الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابٌ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ
وَإِذَا أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَوَاجِبٌ عَلَيْك أَنْ تَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ
وَتَتَنَاوَلَ بِيَمِينِك
فَإِذَا فَرَغْت فَلْتَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَحَسَنٌ أَنْ تَلْعَقَ يَدَك قَبْلَ مَسْحِهَا
وَمِنْ آدَابِ الْأَكْلِ أَنْ تَجْعَلَ بَطْنَك ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلنَّفَسِ
وَإِذَا أَكَلْت مَعَ غَيْرِك
ــ
[الفواكه الدواني]
[بَابٌ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ]
(بَابٌ فِي) بَيَانِ آدَابِ اسْتِعْمَالِ (الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ) لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا غِنَى لَهُ عَنْهُمَا، جَعَلَهُمَا سبحانه وتعالى سَبَبًا لِبَقَاءِ بِنْيَتِهِ وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَيَنْبَغِي لَهُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِمَا أَنْ يَقْصِدَ بِهِمَا قِيَامَ الْبِنْيَةِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ لَا مُجَرَّدَ شَهْوَةِ النَّفْسِ، وَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ، إذْ كَثِيرًا مَا يَنْقَلِبُ الْمُبَاحُ طَاعَةً بِحَيْثُ يُثَابُ عَلَيْهِ الْفَاعِلُ بِالنِّيَّةِ، وَهَذَا شَأْنُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَقَعُ الْمُبَاحُ مِنْهُمْ إلَّا عَلَى وَجْهٍ بِحَيْثُ يُثَابُونَ عَلَيْهِ، وَالْآدَابُ الْمَذْكُورَةُ مِنْهَا سَابِقٌ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَمِنْهَا لَاحِقٌ، وَمِنْهَا مُقَارِنٌ، فَمِنْ السَّابِقَةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:(وَإِذَا أَكَلْت أَوْ شَرِبْت) أَيْ أَرَدْت فِعْلَهُمَا (فَوَاجِبٌ عَلَيْك) وُجُوبَ السُّنَنِ (أَنْ تَقُولَ بِاسْمِ اللَّهِ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَقِيلَ تَقْتَصِرُ عَلَى بِسْمِ اللَّهِ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ عَلَى التَّسْمِيَةِ:«وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا رَزَقْتنَا» وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لَبَنًا تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ: وَزِدْنَا مِنْهُ، وَيُنْدَبُ الْجَهْرُ بِهَا لِيَتَنَبَّهَ الْغَافِلُ عَنْهَا وَيَتَعَلَّمَ الْجَاهِلُ، وَإِذَا نَسِيَهَا فِي أَوَّلِهِ أَتَى بِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَتَقَايَأُ مَا أَكَلَهُ، وَالْمُرَادُ يَتَقَايَؤُهُ خَارِجَ الْإِنَاءِ، وَالتَّسْمِيَةُ سُنَّةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ.
(وَ) الْآدَابُ الْمُقَارِنَةُ أَنْ (تَتَنَاوَلَ) الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ (بِيَمِينِك) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ لِخَبَرِ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ» . وَاخْتَلَفَ الشُّيُوخُ فِي أَكْلِهِ فَقِيلَ حَقِيقَةً وَقِيلَ مَجَازًا عَنْ الشَّمِّ وَفِيهِ شَيْءٌ مَعَ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَتَقَايَأُ مَا أَكَلَهُ،
وَمِنْ الْآدَابِ اللَّاحِقَةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَإِذَا فَرَغْت) مِنْ الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ (فَلْتَقُلْ) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ سِرًّا (الْحَمْدُ لِلَّهِ) لِأَنَّ اللَّهَ رَضِيَ عَنْهُ بِالْحَمْدِ بَعْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَأَيْضًا كَانَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ طَعَامِهِ:«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» . وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ نَدْبِ إسْرَارِ الْحَمْدِ وَإِجْهَارِ التَّسْمِيَةِ مَا سَبَقَ مِنْ تَذْكِيرِ النَّاسِي لَهَا، وَلِئَلَّا يَحْصُلَ الْحَيَاءُ وَالْخَجَلُ لِمَنْ يَشْبَعُ إذَا سَمِعَ حَمْدَ غَيْرِهِ.
