الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَرِيضَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ وَالْإِصْرَارُ الْمُقَامُ عَلَى الذَّنْبِ وَاعْتِقَادُ الْعَوْدِ إلَيْهِ وَمِنْ التَّوْبَةِ رَدُّ الْمَظَالِمِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَالنِّيَّةُ أَنْ لَا يَعُودَ وَلْيَسْتَغْفِرْ رَبَّهُ وَيَرْجُو رَحْمَتَهُ وَيَخَافُ عَذَابَهُ وَيَتَذَكَّرُ نِعْمَتَهُ لَدَيْهِ وَيَشْكُرُ فَضْلَهُ عَلَيْهِ
ــ
[الفواكه الدواني]
يَحْصُلُ لَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِك شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا نَعْلَمُهُ» . وَلَمَّا كَانَ الرِّيَاءُ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ وَمُفْسِدًا لِلْعِبَادَةِ، وَكَانَ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ مُوجِبًا لِلتَّوْبَةِ قَالَ عَقِبَ الرِّيَاءِ:
[حُكْم التَّوْبَةُ]
(وَالتَّوْبَةُ فَرِيضَةٌ) عَلَى الْفَوْرِ إجْمَاعًا. (مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ) مِنْ الْكَبَائِرِ اتِّفَاقًا وَمِنْ الصَّغَائِرِ أَيْضًا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الذَّنْبُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، لَكِنَّ الْمَعْلُومَ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ تَفْصِيلًا وَالْمَجْهُولُ إجْمَالًا، وَقِيلَ: إنَّ الصَّغَائِرَ لَا تَحْتَاجُ إلَى تَوْبَةٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ حَيْثُ قَالَ:
ثُمَّ الذُّنُوبُ عِنْدَنَا قِسْمَانِ
…
صَغِيرَةٌ كَبِيرَةٌ فَالثَّانِي
مِنْهُ الْمَتَابُ وَاجِبٌ فِي الْحَالِ
…
وَلَا انْتِقَاضَ إنْ يَعُدْ لِلْحَالِ
وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَهَا مُكَفِّرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ وَقَدَّمَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا، وَبِالصَّلَوَاتِ وَالْحَسَنَاتِ وَبِالْأَمْرَاضِ وَالْمَصَائِبِ.
وَتَوْبَةُ الْكَافِرِ إسْلَامُهُ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] إلَّا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ يُغَرْغِرَ، وَتَوْبَةُ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي رُجُوعُهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ إلَى أَفْعَالٍ حَسَنَةٍ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ قِيلَ قَطْعًا وَقِيلَ ظَنًّا، وَتُقْبَلُ مِنْهُ وَلَوْ بَعْدَ الْغَرْغَرَةِ وَلَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فِيهِمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا لِصِبَاهُ أَوْ جُنُونِهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ إسْلَامُهُ عَلَى مَا ارْتَضَاهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى خَلِيلٍ، وَوُجُوبُ التَّوْبَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا يُنَافِي جَوَازَ غُفْرَانِهَا بِمَحْضِ الْعَفْوِ، وَقَدْ تَكُونُ التَّوْبَةُ مُسْتَحَبَّةً وَهِيَ التَّوْبَةُ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهَاتِ وَأَكْلِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَهِيَ تَوْبَةُ الزُّهَّادِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى الْفَوْرِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ:(مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ) وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالْإِصْرَارُ الْمُقَامُ) بِضَمِّ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ (عَلَى الذَّنْبِ وَاعْتِقَادُ) أَيْ نِيَّةُ (الْعُودِ إلَيْهِ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ التَّوْبَةِ إذْ هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعُودِ وَالْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ.
