الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقُرْآنِ بِاللُّحُونِ الْمُرَجَّعَةِ كَتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ وَلْيُجَلَّ كِتَابُ اللَّهِ الْعَزِيزِ أَنْ يُتْلَى إلَّا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَمَا يُوقَنُ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بِهِ وَيُقَرِّبُ مِنْهُ مَعَ إحْضَارِ الْفَهْمِ لِذَلِكَ.
وَمِنْ الْفَرَائِضِ
الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ
عَلَى كُلِّ مَنْ بُسِطَتْ يَدُهُ فِي الْأَرْضِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ تَصِلُ يَدُهُ إلَى ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِقَلْبِهِ وَفُرِضَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُرِيدَ
ــ
[الفواكه الدواني]
مُشَاهَدٌ الْيَوْمَ لِبَعْضِ النَّاسِ. (وَلَا) يَحِلُّ لَك أَيْضًا (أَنْ تَتَلَذَّذَ بِسَمَاعِ كَلَامِ امْرَأَةٍ) وَلَوْ بِالْقُرْآنِ حَيْثُ كَانَتْ (لَا تَحِلُّ لَك) وَلِذَلِكَ يُطْلَبُ مِنْ الْمَرْأَةِ الْإِسْرَارَ بِقِرَاءَتِهَا وَلَوْ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ وَلَوْ عِنْدَ مَحْرَمِهَا، وَمِثْلُ الْمَرْأَةِ فِي حُرْمَةِ التَّلَذُّذِ بِكَلَامِهَا الْأَمْرَدُ، وَأَمَّا سَمَاعُ كَلَامِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ تَلَذُّذٍ بِهِ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، وَأَمَّا قَصْدُ الِالْتِذَاذِ بِكَلَامِ مَنْ تَحِلُّ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ أَمَةٍ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ مِنْ نَوْعِ مَا لَا يَصْدُرُ إلَّا مِنْ الزَّوْجَةِ وَحَرَّرَهُ. (وَلَا) يَحِلُّ لَك أَيْضًا أَنْ تَتَعَمَّدَ (سَمَاعَ شَيْءٍ مِنْ الْمَلَاهِي) كَالْمِزْمَارِ وَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْغِرْبَالُ وَهُوَ الدُّفُّ الْمَعْرُوفُ بِالطَّارِّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهُ وَسَمَاعُهُ فِي النِّكَاحِ.
قَالَ خَلِيلٌ مُخْرِجًا مِنْ الْكَرَاهَةِ لَا الْغِرْبَالَ وَلَوْ لِرَجُلٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ مُوَافِقٌ لِإِطْلَاقِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَوْ كَانَ فِيهِ جَلَاجِلُ أَوْ صَرَاصِيرُ كَمَا فِي الْأُجْهُورِيِّ، وَأَمَّا الْكِبْرُ وَهُوَ الطَّبْلُ الْكَبِيرُ وَالْمِزْهَرُ فَفِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَفِي الْكِبْرِ وَالْمِزْهَرِ ثَالِثُهَا يَجُوزُ فِي الْكِبْرِ ابْنُ كِنَانَةَ وَتَجُوزُ الزَّمَّارَةُ وَالْبُوقُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ وَغَيْرِهِ الْمَنْعُ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ لِخَبَرِ «كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الْمُؤْمِنُ بَاطِلٌ إلَّا مُلَاعَبَةَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَرَمْيَهُ عَنْ قَوْسِهِ» وَالْبَاطِلُ خِلَافُ الْحَقِّ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَالْأَصْلُ فِي النَّهْيِ التَّحْرِيمُ.
