الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شواهد باب أفعال المقاربة
مسألة [80]
ربما جاء خبر (عسى وكاد) اسما مفردا
، فالأول كقولهم في المثل:"عسى العوير ابؤسا"، وقوله:(الرجز).
(اكثرت في العدل ملحا دائما
…
لأتكثرن أني عسيت صائما)
والثاني كقوله: (الطويل).
(فأبت إلى فهم وما كدت آبيا)
…
(وكم مثلها فارقتها وهي تصفر).
فأما/153 / المثل فعسى للاشفاق، و (الغوير) ماء لكلب معروف، قاله ابن الكلبي، وهو في الأصل تصغير غور أو غار.
و (الا بؤس) جمع بؤس، وهو الشدة، واصل المثل: إن الزباء لما قتلت جذيمة جاء قصير إلى عمرو بن عدي، فقال: ألا تأخذ بثأر خالك؟ فقال: كيف السبيل إلى ذلك، فعمد قصير إلى أنفه فجدعها. فقالت العرب:(لا مر ما جدع قصير أنفه) وأتى الزباء، وزعم أنه فر إليها، وأنهم آذوه بسببها، وأقام في خدمتها مدة يتجر لها، ثم أنه أبطأ عنها في سفره، فسألت عنه، فقيل: أخذ طريق الغوير، فقالت،
"عسى الغوير أبؤسا"، ثم لم يلبث أن جاء بالجمال عليها صناديق في جوفها الرجال، فلما دخلوا البلد خرجوا من الصناديق، وانضاف إليهم الرجال الموكلون بالصناديق والجمالون، فقتلوا في الناس قتلا ذريعا، وقتلوا أهل الزباء وأسروها، وفقأوا عينيها، وأتوا بها عمرا، فقتلها، وقيل: أنها امتصت خاتما كان معها مسموما.
ومعنى المثل: لعل الشر يأتي من قبل الغوير، يضرب للرجل يتوقع الشر من جهة بعينها.
وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه يحمل لقيطا، فقال له عمر: هسى الغوير أبؤسا.
قال ابن الأعرابي: عرض به، أي لعلك صاحب اللقيط. ووهم ابن الخباز في أصل المثل، فقال: قالته الزباء حين الجأها قصير إلى غارها. انتهى.
وفي الصحاح قال الأصمعي: اصله أنه كان غار فيه ناس، فإنهار عليهم، أو أتاهم فيه عدو فقتلوهم، فصار مثلا لكل شئ يخاف أن يأتي منه شر.
قلت: وتكون الزباء تكلمت به تمثلا، وهذا أحسن، لأن الزباء فيما زعموا رومية / 154 /، فكيف يحتج بكلامها، وقد يقال: وجه الحجة أن العرب تمثلت به بعدها.
واختلف في ناصب (أبؤسا)، فعند سيبويه وأبي علي: أنه (عسلا)، وأن ذلك من مراجعة الأصول.
وقال ابن الأعرابي: بـ (صير) محذوفة. وقال الكوفيون: التقدير: أن يكون (أبؤسا)، ومنع سيبويه إضمار أن يكون في قوله:(الوافر).
(وكل أخ مفارقه أخوه
…
لعمر أبيك إلا الفرقدان)
لأن فيه اضمار الموصول، وقدر إلا صفة، وقيل: التقدير يكون أبؤسا. وفيه مجئ الفعل بعد (عسى) بغير (أن)، واضمار (كان) غير واقعة بعد أداة تطلب الفعل. وقيل: التقدير، عسى الغوير يأتي بأبوس.
وفيه ترك (أن) واسقاط الجار توسعا ولكن يشهد له قول الكميت: (البسيط).
(قالوا أساء بنو كرز فقلت لهم
…
عسى الغوير بإباس وإغوار)
وتلخص أن (أبؤسا) خبر لعسى، أو لكان، أو لصار، أو مفعول به. وأحسن من ذلك كله أن يقدر: ييأس أبؤسا، فيكون مفعولا مطلقا، ويكون مثل قوله تعالى:{فَطَفِقَ مَسْحاً} أي يمسح مسحا، وقول أبي دهبل الجمحي:(الطويل).
(لأوشك صرف الدهر تفريق بيننا
…
ولا يستقيم الدهر والدهر أعوج)
أي لأوشك يفرق بيننا تفريقا، ثم حذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه، وأضيف إلى ظرفه، وهذا شعر رقيق، وصدر قصيدته:
(تطاول هذا الليل ما يتبلج
…
وأعيت غواشي الهم ما يتفرج)
(وبت كئيبا ما أنام كأنما
…
جلال ضلوعي جمرة تتوهج)
(فطورا أمني النفس من غمرة المنى
…
وطورا إذا ما لج بي الحب أنشج)
(لقد قطع الواشون ما كان بيننا
…
ونحن إلى أن يوصل الحبل أحوج)
(أخطط في ظهر الحصير كأنني
…
أسير يخاف القتل ولهان محرج)
/ 155 / والحذف في الآية خير منه في البيتين، لأن مجئ الفعل بعد عسى وأوشك بغير أن ضرورة.
