الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصَّحِيحِ.
وَمَنْ حَبَسَ دَارًا فَهِيَ عَلَى مَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ.
إنْ حِيزَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ.
وَلَوْ كَانَتْ حَبْسًا عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ جَازَتْ
ــ
[الفواكه الدواني]
الْوَفَاةُ قَالَ: وَاَللَّهِ يَا بُنَيَّةُ مَا مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيَّ غِنًى بَعْدَ مَوْتِي عَنْك، وَلَا أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا مِنْك، وَإِنِّي كُنْت نَحَلْتُك جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَوْ كُنْت جَذَذْتِيهِ وَأَخْذَتَيْهِ لَكَانَ لَك، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمُ مَالُ وَارِثٍ وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاك وَأُخْتَاك فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عز وجل.
(تَنْبِيهَانِ) : الْأَوَّلُ: إنَّمَا قَيَّدْنَا الْهِبَةَ بِغَيْرِ هِبَةِ الثَّوَابِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهَا كَالْبَيْعِ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْلَ حَوْزِهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْمَرَضَ بِالْمُتَّصِلِ بِالْمَوْتِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ مَرِضَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْحَوْزِ ثُمَّ صَحَّ صِحَّةً بَيِّنَةً فَإِنَّهَا تُحَازُ وَتَتِمُّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي الْفَلَسِ وَلَوْ بِإِحَاطَةِ الدُّيُونِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْفَلَسُ الْخَاصُّ وَهُوَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِخَلْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ، وَلَا فَرْقَ فِي الدَّيْنِ الْمُحِيطِ بَيْنَ السَّابِقِ عَلَى الْهِبَةِ وَالْمُتَأَخِّرِ عَنْهَا.
الثَّانِي: يُسْتَثْنَى مِنْ بُطْلَانِ الْهِبَةِ بِعَدَمِ الْحَوْزِ قَبْلَ الْمَانِعِ الْهِبَةُ الَّتِي اسْتَصْحَبَهَا الْوَاهِبُ مَعَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَأَرْسَلَ بِهَا رَسُولًا، فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ وَلَا بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْمُعَيَّنِ إذَا كَانَ الْوَاهِبُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى الْهِبَةِ.
قَالَ خَلِيلٌ فِي مُبْطِلَاتِ الْهِبَةِ: أَوْ اسْتَصْحَبَ هَدِيَّةً أَوْ أَرْسَلَهَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ الْمُعَيَّنُ لَهَا إنْ لَمْ يُشْهِدْ.
وَفِي صَدَقَاتِ الْمُدَوَّنَةِ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهَا: مَنْ بَعَثَ بِهَدِيَّةٍ أَوْ صِلَةٍ لِغَائِبٍ فَمَاتَ الْمُعْطِي أَوْ الْمُعْطَى لَهُ قَبْلَ وُصُولِهَا، فَإِنْ كَانَ أَشْهَدَ حِينَ بَعَثَ بِهَا عَلَى إنْفَاذِهَا فَهِيَ لِلْمَبْعُوثِ إلَيْهِ أَوْ وَارِثِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا حِينَ بَعَثَ بِهَا فَهِيَ لِلَّذِي أَعْطَى أَوْ وَارِثِهِ، وَحُكْمُ مَنْ اسْتَصْحَبَ هَدِيَّةً مَعَهُ لِغَائِبٍ حُكْمُ مَنْ أَرْسَلَهَا فَعِنْدَ الْإِشْهَادِ لَا تَبْطُلُ وَبِدُونِهِ تَبْطُلُ.
وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْحَوْزِ ذَكَرَ حُكْمَ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ) الْحُرُّ الَّذِي لَمْ تُقْصَدْ عَيْنُهُ لَمْ تَبْطُلْ الْهِبَةُ بِمَوْتِهِ وَ (كَانَ لِوَرَثَتِهِ الْقِيَامُ فِيهَا عَلَى الْوَاهِبِ الصَّحِيحِ) لِأَنَّهَا صَارَتْ حَقًّا لَهُ، وَمَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلِوَارِثِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْوَاهِبَ بِالصَّحِيحِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ كَانَ قَدْ مَرِضَ أَوْ جُنَّ أَوْ فَلِسَ قَبْلَ حَوْزِهَا فَلَيْسَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ الطَّلَبُ بِهَا لِبُطْلَانِهَا بِذَلِكَ كَمَا مَرَّ، وَقَيَّدْنَا الْمَوْهُوبَ لَهُ بِالْحُرِّ لِأَجْلِ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِالْوَارِثِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ الرَّقِيقَ يَقْبِضُ سَيِّدُهُ مَا وُهِبَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: كَانَ لِوَارِثِ الْحُرِّ وَسَيِّدِ الرَّقِيقِ الْقِيَامُ بِهَا لَكَانَ أَشْمَلَ وَوَافَقَ لَفْظَ الْمُدَوَّنَةِ، فَقَدْ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ وُهِبَ لِحُرٍّ هِبَةٌ أَوْ عَبْدٌ فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى مَاتَ فَلِوَرَثَةِ الْحُرِّ وَسَيِّدِ الْعَبْدِ قَبْضُهَا، وَهَذَا فِي الْهِبَةِ وَمِثْلُهَا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَأَمَّا الْوَاجِبَةُ كَالْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ فَتَوَقَّفَ فِيهَا بَعْضُ الشُّيُوخِ هَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ أَمْ لَا؟ وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا الَّذِي لَمْ تُقْصَدْ عَيْنُهُ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ كَانَ الْوَاهِبُ قَالَ: هَذِهِ هِبَةٌ لِفُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَلَا لِوَارِثِهِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا يَأْخُذُهَا الْوَارِثُ، فَإِنْ حَصَلَ التَّنَازُعُ فِي قَصْدِ عَيْنِهِ وَعَدَمِ قَصْدِهَا، فَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ لِأَحَدِهِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَانْظُرْ أَيَّهُمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ.
[أَحْكَام الحبس]
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ شَرَعَ فِي الْحُبُسِ لِأَنَّهُ عَقِبُهُ فِي التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَيُرَادِفُهُ الْوَقْفُ مَصْدَرُ وَقَفَ الْمُجَرَّدُ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ، وَالرَّدِيئَةُ أَوْقَفَ عَكْسُ أَعْتَقَ وَعَتَقَ، وَسُمِّيَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ لِأَنَّ الْعَيْنَ مَوْقُوفَةٌ وَمَحْبُوسَةٌ وَقَدْ مَرَّتْ حَقِيقَتُهُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي حُكْمِهِ، وَالصَّحِيحُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ جَوَازُهُ بَلْ نَدْبُهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْسَنِ مَا تَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ حَبَسَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ دُورًا وَحَوَائِطَ، وَهُوَ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه: لَمْ يَحْبِسْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا عَلِمْت وَإِنَّمَا حَبَسَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَمُقَابِلُ الْجُمْهُورِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ حَيْثُ ذَهَبُوا إلَى مَنْعِهِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْوَاقِفِ وَهُوَ مِلْكٌ يُوَرَّثُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ أَوْ يُعَلِّقَهُ عَلَى مَوْتِهِ كَأَنْ يَقُولَ: إنْ مِتُّ فَدَارِي وَقْفٌ عَلَى كَذَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا لَمْ يَنْهَضْ لَهُمْ دَلِيلًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَعْرِيفَهُ فِي صَدْرِ التَّرْجَمَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ أَرْكَانَهُ أَرْبَعَةٌ: الْوَاقِفُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَالْمَوْقُوفُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْوَاقِفِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَلَوْ طَعَامًا أَوْ نَقْدًا عَلَى مَنْ يَتَسَلَّفُهُمَا أَوْ يَرُدُّ مِثْلَهُمَا أَوْ رَقِيقًا أَوْ مُسْتَأْجَرًا، وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى مَنْفَعَةِ الْمَوْقُوفِ وَلَوْ لِلصَّرْفِ فِي مَصَالِحِهِ كَقَنْطَرَةٍ وَمَسْجِدٍ، وَالصِّيغَةُ وَهِيَ كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى إعْطَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ، لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْبِيدُ وَإِلَّا التَّنْجِيزُ كَلَفْظِ حَبَسْت وَوَقَفْت مُطْلَقًا أَوْ تَصَدَّقْت إنْ قَارَنَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْبِيدِ كَقَوْلِهِ: هَذَا صَدَقَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ أَوْ يَغْتَلُّونَهُ أَوْ يَنْتَفِعُونَ بِذَاتِهِ بِالسُّكْنَى فِيهِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى مَجْهُولٍ مَحْصُورٍ كَأَنْ يَقُولَ: هَذَا صَدَقَةٌ عَلَى فُلَانٍ وَعَقِبِهِ وَنَسْلِهِ لِقِيَامِ التَّعْقِيبِ مَقَامَ الْقَيْدِ، وَيَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الذَّاتِ الْمَوْقُوفَةِ وَبَيْنَ النَّاسِ كَالْمَسْجِدِ يَبْنِيهِ وَيَفْتَحُهُ لِلنَّاسِ، وَكَالطَّاحُونِ أَوْ الْقَنْطَرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ عُمُومُ النَّاسِ فَقَالَ:(وَمَنْ حَبَسَ) مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ (دَارًا) أَوْ حَائِطًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ كُلِّ مَمْلُوكٍ لِلْمُحْبِسِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ (فَهِيَ) قَاصِرَةٌ (عَلَى مَا جَعَلَهَا) الْمُحْبِسُ بِالْكَسْرِ (عَلَيْهِ) بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِالصِّيغَةِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَا
حِيَازَتُهُ لَهُ إلَى أَنْ يَبْلُغَ.