(فَائِدَةٌ) يُقَالُ: الْعَجَلَةُ فِي الْأُمُورِ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا فِي مَسَائِلَ مِنْهَا: التَّوْبَةُ وَالصَّلَاةُ إذَا دَخَلَ وَقْتُهَا، وَدَفْنُ الْمَيِّتِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْكَاحُ الْبِكْرِ إذَا بَلَغَتْ، وَتَقْدِيمُ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ إذَا قَدِمَ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ إذَا حَلَّ، فَهَذِهِ سِتَّةٌ يُطْلَبُ فِيهَا الْعَجَلَةُ. (وَمِنْ) وَاجِبَاتِ (التَّوْبَةِ رَدُّ الْمَظَالِمِ) إلَى أَهْلِهَا بِأَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ إنْ كَانَتْ أَمْوَالًا وَلَوْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ مَا عِنْدَهُ أَوْ يَرُدَّهَا إلَى الْوَارِثِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ وَارِثًا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَظْلُومِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْرَاضًا كَقَذْفٍ أَوْ غِيبَةٍ اسْتَحْلَلَ الْمَقْذُوفَ أَوْ الْمُغْتَابَ إنْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ وَجَدَهُ مَاتَ فَيُكْثِرُ مِنْ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ لِيُعْطَى مِنْهَا الْمَظْلُومُ.
(وَ) مِنْ وَاجِبَاتِ التَّوْبَةِ أَيْضًا (اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ) وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِقْلَاعِ فِي الْحَالِ عَنْهَا.
(وَ) مِنْ وَاجِبَاتِهَا أَيْضًا (النِّيَّةُ) أَيْ الْعَزْمُ عَلَى (أَنْ لَا تَعُودَ) إلَيْهِ فَتَلَخَّصَ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا بُدَّ فِي صِحَّتِهَا مِنْ أَرْكَانٍ وَهِيَ: النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَالْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعُودِ، وَرَدُّ الْمَظَالِمِ عَلَى مَا فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى تِلْكَ الْأَرْكَانِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ مَبْسُوطًا فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ، وَأَشَارَ هُنَا إلَى شُرُوطِ التَّوْبَةِ الْكَمَالِيَّةِ بِقَوْلِهِ:(وَلْيَسْتَغْفِرْ) التَّائِبُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (رَبَّهُ) أَيْ يَطْلُبْ مِنْهُ أَنْ يَسْتُرَ مَا سَلَف مِنْهُ، وَإِنَّمَا طُلِبَ مِنْ التَّائِبِ الِاسْتِغْفَارُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَوَرَدَ أَيْضًا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» . وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ هُوَ مَا يَحُلُّ عُقْدَةَ الْإِصْرَارِ، وَيَثْبُتُ مَعْنَاهُ فِي الْجِنَانِ بِأَنْ يُوَافِقَ مَا فِي قَلْبِهِ مَا نَطَقَ بِهِ لِسَانُهُ لَا مُجَرَّدَ التَّلَفُّظِ بِاللِّسَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحْوِجٌ لِلِاسْتِغْفَارِ وَصَغِيرَةٌ لَاحِقَةٌ بِالْكَبَائِرِ.
(وَ) يُطْلَبُ مِنْ التَّائِبِ أَيْضًا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَنْ (يَرْجُوَ رَحْمَتَهُ) بِأَنْ يَطْمَعَ فِي حُصُولِهَا مَعَ أَخْذِهِ فِي أَسْبَابِ الْحُصُولِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
(وَ) يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ (يَخَافَ عَذَابَهُ) لِأَنَّهُ وَإِنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا فِي الظَّاهِرِ لَا يُقْطَعُ بِالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْخَوْفُ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الشَّخْصِ قَبْلَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ غَلَبَةُ الْخَوْفِ، لِأَنَّ الْخَوْفَ مُطْفِئٌ لِنَارِ الشَّهْوَةِ وَقَامِعٌ لِمَحَبَّةِ الدُّنْيَا مِنْ الْقَلْبِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ فَالْأَفْضَلُ الرَّجَاءُ وَحُسْنُ الظَّنِّ، لِأَنَّ الْخَوْفَ جَارٍ مَجْرَى السَّوْطِ الْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ وَقَدْ انْقَضَى وَقْتُ الْعَمَلِ، فَالْمُشْرِفُ عَلَى الْمَوْتِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ فَالْمَطْلُوبُ عَنْهُ إذْ ذَاكَ الرَّجَاءُ وَزِيَادَةُ حُسْنِ الظَّنِّ فِي رَبِّهِ لِخَبَرِ:«لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ» وَلِذَا لَمَّا حَضَرَتْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ حَدِّثْنِي بِالرُّخَصِ وَاذْكُرْ لِي الرَّجَاءَ