وفي الوجز على التأويل المذكور مجاز، وهو إسناد الفعل إلى المكان على حد قوله تعالى:
{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ، وهو لازم لمن قدر: يكون أو يصير.
وأما البيت الأول فمشهور، وطعن فيه عبد الواحد الطواح في كتاب
(بغية الأمل ومنية السائل)، فقال: هو بيت مجهول لم ينسبه الشراح إلى أحد، فسقط الاحتجاج به، ولو صح ما قاله لسقط الاحتجاج بخمسين بيتا من كتاب سيبويه، فإن فيه ألف بيت قد عرف قائلوها وخمسين مجهولة القائلين.
وحرف ابن الشجري هذا الرجز فأنشده.
(قم قائما قم قائما
…
إني عسيت صائما)
وإنما "قم قائما" صدر رجز آخر يأتي شرحه - إن شاء الله تعالى - في باب الحال. ولا يتركب قوله:
(إني عسيت صائما) عليه، بل على ما قدمنا فإن معناه: أيها العادل الملح في عدله أنه لا يمكن مقابلة كلامك بما يناسبه من السب، فإنني صائم.
وهو مقتبس من الحديث: "فليقل إني صائم"، ويروى (لا تلحني) مكان (لا تكثرن)، وهو بفتح الحاء، يقال: لحيته، بالفتح، الحاه لحيا إذا لمته.
والشاهد في قوله: "صائما"، فإنه اسم مفرد جئ به خبرا لعسى كذا قالوا، والحق خلافه، وأن (عسى) هنا فعل تام خبري، لا فعل ناقص إنشائي. يدلك على أنه خبري، لا فعل ناقص إنشائي. يدلك على أنه
خبري وقوعه خبرا لأن، ولا يجوز بالاتفاق، أن زيدا هل قام، وأن هذا الكلام يقبل التصديق والتكذيب، وعلى هذا فالمعنى: إني رجوت أن أكون صائما. فصائما خبر لكان، وأن والفعل مفعول لعسى. وسيبويه يجيز حذف أن والفعل إذا قويت الدلالة على المحذوف. ألا ترى أنه قدر في قوله:
/ / "من لد شولا" من لد أن كانت شولا.
ومن وقوع عسى فعلا خبريا قوله تعالى: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} ، ألا ترى أن الاستفهام طلب فلا يدخل على الجملة الانشائية، وأن المعنى: هل طمعتم ألا تقاتلوا، إن كتب عليكم القتال؟
ومما يحتاج إلى النظر قول القائل: عسى زيد أن يقوم. فإنك إن قدرت (عسى) فيه فعلا إنشائيا، كما قال النحويون، أسكل، إذ لا يسند فعل الإنشاء إلا إلى منشئه، وهو المتكلم، كبعت واشتريت واقسمت وقبلت وحررتك.
وأيضا فمن المعلوم أن زيدا لم يترج، وإنما المترجي المتكلم. وإن قدرته خبرا، كما في البيت والآية، فليس المعنى على الأخبار، ولهذا لا يصح تصديق قائله ولا تكذيبه.
فإن قلت: يخلص من هذا الأشكال أنهم نصوا على أن كان وما أشبهها أفعال جارية مجرى الادوات فلا يلزم فيها حكم سائر الأفعال.
قلت: قد اعترفوا مع ذلك أنها مسندة، إذ لا ينفك الفعلا المركب عن الاسناد، إلا إن كان زائدا أو مؤكدا، على خلاف في هذين أيضا.
وقالوا: إن كان مسندة إلى مضمون الجملة، فمعنى: كان زيد أخوك، نسبة الكون والحصول إلى (أخوة) زيد، وقد بينا أن الفعل الإنشائي لا يمكن إسناده لغير المتكلم، وإنما الذي يخلص من الأشكال أن ندعي أنها هنا حرف بمنزلة لعل، كما قال سيبويه والسيرافي بحرفيتها في نحو: عساي وعساك وعساه.
وقد ذهب أبو بكر وجماعة إلى أنها حرف دائما، وإذا حملناها على الحرفية زال الاشكال، إذ الجملة الإنشائية حينئذ اسمية لا فعلية، كما تقول: لعل/ 157 / زيدا يقوم.