وَبَحَثَ الْغَزَالِيُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَى حُرْمَةِ سَمَاعِ الْمَلَاهِي إذْ غَايَةُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى سَمَاعِهَا عَدَمُ الْفَائِدَةِ. وَيُؤَيِّدُ بَحْثَ الْغَزَالِيِّ قَوْلُ الْفَاكِهَانِيِّ مِنْ عُلَمَائِنَا: لَا أَعْلَمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةً صَرِيحَةً وَلَا فِي السُّنَّةِ حَدِيثًا صَحِيحًا صَرِيحًا فِي تَحْرِيمِ الْمَلَاهِي، وَإِنَّمَا هِيَ ظَوَاهِرُ وَعُمُومَاتٌ تُوهِمُ الْحُرْمَةَ لَا أَدِلَّةٌ قَطْعِيَّةٌ. (وَلَا) يَحِلُّ لَك أَيْضًا سَمَاعُ (الْغِنَاءِ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَالْمَدِّ وَهُوَ الصَّوْتُ الْمُتَقَطِّعُ الَّذِي فِيهِ تَرَنُّمٌ لِتَحْرِيكِ الْقَلْبِ وَالْمُحَرَّمُ سَمَاعُهُ مَا كَانَ بِآلَةٍ وَمِمَّنْ يُلْتَذُّ بِصَوْتِهِ وَإِلَّا كَانَ مَكْرُوهًا.
قَالَ عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ: صِفَةُ الْغِنَاءِ الَّذِي مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مَا كَانَ مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ لِلتَّهْيِيجِ عَلَى فِعْلِ الْكَرْمِ وَالْمُفَاخَرَةِ بِالشَّجَاعَةِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْمُحَرَّمُ مَا كَانَ مُشَوِّقًا لِفِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَمُشْتَمِلًا عَلَى تَكَسُّرٍ أَوْ فِعْلِ شَيْءٍ مِمَّا لَا يَحِلُّ كَالتَّشْبِيبِ بِأَهْلِ الْجَمَالِ، وَقَالَ بَهْرَامَ فِي الشَّامِلِ: وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الْمُغَنِّي وَالْمُغَنِّيَةِ وَالنَّائِحِ وَالنَّائِحَةِ، وَسَمَاعُ الْعُودِ حَرَامٌ عَلَى الْأَصَحِّ إلَّا فِي عُرْسٍ أَوْ صَنِيعٍ لَيْسَ فِيهِ شَرَابٌ مُسْكِرٌ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ فَقَطْ انْتَهَى، وَغَيْرُ الْعُودِ مِنْ بَقِيَّةِ الْآلَاتِ الَّتِي يُلْعَبُ بِهَا يَجْرِي فِيهَا مَا فِي الْعُودِ، وَأَمَّا سَمَاعُ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمَعْرُوفُ بِالتَّحْزِينَةِ فَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ حَيْثُ يَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ إرْشَادٌ أَوْ زِيَادَةُ يَقِينٍ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَبُ شَرْعًا، وَلَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُنْكَرُ كَاجْتِمَاعِ نِسَاءٍ أَوْ صِبْيَانٍ يُتَوَقَّعُ الِالْتِذَاذُ بِهِمْ وَإِلَّا مُنِعَ، وَاعْلَمْ أَنْ مَا لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ عَلَى مَا يَظْهَرُ، وَأَمَّا الْغِنَى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ فَهُوَ الْيَسَارُ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ فَهُوَ النَّفْعُ. (وَلَا) يَحِلُّ لَك أَيْضًا (قِرَاءَةُ) شَيْءٍ مِنْ (الْقُرْآنِ بِاللُّحُونِ الْمُرَجَّعَةِ) أَيْ الْأَصْوَاتِ الَّتِي يُرَجِّعُهَا الْقَارِئُ. (كَتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ) وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الْحِلِّ الْكَرَاهَةُ إلَّا أَنْ يُخْرِجَهُ التَّرْجِيعُ عَنْ حَدِّ الْقِرَاءَةِ، كَقَصْرِ الْمَمْدُودِ وَمَدِّ الْمَقْصُورِ، وَكَمَا لَا تَحِلُّ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَا يَحِلُّ سَمَاعُهَا، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُطْلَبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ مَعَ النَّغَمَاتِ الْمَعْرُوفَةِ بِنَحْوِ عُشَّاقٍ مَعَ تَجْوِيدِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، بَلْ يُكْسِبُ السَّامِعَ الْخُشُوعَ وَالِاتِّعَاظَ بِكَلِمَاتِ الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ مِنَّا مِنْ لَمْ يَتَلَذَّذْ بِسَمَاعِهِ لِرِقَّةِ قَلْبِهِ وَشَوْقِهِ إلَى مَا عِنْدَ رَبِّهِ، كَمَا يُلْتَذُّ أَهْلُ الْغَوَانِي بِسَمَاعِ غَوَانِيهِمْ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْوَاجِبُ احْتِرَامُ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَلِذَلِكَ قَالَ:(وَلِيُجِلَّ كِتَابَ اللَّهِ الْعَزِيزِ) أَيْ يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ (أَنْ يُتْلَى إلَّا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ) أَيْ طُمَأْنِينَةٍ وَتَعْظِيمٍ.