وَمِنْ الْآدَابِ اللَّاحِقَةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَحَسَنٌ) بِلَفْظِ الِاسْمِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ أَيْ مُسْتَحَبٌّ وَمُبْتَدَؤُهُ (أَنْ تَلْعَقَ) أَيْ تَلْحَسَ (يَدَك قَبْلَ مَسْحِهَا) لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامَهُ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا» زَادَ التِّرْمِذِيُّ: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي الْبَرَكَةَ فِي أَوَّلِ طَعَامِهِ أَوْ آخِرِهِ» وَلِمَا وَرَدَ أَيْضًا مِنْ «أَنَّ مَنْ لَعِقَ الْقَصْعَةَ مِنْ الطَّعَامِ وَغَسَلَهَا وَشَرِبَ ذَلِكَ عُوفِيَ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ هُوَ وَوَلَدُهُ» وَنَحْوِ هَذَا، وَجَاءَ أَيْضًا:«مَنْ الْتَقَطَ فُتَاتًا مِنْ الْأَرْضِ أَوْ أَكَلَهَا كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً» وَجَاءَ فِي الْتِقَاطِ مَا يَقَعُ مِنْ الطَّعَامِ أَنَّهُ مَهْرُ الْحُورِ الْعِينِ، وَجَاءَ أَنَّهُ مَنْ دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ فِي سَعَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بَدَلَ يَدِك أَصَابِعُك وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِلْيَدِ فِي نُسْخَةِ يَدِك، لِأَنَّ الْيَدَ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْكَفِّ تُطْلَق عَلَى الْأَصَابِعِ، وَالْمُرَادُ هُنَا ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا فِي مُسْلِمٍ:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْكُلُ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا» قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ وَسُنَنِهِ، وَالْأَكْلُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا إنَّمَا هُوَ شَرَهٌ وَسُوءُ أَدَبٍ، إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ لِلْأَكْلِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِرِقَّةِ الطَّعَامِ مَثَلًا.
وَقَالَ فِي التَّحْقِيقِ: وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِ: تَلْعَقُ يَدَك أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِجَمِيعِ أَصَابِعِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ التِّلْمِسَانِيِّ: يَبْدَأُ فِي لَعْقِ أَصَابِعِهِ مِنْ الْخِنْصَرِ ثُمَّ الْإِبْهَامِ ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الْبِنْصِرِ ثُمَّ السَّبَّابَةِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي مُسْلِمٍ لَا يُخَالِفُ مَا قَالَهُ التِّلْمِسَانِيُّ، لِأَنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي حَصْرَ الْأَكْلِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: قَبْلَ مَسْحِهَا أَنَّهُ يَمْسَحُهَا بِمِنْدِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَغْسِلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ فِي طَعَامِهِ غَمَرٌ نَحْوُ اللَّبَنِ وَالزَّيْتِ وَاللَّحْمِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ غَسْلُ فَمٍ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنٍ وَالْيَدُ كَذَلِكَ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمَنْدُوبَ لَعْقُهَا قَبْلَ مَسْحِهَا أَوْ غَسْلِهَا؛ لِأَنَّهُ يَكْفِي الْمَسْحُ بَعْدَ اللَّعْقِ فِيمَا لَا غَمَرَ فِيهِ، وَمَا فِيهِ غَمَرٌ يُنْدَبُ غَسْلُهَا بَعْدَ لَعْقِهَا.
[آدَابِ الْأَكْلِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ]
(وَمِنْ آدَابِ الْأَكْلِ) الْمُقَارِنَةِ لَهُ (أَنْ تَجْعَلَ بَطْنَك) ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ (ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا
أَكَلْت مِمَّا يَلِيك
وَلَا تَأْخُذْ لُقْمَةً حَتَّى تَفْرُغَ الْأُخْرَى
وَلَا تَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ عِنْدَ شُرْبِك وَلْتُبِنْ الْقَدَحَ عَنْ فِيك ثُمَّ تُعَاوِدْهُ
ــ
[الفواكه الدواني]