بِالْأَعْمَالِ بِفَرَائِضِهِ وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُ فِعْلَهُ وَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ، وَكُلُّ مَا ضَيَّعَ مِنْ فَرَائِضِهِ فَلْيَفْعَلْهُ الْآنَ وَلْيَرْغَبْ إلَى اللَّهِ فِي تَقَبُّلِهِ وَيَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ تَضْيِيعِهِ وَلْيَلْجَأْ إلَى اللَّهِ فِيمَا عَسُرَ عَلَيْهِ مِنْ قِيَادِ نَفْسِهِ وَمُحَاوَلَةِ أَمْرِهِ مُوقِنًا أَنَّهُ الْمَالِكُ لِصَلَاحِ شَأْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ لَا يُفَارِقُ ذَلِكَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ حَسَنٍ أَوْ قَبِيحٍ وَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْفِكْرَةُ فِي أَمْرِ اللَّهِ مِفْتَاحُ الْعِبَادَةِ فَاسْتَعِنْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَالْفِكْرَةِ فِيمَا بَعْدَهُ وَفِي نِعْمَةِ رَبِّك عَلَيْك وَإِمْهَالِهِ لَك وَأَخْذِهِ
ــ
[الفواكه الدواني]
حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عِنْدَ الْمَوْتِ لِابْنِهِ: اُذْكُرْ لِي الْأَخْبَارَ الَّتِي فِيهَا الرَّجَاءُ وَحُسْنُ الظَّنِّ.
(وَ) يُطْلَبُ مِنْ التَّائِبِ أَيْضًا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَنْ (يَتَذَكَّرَ نِعْمَتَهُ) تَعَالَى (لَدَيْهِ) وَهِيَ تَوْفِيقُهُ لِلتَّوْبَةِ وَإِقْدَارُهُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، قَالَ تَعَالَى:{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] لِأَنَّ ذِكْرَ النِّعْمَةِ يَكُون سَبَبًا لِتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ.
(وَ) يُطْلَبُ مِنْهُ أَيْضًا أَنْ (يَشْكُرَ فَضْلَهُ) تَعَالَى (عَلَيْهِ) بِأَنْ يَأْتِيَ (بِالْأَعْمَالِ بِفَرَائِضِهِ) الَّتِي افْتَرَضَهَا عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13](وَ) بِالِامْتِثَالِ لِ (تَرْكِ مَا يُكْرَهُ) أَوْ يُحَرِّمُ سبحانه وتعالى (فِعْلَهُ) أَوْ قَوْلَهُ فَمَكْرُوهُ الْفِعْلِ كَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ، وَمَكْرُوهُ الْقَوْلِ كَالتَّكَلُّمِ مِمَّا لَا يَعْنِي، وَالْمُحَرَّمُ فِعْلُهُ كَالزِّنَا، وَالْمُحَرَّمُ الْقَوْلُ كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ.
(وَ) يُطْلَبُ مِنْ التَّائِبِ أَيْضًا أَنْ (يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ) سبحانه وتعالى (بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ) كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا لِخَبَرِ: «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْته، وَإِنْ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنَّهُ» . (وَكُلُّ مَا ضَيَّعَ) أَيْ التَّائِبُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا (مِنْ فَرَائِضَ) قَبْلَ تَوْبَتِهِ (فَلْيَفْعَلْهُ الْآنَ) وُجُوبًا عَلَى الْفَوْرِيَّةِ وَلَوْ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ حَيْثُ تَحَقَّقَ تَرْكُهَا وَإِلَّا تَوَقَّى أَوْقَاتَ النَّهْيِ، وَلَا يُوَسَّعُ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ إلَّا زَمَنَ اشْتِغَالِهِ فِي نَوْمِهِ أَوْ ضَرُورِيَّاتِهِ أَوْ حُضُورِ عِلْمِ مُتَعَيِّنٍ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّوَافِلُ قَبْلَ قَضَاءِ الْفَرْضِ سِوَى الْمُؤَكَّدِ كَالْوِتْرِ وَالْعِيدِ وَالْفَجْرِ، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْهَا احْتَاطَ. (وَلْيَرْغَبْ) التَّائِبُ أَنْ يَتَضَرَّعَ وَيَتَذَلَّلَ (إلَى اللَّهِ فِي تَقَبُّلِهِ) لِمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ بَعْدَ تَضْيِيعِهَا.
(وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يَتُوبَ عَلَيْهِ مِنْ) أَجْلِ (تَضْيِيعِهِ) لِلْفَرَائِضِ لِمَا نَصُّوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ تَأْخِيرَ الْفَرَائِضِ عَنْ أَوْقَاتِهَا عَمْدًا مِنْ الْكَبَائِرِ. (وَلْيَلْجَأْ) أَيْ يَتَضَرَّعْ (إلَى اللَّهِ) وَيَفْزَعْ إلَيْهِ (فِيمَا عَسُرَ) أَيْ صَعُبَ (عَلَيْهِ مِنْ قِيَادَةِ نَفْسِهِ) إلَى الطَّاعَةِ لِرَغْبَتِهَا عَنْهَا وَعَدَمِ مَيْلِهَا لِفِعْلِهَا، فَيَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُوَفِّقَهُ إلَى فِعْلِهَا، فَمَعْنَى قِيَادَةِ نَفْسِهِ امْتِثَالُهَا وَمَيْلُهَا إلَى الطَّاعَةِ، فَيَلْجَأُ إلَى اللَّهِ أَنْ يُذَلِّلَهَا، وَيَجْعَلَ الطَّاعَةَ سَهْلَةً عَلَيْهَا لِأَنَّهُ الْمُسَهِّلُ وَالْمُوَفِّقُ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ مَكِّنَّا أَنْفُسَنَا وَلَا تُسَلِّطْهَا عَلَيْنَا.
(وَ) كَمَا يَلْجَأُ وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ فِيمَا عَسُرَ مِنْ قِيَادِ نَفْسِهِ يَلْجَأُ إلَيْهِ فِي (مُحَاوَلَةِ أَمْرِهِ) الْمُشْكِلِ عَلَيْهِ فِي كَوْنِ فِعْلِهِ أَحْسَنَ لَهُ أَوْ تَرْكِهِ، فَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ فِي إلْهَامِهِ لِمَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ حَالَةَ كَوْنِهِ (مُوقِنًا) أَيْ مُصَدِّقًا (أَنَّهُ الْمَالِكُ لِصَلَاحِ شَأْنِهِ) أَيْ أَمْرِهِ كُلِّهِ (وَ) أَنَّهُ الْمَالِكُ لِ (تَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ إذْ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ (لَا يُفَارِقَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ اللَّجَأِ وَالْيَقِينِ بَلْ يَلْزَمُهَا (عَلَى مَا فِيهِ) أَيْ عَلَى كُلِّ حَالٍ هُوَ فِيهِ (مِنْ حُسْنٍ) أَيْ طَاعَةٍ (أَوْ قُبْحٍ) أَيْ مَعْصِيَةٍ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْعَاقِلِ مُلَازِمًا اللُّجُوءَ إلَى خَالِقِهِ إصْلَاحُ شَأْنِهِ وَتَوْفِيقُهُ إلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيه سبحانه وتعالى، لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِطَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، فَلَا تَمْنَعُهُ الْمَعْصِيَةُ مِنْ اللُّجُوءِ إلَى خَالِقِهِ بَلْ يَلْجَأُ إلَيْهِ. (وَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) إذَا صَدَرَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ تَوْبَةَ عَبْدِهِ كُلَّمَا يُذْنِبُ، وَلِأَنَّ الْيَأْسَ وَالْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مِنْ الْكَبَائِرِ فَفِي الْحَدِيثِ:«اعْمَلْ مَا شِئْت فَقَدْ غَفَرْت لَك» فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَا دُمْت تُذْنِبُ ثُمَّ تَتُوبُ غَفَرْت لَك، قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَكَرَّرَ الذَّنْبُ مِرَارًا وَتَابَ كُلَّ مَرَّةٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَسَقَطَتْ ذُنُوبُهُ.