وَلْيُكْرِهَا لَهُ وَلَا يَسْكُنُهَا فَإِنْ لَمْ يَدَعْ سُكْنَاهَا حَتَّى مَاتَ بَطَلَتْ.
وَإِنْ انْقَرَضَ مَنْ حُبِّسَتْ عَلَيْهِ
ــ
[الفواكه الدواني]
الرُّجُوعُ فِيهَا لِمَا قَالَهُ أَئِمَّتُنَا مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْوَقْفِ اللُّزُومُ فِي الْحَالِ إذَا نَجَزَهُ أَوْ أَطْلَقَ، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى التَّنْجِيزِ، وَلِذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا الِاسْتِبْدَالُ فِي الْوَقْفِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى قَبُولٍ حَيْثُ كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَوْ عَلَى مَسْجِدٍ لِتَعَذُّرِهِ مِنْهُ، وَأَمَّا عَلَى مُعَيَّنٍ كَزَيْدٍ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلْقَبُولِ أَوْ وَلِيَّهُ إنْ كَانَ مَحْجُورًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوقَفِ عَلَيْهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَجْنُونِ وَلِيٌّ فَيُقِيمُ لَهُ السُّلْطَانُ مَنْ يَقْبَلُ لَهُ، فَإِنْ رَدَّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ الْأَهْلُ مَا وَقَفَهُ الْغَيْرُ عَلَيْهِ فِي حَيَاةِ الْوَاقِفِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَرْجِعُ حُبُسًا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: فُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: فَهِيَ عَلَى مَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ أَنَّهُ عَيَّنَ الْجِهَةَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِهِ حُكْمُ مَا لَوْ وَقَفَ دَارِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْ الشَّيْءَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ الصِّحَّةُ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ مَصْرِفِهِ وَيُصْرَفُ فِي غَالِبِ مَا تَحْبِسُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَلَدِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا تَعْيِينُ مَصْرِفِهِ وَصُرِفَ فِي غَالِبٍ وَإِلَّا فَالْفُقَرَاءُ.
الثَّانِي: يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: فَهِيَ عَلَى مَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُ شَرْطِ الْوَاقِفِ وَهُوَ كَذَلِكَ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَاتَّبَعَ شَرْطَهُ إنْ جَازَ، قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِهِ: وَكَذَا إنْ كَرِهَ كَاشْتِرَاطِ وَقْفِهِ عَلَى قِرَاءَةِ سَبْعٍ جَمَاعَةً أَوْ عَلَى ضَحِيَّةٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَنْ الْوَاقِفِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَحِلُّ وُجُوبُ اتِّبَاعِ شَرْطِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِشَرْطِهِ جَازَتْ مُخَالَفَتُهُ كَاشْتِرَاطِ قِرَاءَةِ دَرْسِ عِلْمٍ فِي مَحَلٍّ وَيَخْرَبُ بِحَيْثُ لَا تُمْكِنُ الْقِرَاءَةُ فِيهِ أَوْ يَتَعَذَّرُ حُضُورُ الطَّالِبِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَقْلُهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ وَفِعْلُهُ كَشَرْطِهِ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يُقَرِّرَ مُدَرِّسًا مَالِكِيًّا يَقْرَأُ فِي مَسْجِدِهِ ثُمَّ يَمُوتَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ بَعْدَهُ إنْ مَاتَ الْمَالِكِيُّ أَنْ يُقَرِّرَ حَنَفِيًّا أَوْ شَافِعِيًّا، وَإِنَّمَا يُقَرِّرُ مَالِكِيًّا اتِّبَاعًا لِفِعْلِ الْوَاقِفِ.
الثَّالِثُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ عِنْدَنَا التَّأْبِيدُ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: فَهِيَ عَلَى مَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ يُوهِمُ اشْتِرَاطَ التَّأْبِيدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، خِلَافًا لِابْنِ عَرَفَةَ فِي تَعْرِيفِهِ لِلْوَقْفِ حَيْثُ قَالَ: إعْطَاءُ مَنْفَعَةِ شَيْءٍ مُدَّةَ وُجُودِهِ فَإِنَّهُ خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ وَأَنَّهُ بَنَى التَّعْرِيفَ عَلَى الْغَالِبِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ وَيَصِيرُ الَّذِي كَانَ مَوْقُوفًا مِلْكًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَغَيْرُهُ، وَيَجُوزُ عِنْدَنَا لِنَاظِرِ الْوَقْفِ بِأَنْ يَفْعَلَ فِي الْوَقْفِ كُلَّ مَا كَانَ قَرِيبًا لِغَرَضِهِ وَإِنْ خَالَفَ شَرْطَهُ، كَمَا لَوْ وَقَفَ مَاءً عَلَى الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فَيَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُمَكِّنَ الْعَطْشَانَ يَشْرَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ بَيَّنَ شَرْطَ تَمَامِ وَقْفِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا بِقَوْلِهِ: (إنْ حِيزَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ) أَوْ فَلَسِهِ أَوْ جُنُونِهِ، فَلَوْ قَالَ قَبْلَ كَمَوْتِهِ لَشَمِلَ بَقِيَّةَ الْمَانِعِ مِنْ فَلَسٍ أَوْ جُنُونٍ، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَحْصُلْ حِيَازَةٌ حَتَّى مَاتَ الْوَاقِفُ أَوْ فَلِسَ بَطَلَ الْوَقْفُ، وَحَقِيقَةُ الْحِيَازَةِ رَفْعُ يَدِ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ وَتَمْكِينِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الذَّاتِ الْمَوْقُوفَةِ بِمَا يَجُوزُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الشَّيْءِ الْمَوْقُوفِ وَبَيْنِ النَّاسِ فِي نَحْوِ الْمَسْجِدِ وَالطَّاحُونِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَجْنَبِيًّا أَوْ وَلَدًا كَبِيرًا وَلَوْ سَفِيهًا بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ اعْتِبَارِ حِيَازَتِهِ.
(تَنْبِيهٌ) لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَا تَثْبُتُ بِهِ الْحِيَازَةُ وَفِيهِ خِلَافٌ، قِيلَ لَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، وَقِيلَ يَكْفِي الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ.
قَالَ الْأُجْهُورِيُّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ: وَصِفَةُ الشَّهَادَةِ أَنْ يَقُولَ الْعَدْلُ عَايَنْته تَحْتَ يَدِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ لِلْوَاقِفِ، وَلَا يَكْفِي إقْرَارُ الْوَاقِفِ بِالْحَوْزِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ.
(وَلَوْ كَانَتْ) الدَّارُ أَوْ غَيْرُهَا (حُبُسًا عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ) أَوْ عَلَى يَتِيمٍ فِي وَصِيَّتِهِ (جَازَتْ حِيَازَتُهُ لَهُ) وَتَسْتَمِرُّ (إلَى أَنْ يَبْلُغَ) فَإِنْ بَلَغَ وَجَبَ أَنْ يَحُوزَ لِنَفْسِهِ وَلَوْ سَفِيهًا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ اعْتِبَارِ حِيَازَتِهِ وَهَذَا فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الذَّكَرِ، وَأَمَّا الْأُنْثَى فَيَسْتَمِرُّ الْوَلِيُّ حَائِزًا لَهَا وَلَوْ بَلَغَتْ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ وَتَشْهَدَ الْعُدُولُ عَلَى صَلَاحِ حَالِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْحُرِّ، وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَيَحُوزُ لَهُ سَيِّدُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ أَبًا أَوْ غَيْرَهُ.
