الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التزم الشخص الضمان بالشرط فإنه يلزمه؛ لأنه قد أوجب على نفسه بالشرط ما لا يجب عليه بدونه، والأصل في الشروط الصحة والجواز.
الدليل الثالث:
الإجماع حكاه ابن قدامة وغيره، قال:«متى شرط على المضارب ضمان المال، أو سهمًا من الوضيعة، فالشرط باطل، لا نعلم فيه خلافًا»
(1)
.
(2)
.
جواب القائلين بالجواز عن حكاية الإجماع:
حاول بعضهم أن يخرق الإجماع بأمور عند التحقيق لا يظهر أن الإجماع مخروق بها، من ذلك:
رأى بعضهم أن الإجماع مخالف بقول ابن عتاب وشيخه أبي المطرف ابن بشير من المالكية في صحة تضمين العامل بالشرط.
والذي أفهمه من قول ابن بشير وموافقة تلميذه ابن عتاب أنه لا يخالف ما ورد في مذهب المالكية:
جاء في القاعدة الخامسة والسبعون: أن أبا المطرف بن بشير قد أملى عقدًا بدفع الوصي مال السفيه قراضًا إلى رجل على جزء معلوم، وأن العامل طاع بالتزام ضمان المال وغرمه
(3)
.
(1)
المغني (5/ 40).
(2)
المنتقى للباجي (5/ 164).
(3)
إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك (ص:301).
فمعنى قوله: (وأن العامل طاع بالتزام الضمان) كلمة طاع بمعنى تطوع، والتطوع بالضمان من باب التبرع، وليس من باب الشروط.
وهذا ما فهمه القاضي ابن زرب تصديقًا لكلام ابن بشير وتلميذه ابن عتاب، قال ابن زرب:«فلو تبرع بالضمان وطاع به بعد تمام الاكتراء لجاز ذلك، قيل له: فيجب على هذا القول الضمان في مال القراض إذا طاع به قابضه بالتزام الضمان، فقال: إذا التزم الضمان طائعًا بعد أن شرع في العمل فما يبعد أن يلزمه»
(1)
.
فتجد أن الكلام كله في باب التبرع بالضمان بعد لزوم العقد والشروع في العمل، وأن كلمة (طاع به) وردت في كلام ابن بشير وابن عتاب كما وردت في كلام القاضي ابن زرب، وكلها تعني التطوع بالضمان، ولا تعني الاشتراط، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن كلام ابن بشير وابن عتاب خارقًا للإجماع؛ لأن مسألة التبرع بعد لزوم العقد وبعد الشروع في العمل مسألة أخرى تختلف عن اشتراط الضمان في صلب العقد، وسيأتي مناقشة ذلك إن شاء الله تعالى عند ذكر أدلة الأقوال.
ورأى بعضهم خرق الإجماع بقول قتادة وداود الظاهري وأبي حفص العكبري وابن تيمية والسعدي في صحة اشتراط ضمان العارية
(2)
.
(1)
المرجع السابق.
(2)
انظر قول داود الظاهري في الحاوي (7/ 118).
وانظر قول أبي حفص العكبري في كتاب الإنصاف (6/ 113).
وانظر قول ابن تيمية في كتاب المبدع (5/ 145)، الإنصاف (6/ 113).
وانظر قول الشيخ عبد الرحمن السعدي في المختارات الجلية ضمن المجموعة الكاملة (4/ 2/195).
كما رأى بعضهم خرف الإجماع بقول عبيد الله بن الحسن العنبري والشيخ ابن عثيمين في صحة اشتراط ضمان الوديعة.
كما رأوا خرق الإجماع بكلام عام في صحة التزام ضمان الأمانات على وجه العموم، وهو قول في مذهب المالكية، ورواية عن الإمام أحمد.
جاء في شرح ميارة، تحت عنوان: فصل في العارية والوديعة والأمناء نقلًا عن ابن الحاجب: «وإذا اشترط إسقاط الضمان فيما يضمن، أو إثباته فيما لا يضمن، ففي إفادته قولان»
(1)
.
وجاء في الإنصاف عند الكلام على ضمان العارية، قال: «وكل ما كان أمانة لا يصير مضمونًا بشرطه، هذا المذهب، وعليه الأصحاب
…
وعنه المسلمون على شروطهم كما تقدم»
(2)
.