لِلنَّفَسِ) لِاعْتِدَالِ الْجَسَدِ وَخِفَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الشِّبَعِ ثِقَلُ الْبَدَنِ وَهُوَ يُورِثُ الْكَسَلَ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَكْثَرَ مِنْ الْأَكْلِ لَمَا بَقِيَ لِلنَّفَسِ مَوْضِعٌ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِهِ، وَلِمَا وَرَدَ:«الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحَمِيَّةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَأَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبَرَدَةُ. وَالْحَمِيَّةُ خُلُوُّ الْبَطْنِ مِنْ الطَّعَامِ، وَالْبَرَدَةُ إدْخَالُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ، وَلَفْظُ الْمَعِدَةِ» إلَخْ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَدْخَلَهُ بَعْضُ الْوُضَّاعِ فِي الْمُسْنَدِ الْمَرْفُوعِ تَرْوِيجًا لَهُ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ:
وَالْوَاضِعُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ صَنَعَا
…
مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَبَعْضٌ وَضَعَا
كَلَامُ بَعْضِ الْحُكْمَا فِي الْمُسْنَدِ
قَالَ شَارِحُهَا تَرْوِيجًا لَهُ مِنْهُ الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ إلَخْ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمِنْ كَلَامِهِمْ أَيْضًا مَا قَالَهُ مَالِكٌ: وَمِنْ طِبِّ الْأَطِبَّاءِ أَنْ تَرْفَعَ يَدَك مِنْ الطَّعَامِ وَأَنْتَ تَشْتَهِيهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكَثْرَةُ الْأَكْلِ لَا خَيْرَ فِيهَا لِإِنْسَانٍ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ أَدْهَمَ: صَحِبْت أَكْثَرَ رِجَالِ اللَّهِ وَقَدْ أَوْصَوْنِي بِأَنْ أَعِظَ غَيْرِي بِأَرْبَعِ خِصَالٍ: إحْدَاهَا أَنَّ مَنْ يُكْثِرُ الْأَكْلَ لَا يَجِدُ لَذَّةَ الْعِبَادَةِ، وَمَنْ يَنَامُ كَثِيرًا لَمْ يَرَ فِي عُمْرِهِ بَرَكَةً، وَمَنْ يَطْلُبُ رِضَا النَّاسِ لَا يَنْتَظِرُ رِضَا الرَّبِّ، وَمَنْ يُكْثِرُ الْكَلَامَ بِفُضُولٍ وَغِيبَةٍ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ سَهْلٌ: الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي خِصَالٍ أَرْبَعٍ بِهَا صَارَتْ الْأَبْدَالُ أَبْدَالًا: إخْمَاصُ الْبُطُونِ، وَالصَّمْتُ، وَالْعُزْلَةُ عَنْ الْخَلْقِ، وَسَهَرُ اللَّيْلِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: كُلُّ شَيْءٍ يَعْمَلُ عَلَى الشِّبَعِ إلَّا ابْنَ آدَمَ إذَا شَبِعَ رَقَدَ، وَأَيْضًا قَالُوا: الشِّبَعُ مِنْ الْحَلَالِ يُقَسِّي الْقَلْبَ، وَيُقِلُّ الْحِفْظَ، وَيُفْسِدُ الْعَقْلَ، وَيُكْثِرُ الشَّهْوَةَ، وَيُقَوِّي جُنُودَ الشَّيْطَانِ، وَفَسَدَ الْجَسَدِ، فَمَا بَالُك بِالْحَرَامِ؟ وَبِالْجُمْلَةِ: الشِّبَعُ مَمْدُوحٌ فِي الْبَهَائِمِ وَمَذْمُومٌ فِي حَقِّ ابْنِ آدَمَ، وَيُعْرَفُ الثُّلُثُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى ثُلُثِ مَا كَانَ يَشْبَعُ بِهِ، وَقِيلَ يُعْرَفُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى نِصْفِ الْمُدِّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُضْعِفُهُ قِلَّةُ الشِّبَعِ، وَإِلَّا فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ اسْتِعْمَالُ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ النَّشَاطُ لِلْعِبَادَةِ وَاعْتِدَالُ الْبَدَنِ. وَمِنْ خَطِّ عَلَّامَةِ الزَّمَانِ شَيْخِ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيِّ الْأَكْلُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْحَيَاةُ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَى الصِّيَامِ الْوَاجِبِ أَوْ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَاجِبٌ، وَاَلَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى الْعِبَادَةِ الْغَيْرِ الْوَاجِبِ مَنْدُوبٌ، وَالْمُبَاحُ مِلْءُ ثُلُثِ بَطْنِهِ، وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ مَكْرُوهٌ.
قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إذَا امْتَلَأَتْ الْمَعِدَةُ مَاتَتْ الْفِكْرَةُ، وَخَرَسَ لِسَانُ الْحِكْمَةِ، وَقَعَدَتْ الْأَعْضَاءُ عَنْ الْعِبَادَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَثُرَ أَكْلُهُ كَثُرَ شُرْبُهُ، وَمَنْ كَثُرَ شُرْبُهُ كَثُرَ نَوْمُهُ وَكَثُرَ لَحْمُهُ، وَمَنْ كَثُرَ لَحْمُهُ قَسَا قَلْبُهُ، وَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ غَرِقَ فِي الْآثَامِ، وَالزَّائِدُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ الضَّرَرُ حَرَامٌ، قَالَهُ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ.