وَأَشَارَ إلَى شُرُوطِ حِيَازَةِ الْوَلِيِّ لِلصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ: (وَلْيُكْرِهَا لَهُ وَلَا يَسْكُنُهَا) إذَا كَانَتْ الدَّارُ الْمَوْقُوفَةُ دَارَ سُكْنَى الْوَاقِفِ (فَإِنْ لَمْ يَدَعْ) الْوَاقِفُ أَيْ يَتْرُكْ (سُكْنَاهَا) بَلْ اسْتَمَرَّ سَاكِنًا فِيهَا كُلِّهَا أَوْ جُلِّهَا (حَتَّى مَاتَ) أَوْ فَلِسَ (بَطَلَتْ) وَقْفِيَّتُهَا وَتَرْجِعُ مِيرَاثًا، وَأَمَّا لَوْ سَكَنَ الْأَقَلُّ وَأَكْرَى لَهُ الْأَكْثَرُ لَصَحَّ الْوَقْفُ فِي جَمِيعِهَا، لِأَنَّ الْأَقَلَّ يَتْبَعُ الْأَكْثَرَ فِي الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ، وَأَمَّا لَوْ سَكَنَ النِّصْفُ وَأَكْرَى النِّصْفَ لَبَطَلَ فِيمَا سَكَنَ وَصَحَّ فِيمَا أَكْرَى، هَذَا حُكْمُ وَقْفِ دَارِ سُكْنَاهُ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَأَمَّا لَوْ وَقَفَ دَارَ سُكْنَاهُ عَلَى كِبَارِ وَلَدِهِ وَسَكَنَ الْبَعْضَ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا مَا سَكَنَ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ مِثْلُ الْوَقْفِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ حَبَسَ عَلَى صِغَارِ وَلَدِهِ دَارًا أَوْ وَهَبَهَا لَهُمْ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ حَائِزٌ وَحَوْزُهُ حَوْزٌ لَهُمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِي كُلِّهَا أَوْ جُلِّهَا حَتَّى مَاتَ فَيَبْطُلُ جَمِيعُهَا وَتُوَرَّثُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ، وَأَمَّا الدَّارُ الْكَبِيرَةُ ذَاتُ الْمَسَاكِنِ يَسْكُنُ أَقَلَّهَا وَيُكْرِي لَهُمْ بَاقِيهَا فَذَلِكَ نَافِذٌ فِيمَا سَكَنَ وَفِيمَا يَسْكُنُ، وَبَقِيَ مِنْ شُرُوطِ حِيَازَةِ الْوَلِيِّ لِلصَّغِيرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَشْهَدَ الْوَاقِفُ عَلَى وَقْفِهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ، وَأَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ
رَجَعَتْ حُبُسًا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالْمُحَبِّسِ يَوْمَ الْمَرْجِعِ.
وَمَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا حَيَاتَهُ دَارًا رَجَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ السَّاكِنِ مِلْكًا
ــ
[الفواكه الدواني]
عَايَنَتْ الشَّيْءَ الْمَوْقُوفَ قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ أَيْضًا، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ إقْرَارِ الْوَاقِفِ دُونَ مُعَايَنَةِ الذَّاتِ الْمَوْقُوفَةِ، لِأَنَّ الْمُنَازِعَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ الْوَاقِفِ إمَّا الْوَرَثَةُ وَإِمَّا الْغُرَمَاءُ، وَالْبَيِّنَةُ إمَّا تَشْهَدُ عَلَى مَا عَايَنَتْهُ وَأَنْ تُثْبِتَ أَنَّ الْوَاقِفَ كَانَ يَصْرِفُ جَمِيعَ أَوْ جُلَّ الْغَلَّةِ فِي مَصَالِحِ الْمَحْجُورِ، فَلَوْ صَرَفَهَا فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ لَمْ تَصِحَّ الْحِيَازَةُ.
قَالَ خَلِيلٌ مُسْتَثْنِيًا فِي اشْتِرَاطِ الْحَوْزِ الْحِسِّيِّ: إلَّا لِمَحْجُورِهِ إذَا أَشْهَدَ وَصَرَفَ الْغَلَّةَ لَهُ وَلَمْ تَكُنْ دَارَ سُكْنَاهُ.
(تَنْبِيهٌ) لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ حِيزَتْ دَارُ السُّكْنَى أَوْ غَيْرُهَا مِمَّا لَهُ غَلَّةٌ بَعْدَ وَقْفِهَا ثُمَّ عَادَ الْوَاقِفُ لِسُكْنَاهَا بَعْدَ حِيَازَتِهَا وَفِي ذَلِكَ تَفْضِيلٌ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ حَوْزِهَا عَامًا لَمْ يَبْطُلْ تَحْبِيسُهَا لِحُصُولِ شُهْرَةِ وَقْفِيَّتِهَا، وَإِنْ عَادَ لَهَا قَبْلَ مُضِيِّ عَامٍ مِنْ يَوْمِ التَّحْبِيسِ بَطَلَ تَحْبِيسُهَا.
قَالَ خَلِيلٌ: وَبَطَلَ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَحَرْبِيٍّ وَكَافِرٍ لِكَمَسْجِدٍ، أَوْ عَلَى بَنِيهِ دُونَ بَنَاتِهِ، أَوْ عَادَ لِسُكْنَى مَسْكَنِهِ قَبْلَ عَامٍ، أَوْ جَهِلَ سَبْقَهُ لِدَيْنٍ إنْ كَانَ عَلَى مَحْجُورٍ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ لَهُ، أَوْ لَمْ يُجْرِهِ كَبِيرُ وَقْفٍ عَلَيْهِ وَلَوْ سَفِيهًا، أَوْ وَلِيَّ صَغِيرٍ، أَوْ لَمْ يُخْلِ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ كَمَسْجِدٍ قَبْلَ فَلَسِهِ وَمَوْتِهِ وَمَرَضِهِ إلَّا لِمَحْجُورِهِ إذَا أَشْهَدَ وَصَرَفَ الْغَلَّةَ لَهُ وَلَمْ تَكُنْ دَارَ سُكْنَاهُ، أَوْ عَلَى وَارِثٍ بِمَرَضِ مَوْتِهِ إلَّا مُعْقَبًا خَرَجَ مِنْ ثُلُثِهِ فَكَمِيرَاثٍ لِلْوَارِثِ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ تَرْجِعُ لَهُ الذَّاتُ الْمَوْقُوفَةُ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ انْقَرَضَ) أَيْ انْقَطَعَ (مَنْ حُبِّسَتْ عَلَيْهِ) الدَّارُ وَنَحْوُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ أَوْ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ وَلَمْ تَنْقَضِ (رَجَعَتْ حَبْسًا عَلَى) فُقَرَاءِ (أَقْرَبِ النَّاسِ بِالْمُحَبِّسِ يَوْمَ الْمَرْجِعِ) قَالَ خَلِيلٌ: رُوجِعَ إنْ انْقَطَعَ لِأَقْرَبِ فُقَرَاءِ عَصَبَةِ الْمُحَبِّسِ، وَامْرَأَةٌ لَوْ رَجَلَتْ لَعَصَّبَتْ وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَلَوْ كَانَ الْوَاقِفُ شَرَطَ فِي أَصْلِ وَقْفِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّ الْمَرْجِعَ لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَ الْمَرْجِعِ إلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ لَكَانَ لَهَا جَمِيعُهُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ قَرِيبٌ يَوْمَ الْمَرْجِعِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً وَذُو رَحِمٍ مُحْتَاجٌ» . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «اجْعَلْهَا فِي أَقَارِبِك» . وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رُجُوعُهَا لِأَقْرَبِ فُقَرَاءِ عَصَبَةِ الْمُحَبِّسِ وَلَوْ كَانَ الْمُحَبِّسُ حَيًّا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ وَلَوْ صَارَ فَقِيرًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْخُلُ فِي صَدَقَةِ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِ أَبِيهِ لَا يَدْخُلُ هُوَ فِيهِمْ، وَكَمَنْ عَزَلَ زَكَاةَ مَالِهِ وَلَمْ يَدْفَعْهَا لِلْفُقَرَاءِ حَتَّى ضَاعَ الْأَصْلُ وَصَارَ فَقِيرًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ سَهْمَ الْفُقَرَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِضَيَاعِ الْأَصْلِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَوْ صَارَ فَقِيرًا.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: أَفْهَمَ قَوْلُهُ: مَنْ حُبِّسَتْ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُحَبِّسَ عَلَيْهِ جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ كَزَيْدٍ وَذُرِّيَّتِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ نَحْوَ الْفُقَرَاءِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الْحُكْمُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ وَحَصَلَ فِيهِمَا انْهِدَامٌ فَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَفِي كَقَنْطَرَةٍ لَمْ يُرْجَ عَوْدُهَا فِي مِثْلِهَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يُرْجَى عَوْدُهَا فَإِنَّهُ يُحَبِّسُ لَهَا.
الثَّانِي: إنَّمَا قُلْنَا عَلَى التَّأْبِيدِ أَوْ مُدَّةً وَلَمْ تَنْقَضِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْوَقْفِ مُدَّةً وَانْقَضَتْ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِلْكًا لِوَاقِفِهِ إنْ كَانَ حَيًّا وَلِوَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
الثَّالِثُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ التَّأْبِيدُ خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ فِي تَعْرِيفِهِ، وَكَذَا قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: الْوَقْفُ يَتَنَوَّعُ إلَى خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ: مُنْقَطِعُ الْأَوَّلِ، مُنْقَطِعُ الْآخِرِ، مُنْقَطِعُ الطَّرَفَيْنِ، مُنْقَطِعُ الْوَسَطِ، مُنْقَطِعُ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ، فَالْأَوَّلُ: كَالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ عَلَى مَيِّتٍ لَا يَنْتَفِعُ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَالثَّانِي: كَالْوَقْفِ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى مَعْصِيَةٍ. وَالثَّالِثُ: كَالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى مَيِّتٍ لَا يَنْتَفِعُ. وَالرَّابِعُ: كَالْوَقْفِ عَلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى مَعْصِيَةٍ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَالْخَامِسُ: كَالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى الْمُحَارِبِينَ فِي جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ عَلَى مَدْرَسَةٍ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ عَلَى الْكَنِيسَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَبْطُلُ فِيمَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، وَيَصِحُّ إذَا أَمْكَنَ الْوُصُولُ إلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ الِانْقِطَاعُ لِأَنَّ الْوَقْفَ نَوْعٌ مِنْ التَّمْلِيكِ فِي الْمَنَافِعِ أَوْ الْأَعْيَانِ، فَجَازَ أَنْ يَعُمَّ أَوْ يَخُصَّ كَالْعَوَارِيِّ وَالْهِبَاتِ وَالْوَصَايَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُمْنَعُ مُنْقَطِعُ الِابْتِدَاءِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الِانْتِهَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُمْنَعُ مُنْقَطِعُ الِانْتِهَاءِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُمْنَعُ مُنْقَطِعُ الِانْتِهَاءِ وَالْوَسَطِ، هَكَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعُمْرَى بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَهِيَ بِالْقَصْرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعُمْرِ لِوُقُوعِهِ ظَرْفًا لَهَا، وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: هِيَ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ حَيَاةَ الْمُعْطَى بِغَيْرِ عِوَضٍ إنْشَاءً، فَيَخْرُجُ إعْطَاءُ الذَّاتِ وَيَخْرُجُ بِحَيَاةِ الْمُعْطَى الْحُبُسُ وَالْعَارِيَّةُ وَالْمُعْطَى فِي كَلَامِهِ بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَأَمَّا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ حَيَاةَ الْمُعْطِي بِالْكَسْرِ فَهِيَ عَارِيَّةٌ حَقِيقَةً، وَإِنْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا لَفْظَ الْعُمْرَى فَعَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَيَخْرُجُ بِقَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِوَضٍ الْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ، وَيَخْرُجُ بِإِنْشَاءِ الْحُكْمِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُمْرَى وَحُكْمُهَا النَّدْبُ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَهِيَ مِنْ الْأَرْكَانِ كَالْهِبَةِ وَصِيغَتُهَا أَعَمَرْتُك وَأَسْكَنْتُك، وَتَجُوزُ فِي الدُّورِ وَالرَّقِيقِ وَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْحُلِيِّ وَالنَّبَاتِ فَقَالَ:(وَمَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا) أَوْ امْرَأَةً (حَيَاتَهُ دَارًا) أَوْ غَيْرَهَا لِيَنْتَفِعَ بِسُكْنَاهَا مُدَّةَ عُمْرِهِ صَحَّ ذَلِكَ وَ (رَجَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ السَّاكِنِ مِلْكًا