(وَ) يَقْرَؤُهُ الْقَارِئُ عَلَى (مَا يُوقِنُ أَنَّ اللَّهَ) تَعَالَى (يَرْضَى بِهِ) مِنْ الْأَحْوَالِ (وَيُقَرِّبُ) بِشَدِّ الرَّاءِ (مِنْهُ) بِأَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى طَهَارَةٍ وَفِي مَكَان طَاهِرٍ وَمِنْ جُلُوسٍ وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ، وَ (مَعَ إحْضَارِ الْفَهْمِ لِذَلِكَ) الَّذِي يَتْلُوهُ بِأَنْ يُلَاحِظَ أَنَّهُ الْمَنْهِيُّ عِنْدَ آيَةِ النَّهْيِ، وَأَنَّهُ الْمَأْمُورُ عِنْدَ آيَةِ الْأَمْرِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ:«لَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا» .
[الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ]
(وَمِنْ الْفَرَائِضِ) عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ (الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ) وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ بِهِ، وَالْمُنْكَرُ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ عَنْهُ، وَقَدَّمَ الْمَعْرُوفَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهُ عَلَى الْمُنْكَرِ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا، وَأَيْضًا أَمَرَ إبْلِيسَ بِالسُّجُودِ أَوَّلًا وَنَهَى آدَمَ بَعْدَهُ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الْمَذْكُورَانِ (عَلَى كُلِّ مَنْ بُسِطَتْ يَدُهُ) أَيْ انْتَشَرَ حُكْمُهُ (فِي الْأَرْضِ) لِكَوْنِهِ سُلْطَانًا أَوْ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا.
(وَ) كَذَا يَجِبُ (عَلَى كُلِّ مَنْ تَصِلُ يَدُهُ) مِنْ غَيْرِ الْحُكَّامِ (إلَى ذَلِكَ) مِمَّنْ لَهُ شَأْنٌ وَعَظَمَةٌ فِي نُفُوسِ النَّاسِ بِحَيْثُ يُمْتَثَلُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ لِعُمُومِ آيَةِ:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
لَكِنَّ نَحْوَ السُّلْطَانِ صِفَةُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ أَنْ يُعَرِّفَ الْمَأْمُورَ أَوْ الْمَنْهِيَّ بِذَلِكَ، فَإِنْ امْتَثَلَ بِمُجَرَّدِ التَّعَرُّفِ وَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ هَدَّدَهُ بِالضَّرْبِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ ضَرَبَهُ بِالْفِعْلِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ أَشْهَرَ لَهُ السِّلَاحَ إنْ وَجَبَ قَتْلُهُ، وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ مَرْتَبَةٍ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ إفَادَةِ مَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا غَيْرُ نَحْوِ السُّلْطَانِ فَإِنَّمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى بِالْقَوْلِ الْأَرْفَقِ فَالْأَرْفَقِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:(فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) الْمُكَلَّفُ عَلَى الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ بِيَدِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ سُلْطَانٍ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ مِنْ نَحْوِ الْأَبِ وَالسَّيِّدِ وَالزَّوْجِ لِأَنَّ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ لَا يَأْمُرُ بِالْيَدِ، وَحِينَئِذٍ فَمَعْنَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَدَمُ التَّمَكُّنِ شَرْعًا مِنْ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ بِالْيَدِ. (فَبِلِسَانِهِ) أَيْ فَيَأْمُرُ وَيَنْهَى بِلِسَانِهِ. (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) عَلَى الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ بِلِسَانِهِ لِشِدَّةِ صَوْلَةِ مَنْ يُرَادُ أَمْرُهُ أَوْ نَهْيُهُ (فَبِقَلْبِهِ) أَيْ فَيَأْمُرُ وَيَنْهَى بِقَلْبِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: لَوْ كُنْت أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِيَدِي أَوْ لِسَانِي لَفَعَلْت، وَيَبْغَضُ ذَلِكَ مَعَ تَرْكِ مُخَالَطَةِ الْمُتَلَبِّسِ بِالْمُنْكَرِ إنْ اسْتَطَاعَ، وَإِلَّا انْتَقِلْ إلَى الْمُدَارَاةِ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَمَشْرُوعَةٌ لِخَبَرِ:«أُمِرْت بِالْمُدَارَاةِ لِلنَّاسِ كَمَا أُمِرَتْ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ» وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا بَذْلُ الدُّنْيَا لِحِفْظِ الدِّينِ أَوْ الْعِرْضِ أَوْ الْجَاهِ، بِخِلَافِ الْمُدَاهَنَةِ فَإِنَّهَا بَذْلُ الدِّينِ لِحِفْظِ الدُّنْيَا وَهِيَ حَرَامٌ إلَّا لِمَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ. وَفَرِيضَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] . وَ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الْآيَةَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» أَيْ الْأَعْمَالِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَهُ كَانُوا يَتَوَاصَوْنَ بِذَلِكَ وَيَنْهَوْنَ تَارِكَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ قُلْت: فَمَا الْجَوَابُ عَنْ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة: 105] وقَوْله تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] وَعَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى لَا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا نَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الْبُخْلُ فِي خِيَارِكُمْ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي أَرْذَالِكُمْ، وَإِذَا كَانَ الِادِّهَانُ فِي كِبَارِكُمْ، وَإِذَا كَانَ الْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ» . فَالْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ لِلْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ عَدَمَ الضَّرَرِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَضُرُّ النَّاهِيَ عِنَادُهُمْ وَإِصْرَارُهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِآيَةِ:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ عِنْدَ فَوَاتِ الشَّرْطِ بِلُزُومِ الْمَفْسَدَةِ أَوْ انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْكِفَايَةِ إنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ أَوْ اللِّسَانِ وَأَمَّا بِالْقَلْبِ فَفَرْضُ عَيْنٍ، وَذَكَرُوا لِذَلِكَ شُرُوطًا، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، فَمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا الْمُنْكَرِ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى. وَثَانِيهَا: أَنْ يَأْمَنَ أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ إلَى مُنْكِرٍ أَكْبَرَ مِنْهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْإِفَادَةُ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، فَالْأَوَّلَانِ لِلْجَوَازِ وَالثَّالِثُ لِلْوُجُوبِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ ظَاهِرًا بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَجَسُّسٍ وَلَا اسْتِرَاقِ سَمْعٍ وَلَا بَحْثٍ بِوَجْهٍ كَتَفْتِيشِ دَارٍ أَوْ ثَوْبِهِ لِحُرْمَةِ السَّعْيِ فِي ذَلِكَ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ يَكُونَ مُدْرَكُ عَدَمِ التَّحْرِيمِ فِيهِ ضَعِيفًا كَالنَّبِيذِ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّ يَقُولُ بِحِلِّهِ فَمَنْ فَعَلَ الْمُخْتَلَفَ فِي تَحْرِيمِهِ فَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ التَّحْرِيمُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ تَقْلِيدَ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ الْحُرْمَةِ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، كَالْمَالِكِيِّ يَأْكُلُ الْبَصَلَ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُ الْمُخَالِفِ فِيهِ ضَعِيفًا فَيُنْكَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُنْكَرُ عَلَى مُعْتَقِدِ حِلِّهِ حَيْثُ كَانَ يَنْقُضُ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِقَاطِعٍ أَوْ جَلِيِّ قِيَاسٍ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ كَانَ جَاهِلًا وَالْمُدْرِكُ فِي الْحِلِّ وَعَدَمِهِ مُتَوَازٍ فَإِنَّهُ يُرْشِدُ لِلتَّرْكِ بِرِفْقٍ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَلَا تَوْبِيخٍ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الشُّرُوطَ خَمْسَةٌ وَلَيْسَ مِنْهَا عَدَالَةُ الْآمِرِ وَلَا إذْنُ الْإِمَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ فَيَجِبُ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ نَهْيُ غَيْرِهِ عَنْ شُرْبِهِ، نَعَمْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: يَنْبَغِي لِلْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ بِصُورَةِ مَنْ يُقْبَلُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَالَمِ عِنْدَ نَزْعِ عِمَامَتِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ إذَا كَانَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهَا، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِالرِّفْقِ، فَلَا يُرْتَكَبُ فِي ذَلِكَ غَلِيظُ الْقَوْلِ وَلَا الشَّتْمُ إلَّا فِي نَحْوِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ كَمَا مَرَّ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: وُجُوبُ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ كَوْنُ الْمُتَلَبِّسِ بِهِ عَاصِيًا بَلْ الشَّرْطُ كَوْنُهُ مَعْصِيَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاجِبَةَ الدَّرْءِ لِمَنْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ لَبَنًا، أَوْ تَرَكَ أَمْرًا وَاجِبًا فِعْلُهُ كَصَلَاةِ فَرْضٍ قَبْلَ عِلْمِهِ بِفَرْضِيَّتِهَا فَيَجِبُ النَّهْيُ وَالْأَمْرُ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ عِصْيَانِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَتْ تَأْمُرُ وَتَنْهَى أُمَمَهَا أَوَّلَ بَعْثَتِهَا، وَمَعْلُومٌ عَدَمُ عِصْيَانِهِمْ إذْ ذَاكَ.
الثَّانِي: يَجِبُ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِمَا عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ أَوْ الْمَنْهِيُّ جَمَاعَةً لَوَجَبَ خِطَابُهُمْ
بِكُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ مِنْ الْبِرِّ وَجْهَ اللَّهِ الْكَرِيمِ وَمَنْ أَرَادَ بِذَلِكَ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يُقْبَلْ عَمَلُهُ وَالرِّيَاءُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ،
وَالتَّوْبَةُ
ــ
[الفواكه الدواني]
بِلَفْظِ الْجَمْعِ نَحْوَ: قُومُوا لِلصَّلَاةِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.
الثَّالِثُ: تَعْبِيرُهُ بِقَوْلِهِ وَمِنْ الْفَرَائِضِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ يَقْتَضِي قَصْرَ الْمَعْرُوفِ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُنْكَرِ عَلَى الْمُحَرَّمِ وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الرَّاجِحِ لِأَنَّهُمَا يَنْصَرِفَانِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِلْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَنْدُوبِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَكْرُوهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ فِي كَوْنِهِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا قَوْلَانِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُمَا أَرْجَحِيَّةُ النَّدْبِ كَنَدْبِ النَّهْيِ عَنْ الْمَكْرُوهِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُطْلَبُ مِنْ الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ مَعَ غَيْرِهِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مِنْ إخْلَاصِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ بِقَوْلِهِ:(وَفَرْضٌ) بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ (عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ) مُكَلَّفٍ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (أَنْ يُرِيدَ) أَنْ يَقْصِدَ (بِكُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ مِنْ) أَعْمَالِ (الْبِرِّ) وَلَوْ مَنْدُوبَةً وَمَفْعُولُ يُرِيدُ (وَجْهَ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَ) هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِخْلَاصِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] وَالْإِخْلَاصُ إفْرَادُ الْمَعْبُودِ بِالْعِبَادَةِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَالْكِتَابُ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:«إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَالْإِجْمَاعُ قَائِمٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْإِخْلَاصِ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاَللَّهِ قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةٍ، وَإِنَّمَا فَرَضَ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْعَمَلَ لِوَجْهِ اللَّهِ حَتَّى يُرْجَى قَبُولُهُ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ الْفَاءِ الَّتِي كَانَتْ أَوْلَى مِنْ الْوَاوِ قَوْلَهُ:(وَمَنْ) عَمِلَ عَمَلًا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ وَقَدْ (أَرَادَ بِذَلِكَ غَيْرَ اللَّهِ) بِأَنْ أَرَادَ بِهِ النَّاسَ (لَمْ يُقْبَلْ) أَيْ وَلَمْ يَصِحَّ (عَمَلُهُ) لِأَنَّ إرَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ بِالْعَمَلِ مَحْضُ رِيَاءٍ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: الرِّيَاءُ إيقَاعُ الْقُرْبَةِ يَقْصِدُ بِهَا النَّاسَ، فَلَا يَتَأَتَّى فِي غَيْرِ الْقُرْبَةِ كَالتَّجَمُّلِ بِاللِّبَاسِ، وَخَرَجَ إرَادَةُ غَيْرِ النَّاسِ بِالْقُرْبَةِ فَلَيْسَ بِرِيَاءٍ، كَمَنْ حَجَّ لِيَتَّجِرَ أَوْ جَاهَدَ لِيَغْنَمَ. (وَالرِّيَاءُ) يُقَالُ لَهُ (الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ) فَهُوَ مُحَرَّمٌ إجْمَاعًا سَوَاءٌ الرِّيَاءُ الْخَالِصُ وَهُوَ إيقَاعُ الْقُرْبَةِ لِقَصْدِ النَّاسِ فَقَطْ، وَرِيَاءُ الشِّرْكِ وَهُوَ الْعَمَلُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَالنَّاسِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَخَفُّ مِنْ الْأَوَّلِ، وَهَذَانِ يُقَالُ لَهُمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ وَيُبْطِلَانِ الْعِبَادَةَ كَمَا عَرَفْت، وَأَمَّا الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ فَهُوَ كُفْرٌ لِأَنَّهُ الَّذِي يَجْعَلُ فِيهِ الشَّخْصُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا غَيْرَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِخْلَاصَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَهُوَ قَصْدُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً ظَاهِرَةً أَوْ خَفِيَّةً، فَإِنْ شَمِلَ الرِّيَاءُ جَمِيعَ الْعِبَادَةِ بَطَلَتْ إجْمَاعًا كَمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ، وَإِنْ شَمِلَ بَعْضَهَا وَتَوَقَّفَ آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِهَا كَالصَّلَاةِ فَفِي صِحَّتِهَا تَرَدُّدٌ، وَإِنْ عَرَضَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا أُمِرَ بِدَفْعِهِ وَعَمَلِهَا وَإِنْ تَعَذَّرَ وَلَصِقَ بِصَدْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ مَنْدُوبَةً تَعَيَّنَ لِتَقْدِيمِ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمَنْدُوبِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً أُمِرَ بِمُجَاهِدَةِ النَّفْسِ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا قَدَّرْنَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَلَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يُقْبَلُ عَمَلُهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الصِّحَّةِ، لِأَنَّ الصِّحَّةَ قَدْ تُوجَدُ مَعَ عَدَمِ الْقَبُولِ، إذَا الصِّحَّةُ سُقُوطُ الْأَدَاءِ بِفِعْلِ الْمُؤَدَّى بِشُرُوطِهِ وَفَقْدِ مَوَانِعِهِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْ الْفَاعِلِ، وَأَمَّا الْقَبُولُ فَهُوَ الرِّضَا بِالْعَمَلِ مَعَ الْإِثَابَةِ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُ مَنْعُ الصِّحَّةِ، بِخِلَافِ الصِّحَّةِ قَدْ تُوجَدُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَبُولَ أَخَصُّ وَالصِّحَّةُ أَعَمُّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ نَفْيُ الْأَعَمِّ مَكَانَ الْأَنْسَبِ، أَنْ لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ لَمْ يَصِحَّ عَمَلُهُ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الرِّيَاءِ مُبْطِلٌ لِلْعِبَادَةِ إجْمَاعًا، وَالْبَاطِلُ وَالْفَاسِدُ عِنْدَنَا بِمَعْنًى، وَلَعَلَّهُ آثَرَ التَّعْبِيرَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ لِأَنَّهُ مَلْزُومٌ لِعَدَمِ الصِّحَّةِ غَالِبًا، وَبَنَوْا عَلَى مَا قَرَّرْنَا مِنْ أَهَمِّيَّةِ الصِّحَّةِ وَأَخَصِّيَّةِ الْقَبُولِ صِحَّةَ الدُّعَاءِ بِتَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ عَقِبَ الْعَمَلِ الصَّحِيحِ، وَلَوْ كَانَ يَلْزَمُ عَنْ الصِّحَّةِ الْقَبُولُ لَلَزِمَ طَلَبُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ فَافْهَمْ.
الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الرِّيَاءَ مُفْسِدٌ لِلْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ فَرْضِيَّةُ الْإِخْلَاصِ وَعَدُّهُ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ، مَعَ أَنَّا لَمْ نَرَ مَنْ عَدَّهُ مِنْ فَرَائِضِهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ فَرْضِيَّةُ النِّيَّةِ كَافِيَةٌ لِتَضَمُّنِهَا لَهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْعَمَلَ لِلَّهِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: النِّيَّةُ هِيَ الْإِخْلَاصُ لِأَنَّ النَّاوِيَ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ خَالِقِهِ قَدْ قَصَدَ وَجْهَهُ بِالْعِبَادَةِ.
الثَّالِثُ: فُهِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا عَمِلَ لِوَجْهِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ عِلْمِ النَّاسِ بِعِلْمِهِ وَمَدْحِهِمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ لَا يُبْطِلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ رِيَاءً، كَمَا لَا يَبْطُلُ عَمَلُهُ بِعَجَبِهِ بِعَمَلِهِ أَيْ بِرُؤْيَتِهِ حَسَنًا وَاسْتِعْظَامِهِ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إسَاءَةُ أَدَبٍ مَعَ الْبَارِئِ سبحانه وتعالى.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] أَيْ مَا عَبَدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ، وَكَذَا لَا يَبْطُلُ بِالتَّسْمِيعِ وَهُوَ إعْلَامُ النَّاسِ بِعِلْمِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ لِقَصْدِ تَعْظِيمٍ أَوْ إعْطَاءِ دُنْيَا، وَلَا شَكَّ فِي حُرْمَةِ التَّسْمِيعِ كَالْعُجْبِ لِخَبَرِ مَنْ سَمَّعَ بِالتَّشْدِيدِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ يُنَادَى عَلَيْهِ فُلَانٌ قَدْ عَمِلَ عَمَلًا أَرَادَ بِهِ غَيْرِي، وَإِنَّمَا لَمْ يُبْطِلْ الْعُجْبُ وَالتَّسْمِيعُ الْعِبَادَةَ لِحُصُولِهِمَا بَعْدَ الْعِبَادَةِ.
(فَائِدَةٌ) وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّقِيَ الرِّيَاءَ وَلَا