(وَ) مِنْ الْآدَابِ الْمُقَارِنَةِ أَيْضًا أَنَّك (إذَا أَكَلْت مَعَ غَيْرِك) وَلَوْ كَانَ مُشَارِكًا لَك فِي الطَّعَامِ (أَكَلْت مِمَّا يَلِيك) لِأَنَّ أَكْلَك مِنْ الَّذِي يَلِي صَاحِبَك تَعَدٍّ، وَبِهِ تُنْسَبُ إلَى الشَّرَهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُصَاحِبُ لَك فِي الْأَكْلِ وَلَدًا لَك أَوْ يَكُونَ الطَّعَامُ مُخْتَلِفًا، وَأَمَّا وَلَدُك فَلَا يَلْزَمُك التَّأَدُّبُ مَعَهُ، وَإِنْ لَزِمَهُ التَّأَدُّبُ مَعَك فَلَا يَأْكُلُ مِمَّا يَلِيك.
(وَ) مِنْ الْآدَابِ الْمُقَارِنَةِ أَيْضًا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَك أَنْ (لَا تَأْخُذَ لُقْمَةً حَتَّى تَفْرَغَ) مِنْ بَلْعِ (الْأُخْرَى) لِئَلَّا تُنْسَبَ إلَى الشَّرَهِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْأَكْلِ وَلِئَلَّا تَشْرَقَ فَيَحْصُلَ لَك الْخَجَلُ، هَكَذَا عَلَّلَ بَعْضُ الشُّيُوخِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا عِنْدَ أَكْلِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَيَنْبَغِي الْإِطْلَاقُ لِئَلَّا يَتَّخِذَهُ عَادَةً فَيَتَوَصَّلَ إلَى فِعْلِهِ مَعَ غَيْرِهِ.
وَمِنْ الْآدَابِ تَصْغِيرُ اللُّقْمَةِ إنْ أَكَلَ مَعَ مَنْ يُصَغِّرُهَا وَيَتَمَهَّلُ مِثْلَهُمْ، وَيَتَأَخَّرُ عَنْهُمْ إنْ كَانُوا يُعَجِّلُونَ لِأَنَّ سَبْقَهُمْ مَذْمُومٌ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنْ مُدَّتْ الْأَيْدِي إلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ
…
بِأَعْجَلِهِمْ إذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ
وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ هُنَا لَيْسَ عَلَى بَابِهِ.
وَمِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا تَفْعَلَ عِنْدَ أَكْلِك مَا يَسْتَقْذِرُهُ غَيْرُك مِنْ نَحْوِ الْبُصَاقِ أَوْ الِامْتِخَاطِ، أَوْ رَدِّ بَعْضِ اللُّقْمَةِ فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ وَضْعِهَا فِي فَمِك. وَمِنْ الْآدَابِ الْإِكْثَارُ مِنْ حِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ وَمَنَاقِبِ نَحْوِ الصَّحَابَةِ مِمَّا يُرِيحُ الْآكِلَ وَيُقَوِّي نَهِمَتَهُ وَيُنْبِئُ عَنْ سَمَاحَتِك، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمُصَاحِبُ لَك ضَيْفًا. وَمِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا تَنْظُرَ إلَى غَيْرِك حَالَ أَكْلِهِ، وَأَنْ لَا تَقُومَ قَبْلَ قِيَامِهِ، هَكَذَا قَالُوهُ، وَأَقُولُ: يَنْبَغِي إلَّا أَنْ يَكُونَ وَالِدَك أَوْ سَيِّدَك مِمَّنْ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْخَجَلُ بِقِيَامِك قَبْلَهُ.
1 -
وَمِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا تَقُولَ لِمَنْ يَأْكُلُ مَعَك فِي حَالِ أَكْلِهِ كُلْ فَإِنَّهُ يُخْجِلُهُ، بِخِلَافِ لَوْ تَرَكَ الْأَكْلَ فَلَا بَأْسَ بِقَوْلِك لَهُ كُلْ فَإِنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ وَبِسَمَاحَتِك وَيَزْدَادُ جَبْرًا، وَلَكِنْ لَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ لِأَنَّ بَعْضَ الشُّيُوخِ قَالَ بِكَرَاهَةِ الْحَلِفِ عَلَى الطَّعَامِ، لِأَنَّ الْوَارِدَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا هُوَ قَوْلُ:«كُلْ كُلْ كُلْ ثَلَاثًا» ، أَوْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ الْحَلِفَ لِأَنَّ الشَّخْصَ رُبَّمَا يَكُونُ خَجِلًا وَيَتَوَهَّمُ عَدَمَ سَمَاحَتِك إلَّا بِالْحَلِفِ، وَإِذَا حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ لَيَأْكُلَنَّ فَقِيلَ يَبَرُّ بِثَلَاثِ لُقَمٍ، وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنْ كَانَ