فاعرف الحق ودع التقليد، وآستفت نفسك وإن افتاك الناس، وميز بين وقوعها خبرا وإنشاء، ووقوعها فعلا وحرفا.
وأما البيت الثاني فإنه لتأبط شرا، واسمه ثابت بن جابر، ووافقه في أسمه واسم أبيه الشنفري، وإنما لقب بذلك، لأن أمه قالت له يوما: إن الغلمان يجنون لا هلهم الكمأة، فهلا فعلت كفعلهم؟ فأخذ جرابه ومضى،
فملأه أفاعي، وأتى متأبطا به، أي جاعلا له تحت إبطه، فألقاه بين يديها، فخرجت الأفاعي منه تسعى، فولت هاربة. فقال لها نساء الحي: ما الذي كان ابنك متأبطا له؟ فقالت: تأبط شرا. فلزمه هذا اللقب.
ومعنى: (أبت) رجعت. و (فهم) قبيلته. ويروى: وما كنت آيبا، ولم اك آيبا. وضعفهما ابن جني في كتاب (التنبيه). وقال: إنما المعنى: فأبت وما كدت آوب، لقولك سلمت وما كدت اسلم. ولا معنى لأن يقول: وما كنت، أو لم أكن. انتهى.
وقال الأعلم: معناهما ما كان حالي حال من يؤوب حين أحيط بي لولا تحيلي.
وعلى هاتين الروايتين فلا شاهد فيه. وتمامه:
وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
أي: وكم خطة مثل هذه لاقيتها وتخلصت منها وهي تصفر ندما حين فتها. وأراد بالصغير النفخ عند الندم.
ومن ألفاظ هذا الشعر.
إذا سد منها منخر جاش منخر
كما سيأتي.
ومن محاسن أهل الأدب أن محيي الدين بن قرناص الأديب قال بحضرة شرف الدين الحلي ملغزا في الشبابة: / 158 / (الطويل).
(وناطقة خرساء باد شحويها
…
تكنفها عشر وعنهن تخبر)
(يلذ إلى الأسماع رجع حديثها
…
إذا سد منها منخر جاش منخر)
فأجابه في الحال: (الطويل).
(نهاني النهى والشيب عن وصل مثلها
…
وكم مثلها فارقتها وهي تصفر)
وأول الشعر:
(إذا المرء لم يحتل وقد جد جده
…
أضاع وقاسى أمره وهو مدبر)
(ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا
…
به الخطب إلا وهو للخطب مبصر)
(فذاك قريع الدهر ما عاش حول
…
إذا سد منه منخر جاش منخر)
(أقول للحيان وقد صفرت لهم
…
وطابي ويومي ضيق الباع معور)
(هما خطتا إما إسار ومنة
…
وإما دم والقتل بالحر أجدر)
(وأخرى أصادي النفس عنها وإنها
…
لمورد حزم إن فعلت ومصدر)
(فرشت لها صدري فزل عن الصفا
…
به جؤجؤ عبل ومتن مخصر)
(فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا
…
به كدحة والموت خزيان ينظر)
(فأبت إلى فهم ....... البيت)
وكان من خبره أنه تدلى من قنة إلى سفحة، ليشتار عسلا، وتحته صخرة ملساء تنتهي إلى الحضيض. وعرفت لحيان بمكانه، وكان يغير عليهم كل وقت، فأتوه وحركوا له الخيل، فسألهم أن يرقى إليهم، ويفدي نفسه فأبوا عليه، فصب العسل على الصفا، وجعل عليه صدره، فنزل قليلا حتى بلغ الحضيض، وهم ينظرون، وكان بين الموضع الذي تدلى منه والذي انتهى إليه ثلاثة أيام لمن سار في أسفل الجبل.
و (القريع) الداهية. و (الحول) المتحول من حال إلى حال. و (جاش) فار/ 159/ وغلا، وهذا تمثيل.
والمعنى: إذا ضاق عليه مذهب احتال فاتسع له مذهب آخر. و (لحيان) قبيلة من هذيل. و (صفرت) خلت من الشراب. و (الوطاب) زقاق اللبن، ضربة مثلا لإشرافه على الموت حين أحيط به، فجعل نفسه كمن مات فخلا جسمه من روحه، كما تخلو الوطاب من اللبن، ونظيره قول ارئ القيس:
وأفلتن علباء جريضا
…
ولو أدركته صفر الوطاب
أي: هلك. و (معور) بادي العورة للعدو، وإنما ضيق الباع والإعوار لنفسه لا لليوم، ومثله:(والليل إذا يسر) و (الخطتان) الخصلتان، وحذف النون للضرورة.
ومما عزت العرب للبهائم أن الحجلة تقول للقطاة:
بيضك ثنتا وبيضي مئتا