(تَنْبِيهٌ) اُعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي حَذْفِ عَائِدِ مَا الْمَوْصُولَةِ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى مَا فِيهِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: عَلَى مَا هُوَ فِيهِ لِأَنَّ الْعَائِدَ مُطْلَقًا لَا يُحْذَفُ إذَا كَانَ الْبَاقِي صَالِحًا لِلْوَصْلِ، وَالظَّرْفُ هُنَا فِيهِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ فَهُوَ صَالِحٌ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَأَبَوَا أَنْ يَخْتَزِلَ
…
إنْ صَلُحَ الْبَاقِي لِوَصْلٍ مُكْمِلٍ
وَلَمَّا كَانَ يُطْلَبُ مِنْ الْإِنْسَانِ النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ عَجْزَ نَفْسِهِ فَيُفَوِّضَ أَمْرَهُ إلَى خَالِقِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ قَالَ: (وَالْفِكْرَةُ) أَيْ التَّفَكُّرُ وَالتَّأَمُّلُ (فِي أَمْرِ اللَّهِ) أَيْ فِي مَصْنُوعَاتِهِ وَخَبَرُ الْفِكْرَةِ (مِفْتَاحُ الْعِبَادَةِ) لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا تَفَكَّرَ وَنَظَرَ فِي
لِغَيْرِك بِذَنْبِهِ وَفِي سَالِفِ ذَنْبِك وَعَاقِبَةِ أَمْرِك وَمُبَادَرَةِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ مِنْ أَجَلِك.
ــ
[الفواكه الدواني]
مَصْنُوعَات خَالِقِهِ عَلِمَ وُجُوبَ وُجُودِهِ وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ وَحَقِّيَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ فَيَجِدُّ فِي عِبَادَتِهِ «قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] وَلِذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا عَبَدَ اللَّهَ ثَلَاثِينَ سَنَةً تُظِلُّهُ سَحَابَةٌ، فَعَبَدَ اللَّهَ فَتًى مِنْهُمْ فَلَمْ تُظِلُّهُ فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: لَعَلَّ وَقَعَ مِنْك فُرُطَةً، فَقَالَ: لَمْ يَقَعْ مِنِّي شَيْءٌ، قَالَتْ: لَعَلَّك نَظَرْت مَرَّةً إلَى السَّمَاءِ فَلَمْ تَعْتَبِرْ، قَالَ: لَعَلَّ ذَلِكَ، قَالَتْ: فَمَا أُتِيتَ إلَّا مِنْ ذَلِكَ. وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْفِكْرَةُ فِي أَمْرِ إلَخْ أَنَّهُ لَا يَتَفَكَّرُ فِي ذَاتِهِ تَعَالَى لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ عَلَى إدْرَاكِهَا، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم لِقَوْمٍ اشْتَغَلُوا بِالتَّفَكُّرِ فِي اللَّهِ:«تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ» فَالْأَدَبُ النَّظَرُ فِي عَجَائِبِ مَصْنُوعَاتِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ نَفْسُ الشَّخْصِ قَالَ تَعَالَى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِالنَّظَرِ فِي نَفْسِهِ عَلَى وُجُوبِ وُجُودِ صَانِعِهِ لِاسْتِحَالَةِ إيجَادِ الشَّخْصِ نَفْسَهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«أَتَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَتِي حَتَّى مَسَّ جِلْدُهُ جِلْدِي ثُمَّ قَالَ: ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ لِرَبِّي عز وجل، فَقَامَ إلَى الْقِرْبَةِ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ سَجَدَ حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، مَا اضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ حَتَّى أَتَى بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُبْكِيك وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا بِلَالُ وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَبْكِيَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190] الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» . وَقَالَ ابْنُ الْعَبَّاسِ: رَكْعَتَانِ مَعَ تَفَكُّرٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ بِلَا قَلْبٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: التَّفَكُّرُ فِي الْخَيْرِ يَدْعُو إلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى الشَّرِّ يَدْعُو إلَى تَرْكِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَفَكَّرَ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ. وَبَيْنَا ابْنُ سُرَيْجٍ يَمْشِي إذْ جَلَسَ فَتَقَنَّعَ بِكِسَائِهِ وَجَعَلَ يَبْكِي، فَقُلْنَا: مَا يَبْكِيك؟ قَالَ: تَفَكَّرْت فِي ذَهَابِ عُمْرِي وَقِلَّةِ عَمَلِي وَاقْتِرَابِ أَجَلِي.
وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَالِ، فَإِنَّ النَّفْسَ شَمَخَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَنْ الْعِبَادَةِ وَتَعَلَّقَتْ بِمَحَبَّةِ الدُّنْيَا، فَإِذَا حَصَلَ التَّفَكُّرُ انْقَمَعَتْ وَرَجَعَتْ إلَى الْعِبَادَةِ. وَإِذَا عَلِمْتَ مَشْمَخَةَ النَّفْسِ عَنْ الْعِبَادَةِ وَاشْتَدَّ تَعَلُّقُهَا بِمَحَبَّةِ الدُّنْيَا حَتَّى صَدَّتْهَا عَنْ الْآخِرَةِ (فَاسْتَعِنْ بِذَكَرِ الْمَوْتِ) عَلَى نَفْسِك لِأَنَّهُ هَاذِمُ اللَّذَّاتِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَفَكَّرَ فِي الْمَوْتِ قَصُرَ أَمَلُهُ وَكَثُرَ عَمَلُهُ وَاسْتَعَدَّ وَتَهَيَّأَ لِلْمَوْتِ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى كَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، وَلِذَلِكَ يُطْلَبُ تَقْصِيرُ الْأَمَلِ إلَّا لِلْعَالِمِ، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» .
(وَ) اسْتَعِنْ عَلَى نَفْسِك أَيْضًا بِذِكْرِ (الْفِكْرَةِ فِيمَا بَعْدَهُ) أَيْ فِيمَا يَحْصُلُ لَك بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، وَالْعَذَابِ الَّذِي مِنْهُ ضَغْطَةُ الْقَبْرِ الَّتِي لَمْ يَنْجُ مِنْهَا إلَّا الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمُكْثِ فِي الْقَبْرِ مُدَّةَ الْبَرْزَخِ مَعَ كَوْنِهِ وَحِيدًا، وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْحِسَابِ وَالْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ الَّذِي لَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْمُرُورِ عَلَيْهِ حَتَّى الْأَنْبِيَاءِ مَعَ كَوْنِهِ دَقِيقًا وَمَمْدُودًا عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ، فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِي هَذِهِ الْعَظَائِمِ مُنَغِّصٌ وَمُزَهِّدٌ فِي الدُّنْيَا وَمُرَغِّبٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَفَّقَنَا اللَّهُ وَمِنْ نُحِبُّ لِلْعَمَلِ لَهَا.
(وَ) اسْتَعِنْ أَيْضًا أَيُّهَا الْمُنْهَمِكُ عَلَى تَبْلِيغِ نَفْسِك مُشْتَهَاهَا بِالْفِكْرَةِ (فِي) إسْبَاغِ (نِعْمَةِ رَبِّك عَلَيْك) فَإِنَّك إذَا تَفَكَّرْت فِي ذَلِكَ تَسْتَحِي أَنْ تَعْصِيَهُ، لِأَنَّ الْإِحْسَانَ يَسْتَرِقُّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى خِدْمَةِ سَيِّدِهِ. (وَ) إذَا لَمْ يَقْمَعْهَا التَّفَكُّرُ فِي النِّعْمَةِ اسْتَعِنْ عَلَيْهَا بِالْفِكْرَةِ فِي (إمْهَالِهِ لَك) أَيْ تَأْخِيرِهِ لَك تَارِكًا عُقُوبَتَك عَلَى عِصْيَانِهِ. (وَأَخْذِهِ لِغَيْرِك) سَرِيعًا (بِذَنْبِهِ) مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ مِمَّنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِذَنْبِهِ سَرِيعًا، وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: إذَا رَأَيْت رَبَّك يُوَالِي عَلَيْك نِعَمَهُ فَاحْذَرْهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ لِزِيَادَةِ الْعُقُوبَةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] .
(وَ) إذَا لَمْ تَنْقَمِعْ نَفْسَك بِالتَّفَكُّرِ فِيمَا سَبَقَ اسْتَعِنْ عَلَيْهَا بِالتَّفَكُّرِ (فِي سَالِفِ ذَنْبِك) أَيْ فِي الذَّنْبِ الَّذِي سَلَفَ وَوَقَعَ مِنْك فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ وَاخْشَ الْمُعَاقَبَةَ بِهِ سَرِيعًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَلِ الْمُكَفِّرِ لِلذُّنُوبِ.