والذي تقدم قول الإمام أحمد في اشتراط نفي الضمان عن العارية، والمذهب أن العارية مضمونة مطلقًا، وعن الإمام أحمد في رواية أنه حين ذكر ذلك له، قال: المسلمون على شروطهم
(3)
.
فما ورد عن الإمام أحمد ليس نصًا في ضمان مال المضاربة، والله أعلم.
والنقاش: هل يصح أن يقال: إن الخلاف في ضمان الوديعة والعارية خارق لما حكي من إجماع في تحريم ضمان المضاربة بجامع أن كلًا منهما من باب اشتراط ضمان الأمانات.
هل يقال: إذا صح التزام الضمان في الوديعة، وهي مقبوضة لحظ صاحبها،
(1)
شرح ميارة (2/ 186).
(2)
الإنصاف (6/ 113).
(3)
الإنصاف (6/ 113).
والمودَع محسن، فالتزام الضمان في المضاربة من باب أولى؛ لأنه قد قبضها لمصلحتهما (المالك والمضارب)؟
أو يقال: يختلف الضمان في الوديعة والعارية عن الضمان في عقد المضاربة، فالعقدان الأولان ليسا من عقود المعاوضة، فلا محذور شرعًا في التزام الضمان، وأما المضاربة فإنها من عقود المعاوضة، والتزامه يجعل الضمان جزءًا من المعاملة، ويحول رأس مال المضاربة إلى ما يشبه القرض، ويتحول الربح إن وجد إلى فائدة للقرض، فلا يصح التخريج.
الذي أميل إليه هو الثاني، وأن الخلاف في ضمان الوديعة والعارية لا يصح أن يعارض به الإجماع الوارد في منع ضمان مال المضاربة بدليل أن الذي قال بجواز ضمان الوديعة والعارية لم يختلف قولهم بتحريم ضمان مال المضاربة، فلو كان الباب واحدًا لوجدت ا لخلاف محفوظًا في المسألتين، فلما اختلفوا في اشتراط ضمان الوديعة والعارية، ولم يختلفوا في المنع من ضمان مال المضاربة دل ذلك على أن مال المضاربة يختلف في الحكم عن مال الوديعة والعارية.
وأما ما ورد عامًا عن بعض المالكية والحنابلة في صحة اشتراط الضمان في الأمانات، فيقال: إن الأمانات ليست معاملة واحدة، منها ما هو على سبيل المعاوضة، والتزام الضمان في العقد يكون مؤثرًا في صحته لوجود محاذير شرعية، ومن الأمانات ما ليس من عقود المعاوضات، والتزام الضمان لا يوقع في محاذير شرعية؛ لأن باب التبرعات أوسع من باب المعاوضات، فلا يؤثر في صحة العقد، فيحمل كلام الأئمة على الثاني دون الأول، والله أعلم، خاصة أن مذاهبهم صريحة في أن التزام الضمان في عقد المضاربة لا يصح، فيكون الحمل هذا متعينًا، والله أعلم.
والقول الذي وقفت عليه في صحة التضمين بالشرط مما يدخل في المعاوضة ما ورد عن ابن نجيم في الأشباه والنظائر في ضمان العين المستأجرة ـ قاله تفقهًا من عنده وهو خلاف المذهب ـ وما جاء عن ابن تيمية في التزام الحارس بالضمان وكلاهما في غير تضمين عامل المضاربة بالشرط، ولا يخرق مثل ذلك الإجماع؛ لأن الإجماع وارد في المنع من تضمين عامل المضاربة.
(1)
.
وانتقد ذلك الحموي في غمز عيون البصائر، وقال:«لا يحل الإفتاء من القواعد والضوابط، وإنما على المفتي حكاية النقل الصريح كما صرحوا به»
(2)
.
يعني أن صريح كلام الحنفية أن اشتراط الضمان غير صحيح، فلا يعدل عن ذلك إلى الاستدلال بالقواعد والضوابط الفقهية، والله أعلم.
وقال ابن تيمية: «ويصح ضمان حارس ونحوه»
(3)
.
ويبقى أن كل هذه النقول غير تضمين عامل المضاربة بالشرط؛ لأن عقد المضاربة يقوم على إطلاق التصرف في المال، وضمان رأس المال فيه يحول العقد إلى ما يشبه القرض، وإذا وجد الربح كان بمثابة الفائدة، والله أعلم.
(1)
غمز عيون البصائر (1/ 308).
(2)
المرجع السابق.
(3)
الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 395)، وانظر الاختيارات الفقهية لابن تيمية (ص:195).