس موضوعه؛ فالمعاهدة المؤقتة بمدة معلومة، إن كانت مع عددٍ غير محصورٍ؛ فهو الأماني، وإن كانت مع عددٍ غير محصورٍ لغاية محددة؛ فهي الهدنة.
والأمان هو عقد يفيد ترك القتل، والقتال مع الحربيين، وهذا الأمان ينقسم إلى قسمين: أمان خاص، وأمان عام، فالأمان الخاص هو ما يكون للواحد، أو لعددٍ قليل محصور كعشرة فما دون -يعني: كعشرة فأقل- وأفضل تسميته عهدًا، لا معاهدة؛ فقد أصبحت المعاهدات في وقتنا هي المعقودة ما بين الدول، أو المنظمات الدولية، وكما أبنت في بحث المصطلحات، والتعريفات عند البداية، ويصح من كل مسلم مكلف مختار -أي أن هذا الأمان الخاص يصح من كل مسلم مكلف مختارٍ لقوله صلى الله عليه وسلم:((ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) ويقول صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)).
وأما الأمان العام هو ما يكون لجماعة كثيرة غير محدودة كأهل ولاية، ولا يعقده إلا الإمام، ونائبه -الهدنة وعقد الذمة- لأنه من المصالح العامة التي لا يستطيع تقديرها غير أولي الأمر.
ونظام الأمان يتسع لكل أنواع الحماية والرعاية المعروفة حديثًا لشخصٍ أجنبي وماله في بلاد الإسلام، أو لعقد الصلات السلمية وغيرها، وكانت فكرة الأمان من الأسس المهمة لتدعيم السلام؛ فمثلًا: كان إعطاء الأمان لوفود المسيحية في الحروب الصليبية -نتيجة التسامح الإسلامي- كان يعتبر كأساس للمعاملات الدولية، والأصل في مشروعية الأمان قول الله تبارك وتعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (التوبة: من الآية: 6).
قال ابن كثير -في تفسير الآية-: والغرض أن من قدم من دار الحرب في أداء رسالة، أو تجارة، أو طلب صلح، أو مهادنة، أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام، أو نائبه أمانًا؛ يعطى له ما دام مترددًا في دار الإسلام؛ حتى يرجع إلى داره ومأمنه.
وقد كان المشركون يطلبون لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل الكلام في الصلح، وغيره من مصالح دنياهم.
تأمين الرسل، والسفراء في الإٍسلام: لقد كفل الإسلام للرسل، والسفراء مختلف أنواع الحماية والرعاية والحصانة والتكريم؛ حتى وإن أرسلوا للمسلمين؛ ليتمكنوا من أداء مهمتهم، ويحققوا الخير والسلام للعالم، وذلك بنص القرآن الكريم في آية التوبة السابق ذكرها:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وأيضًا ثبت ذلك بالسنة القولية، والعملية؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل رسل مسيلمة الكذاب، وقال:((لو كنت قاتلًا رسولًا؛ لقتلتكم)).
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((فمضت السنة -أي: جرت السنة- أن الرسل لا تقتل)) وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث قريش إليه، بالرغم من إعلان إسلامه بمجرد
رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ((إني لا أخيس بالعهد -يعنى: لا أنقض العقد- ولا أخيس البرود -يعني: الرسل- ولكن ارجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع)).
وأجمع الفقهاء على مشروعية الأمان، وحماية الرسل والسفراء، وأجازوا للمبعوث السياسي أن يدخل بلاد المسلمين بدون حاجة إلى عقد أمان ولم يجيزوا الغدر برسل العدو وسفرائه؛ حتى ولو قتل الأعداء رهائن المسلمين الموجودين عندهم؛ فلا تقتل رسلهم؛ لقول بعض الصحابة: وفاء بعهد من غير غدر خير من غدر بغدر.
أما النوع الثالث من أنواع المعاهدات السياسية هو: معاهدات السلام الخارجية:
أو ما يطلق عليه معاهدات الصلح، أو الهدنة: الصلح المؤقت، أو الهدنة، أو الموادعة طريق من طرق إنهاء الحرب، وإقرار السلم بين المسلمين، وغيرهم، أو بين دار الإسلام، ودار الحرب، وهو مشروع لقوله تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (الأنفال: من الآية: 61).
وقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم صلحًا مشهورًا في عهد النبوة يصلح أثاثًا لعقود الصلح، ألا وهو: صلح الحديبية.
وأجمع العلماء على مشروعية المهادنة، والصلح المؤقت هو مصالحة أهل الحرب على ترك القتال -مدة معينة، بعوضٍ أو غيره، سواء كان فيهم من يقر على دينه، أم لم يقر، دون أن يكونوا تحت حكم الإسلام- أو هو صلح بين زعيمين في زمن معلومٍ بشروط مخصوصة.
والذي يعقد الهدنة هو الإمام، أو نائبه الذي يفوض إليه العقد، ولو تفويضًا عامًا، كولي الإقليم مثلًا؛ لأن الهدنة تحتاج إلى سعة نظر، وتقديرٍ للمصالح
العامة، وتدبيرٍ للقضايا الحربية، وما يترتب عليها من نتائج بعيدة المدى أو الأثر، ولا يتأتى ذلك لغير الإمام من آحاد الناس.
فإن تولى عقد الهدنة شخص عادي، دون تفويضٍ من الإمام؛ عد ذلك افتياتًا على الإمام أو نائبه، ولم يصح العقد عند جمهور الفقهاء.
كيف تم صلح الحديبية؟ وما هي أسبابه؟ أراد المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم أداء العمرة في البيت الحرام في آخر السنة السادسة من الهجرة؛ فصدهم المشركون عن الطواف بالبيت، ورضوا بعقد صلحٍ معهم، فيه شروط مجحفة بالمسلمين إيثارًا للسلام على الحرب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)) وكان من شروط الصلح: أن من جاء منكم -أي: من المسلمين- لا نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه إلينا؛ فقال الصحابة:((يا رسول الله أتكتب هذا؟ قال نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجًا، ومخرجًا)).
وكان لعمر رضي الله عنه معارضةٌ للصلح، ومناقشة الكثير من شروطه؛ حتى إنه أنكر على الرسول صلى الله عليه وسلم الصلح قائلًا:((يا رسول الله ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف، أمره، ولن يضيعني)).
وقد التزم المسلمون بتنفيذ بنود المعاهدة تمامًا؛ حتى إن أبا جندل بن سهيل بن عمر جاء مسلمًا إلى المسلمين؛ فطلب سهيل بن عمر رده إلى مكة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنا لم نقض الكتاب بعد)) ثم رده النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
واعترض الفاروق عمر على ذلك -كما بان سابقًا- قال: ((ألست نبي الله حقًا؟ قال: بلى، قال: عمر ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال عمر: فعلام نعط الدنية في ديننا إذن؟!)).
رد النبي أيضًا رجلًا آخر من قريشٍ جاء مسلمًا؛ فأرسلوا في طلبه رجلين تنفيذًا للعهد، واتفاق الفقهاء على أن عاقد الذمة هو ولي الأمر: الإمام، أو نائبه، هذا أمر لا بد منه؛ لأنها من المصالح العامة التي تحتاج إلى نظرٍ واجتهاد.
وذلك لا يتأتى لغير الإمام الذي يقدر مصلحة المسلمين العامة، وأما الصلح الخارجي؛ فيجوز عند جماعة من الفقهاء القائلين: بأن الأصل في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم: السلم لا الحرب، أي أنه يجوز عقد صلح دائمٍ مع غير المسلمين في ديارهم، لا في ديارنا التي اغتصبوها، أو احتلوها، على نحوٍ يوفر السلم والأمن والتعايش الودي، ويكفل نشر الدعوة الإسلامية بطريقٍ سلميٍ، قائم على أساس المنطق والحجة والبرهان، أو الحكمة والموعظة بتعبير القرآن الكريم.
وكذلك لا مانع شرعًا من عقد معاهدات بغرض حسن الجوار، والصداقة، والتعاون، وتبادل التجارة، أو لأي غرض من أغراض التعاقد الدولي لإقرار السلم، وتثبيت دعائمه، وتبادل المنافع؛ لئلا يكون بعد العهد احتمال اعتداءٍ إلا في حالةِ نقض العهد؛ لذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صالح قريش، وأبرم معهم صلح الحديبية، وهو نموذج واضح لمعاهدات الصلح الخارجية.
النوع الرابع -من المعاهدات السياسية-: المعاهدات الدائمة، أو ما يطلق عليه: الصلح الدائم، أو عقد الذمة:
يترتب على المعاهدة الدائمة إنهاء الحرب بصفة دائمة بين المسلمين، وغيرهم، أو بين دار الإسلام،
ودار الحرب، ويتم ذلك بأحد طريقين: داخلي، وخارجي، أما الداخلي؛ فهو عقد الذمة، وأما الخارجي؛ فهو معاهدة السلام الدائمة.
وعهد الذمة، أو عقد الذمة هو التزام تقرير غير المسلمين في ديارنا، وحمايتهم من أي عدوان، والدفاع عنهم في مقابل ضريبة بسيطة هي الجزية، بشرط التزام أحكام الإسلام، والاستلام من جهتهم؛ فيصبح الذميون مقيمين في دار الإسلام، ويكونون مواطنين مثل باقي المسلمين، ما داموا لم ينقضوا العهد ويعكروا الصفو.
وأمثلته الصلح الدائم من السنة النبوية كثيرة منها صلحه صلى الله عليه وسلم مع أهل نجران.
المعاهدات في عهد الراشدين:
استمرت الحروب في عهد الصحابة بين المسلمين، ودولتي الروم، والفرس؛ فلم تعد المعاهدات لتنظيم السلم، أو المناصرة، أو التعاون، وإنما كانت إما لعقد الهدنة، أو لعقد الذمة بعد تخيير الأعداء -قبل بدء الحرب- بين أمور ثلاث: إما الإسلام، أو صلح الذمة، أو القتال، ونكتفي هنا بذكر مثالين بمعاهدتين عقدتا في عصر الراشدين:
أول معاهدة: كتاب عمر بن العاص لأهل مصر الذين اختاروا البقاء على المسيحية، جاء فيه:"أعطاهم الأمان على أنفسهم، وملتهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبهم، وبرهم، وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك، ولا ينتقص، ومن دخل في صلحهم من الروم؛ فلهم مثل ما لهم، وعليه ما عليهم، هذا لمن أراد المقام في سلطاننا، وأما من أبى واختار الذهاب مع الروم؛ فهو آمن؛ حتى يبلغ مأمنه".
والنوع الثاني: وهو صلح عمر مع أهل إيلياء -أي: القدس- وهو صلح مشهور، وله أهميته الكبرى في التاريخ الإسلامي، جاء فيه:"هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم؛ أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن إيلياء معهم أحد من اليهود".
والواقع أن هذه المعاهد تعد مثلًا رائعًا من أمثلة الحفاظ على غير المسلمين؛ حتى أنه لم يرض عمر بأداء الصلاة في كنيسة القيامة؛ خشية أن يقتدي به المسلمون، ويقولون: هنا صلى عمر؛ فتصبح الصلاة في داخل الكنيسة حقًا، وقد يؤدي ذلك إلى الاستيلاء على الكنيسة.
وفيها أيضًا: أقر حرية التدين، والتنقل، وأيضًا تكليفهم بأداء الجزية القليلة المقدار.
وحدثت في العهد الرشيدي معاهدات أخرى كثيرة تؤكد مضمون هذه المعاهدة، مثل معاهدة خالد بن الوليد لأهل دمشق المتضمنة تأمينهم على دمائهم، وأموالهم، وكنائسهم مقابل الجزية.
ثم ننتقل إلى النوع الثاني من أنواع المعاهدات للإسلام، وهو المعاهدات التجارية:
فنقول: يجوز شرعًا عقد المعاهدات التجارية، وتنظيم المبادلات الخارجية مع غير المسلمين تأييدًا للأصل العام في علاقة المسلمين بغيرهم، وإقرارًا لمبدأ حرية التجارة، وتوفيرًا للموارد الضرورية التي يحتاجها المسلمون في شئون الحياة المعاشية، وعملًا بالسنة النبوية التقريرية؛ إذ أقر النبي صلى الله عليه وسلم حلف المطيبين بين