(وَ) إنْ لَمْ تَنْزَجِرْ وَتُنْقِذْ نَفْسَك اسْتَعِنْ بِالتَّفَكُّرِ فِي (عَاقِبَةِ أَمْرِك) لِأَنَّك لَا تَدْرِي مَا الْخَاتِمَةُ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: يَنْبَغِي لَك يَا أَخِي أَنْ لَا تُخَيِّرَ نَفْسَك عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّك لَا تَدْرِي مَا الْخَاتِمَةُ، فَيَحْمِلُك ذَلِكَ عَلَى هَضْمِ النَّفْسِ وَتَرْكِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ، وَعَلَى عَدَمِ الْعَظَمَةِ عَلَى الْإِخْوَانِ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الشَّخْصِ نَفْسَهُ رَفِيعًا عَنْ إخْوَانِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْآفَاتِ أَعَاذَنَا اللَّهُ وَمِنْ نُحِبُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ الْمَطْلُوبُ مِنْ الشَّخْصِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ دَائِمًا فِي حَضِيضِ النُّقْصَانِ فِي سَائِرِ أُمُورِهِ حَتَّى عِبَادَتِهِ، لِأَنَّ التَّوَاضُعَ ذَرِيعَةٌ إلَى الرِّفْعَةِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ.
وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ: اتَّضِعْ وَلَا تَرْتَفِعْ، وَاتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ مِنْ وَرَعٍ وَلَا يَتَّسِعُ.
(وَ) إذَا لَمْ يُكْسِبْك التَّفَكُّرُ فِيمَا مَضَى مَا يَقْمَعُ نَفْسَك عَنْ غَيِّهَا اسْتَعِنْ عَلَيْهَا بِالتَّفَكُّرِ فِي (مُبَادَرَةِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ مِنْ أَجَلِك) وَالْمَعْنَى: خَوِّفْ نَفْسَك بِانْقِضَاءِ الْأَجَلِ سَرِيعًا، لِأَنَّك لَا تَدْرِي هَلْ بَقِيَ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
عُمُرِك قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ؟ وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَنْبَغِي لَك يَا أَخِي إذَا خَرَجَ مِنْك نَفَسٌ أَنْ تُخَوِّفَ نَفْسَك بِقَوْلِك لَهَا: لَا أَدْرِي هَلْ يَخْرُجُ بَعْدَهُ نَفَسٌ أَوْ هُوَ آخِرُ الْأَنْفَاسِ. وَالتَّفَكُّرُ فِي قُرْبِ الْأَجَلِ يُقَلِّلُ الْأَمَلَ وَيُعِينُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَلِ، وَطُولُ الْأَمَلِ يُقْسِي الْقَلْبَ وَيُضْعِفُ الْعَمَلَ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَغْتَرَّ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ أَوْ صَلَاحٍ أَوْ قُوَّةٍ، لِأَنَّ الَّذِي أَعْطَى مَا ذُكِرَ قَادِرٌ عَلَى سَلْبِهِ وَإِنْزَالِ ضِدِّهِ، فَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْعَاقِلِ الِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ وَمُلَابَسَةُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ رَجَاءَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى السَّعَادَةِ وَهِيَ الْمَوْتُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَنْ لَا فِكْرَةَ عِنْدَهُ قَدْ يَأْتِيه الْمَوْتُ سُرْعَةً وَهُوَ مُطِيعٌ لِهَوَاهُ فَيَنْدَمُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْآدَابَ فِي هَذَا الْبَابِ حَثًّا لِلطَّالِبِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِهَا، لِأَنَّ مَنْ تَخَلَّقَ بِهَا صَارَ مِنْ أَكَابِرِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ جَرَّدُوا قُلُوبَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَاسْتَحْقَرُوا جَمِيعَ مَا سِوَاهُ، وَفَّقَنَا اللَّهُ وَمَنْ نُحِبُّ لِلْعَمَلِ بِمَا فِي كِتَابِهِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ بِمَا فِيهِ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِسُنَّةِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم، فَرَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَدْعُ شَيْئًا مِمَّا يُطْلَبُ مِنْ الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ إلَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ الْمُكَلَّفِ وَبَاطِنِهِ، شَرَعَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَحْسِينِ ظَاهِرِهِ وَهُوَ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ لِأَنَّ تَحْسِينَ الْبَاطِنِ أَوْكَدُ مِنْ تَحْسِينِ الظَّاهِرِ فَقَالَ: