الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعفا المنزل يعفو عفواً وعفواً وعفاء بالفتح والمد: درس وذهبت آثاره، والرواية في ديوانه:
ورسم عفا آياته منذ أزمان
والرسم: ما كان لاصقاً بالأرض نحو الرماد والبعر، والآيات: العلامات، ويعجبني قوله منها:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه
…
فليس على شيء سواه بخزان
وأنشد بعده، وهو الإنشاد التاسع والأربعون بعد الخمسمائة:
(549)
أقوين مذ حجج ومذ دهر
وصدره:
لمن الديار بقنة الحجر
على أن جر "مذ" للزمان الماضي قليل، والمشهور في الرواية:
أقوين من حجج ومن دهر
وبه استدل الكوفيون في جواز استعمال "من" الابتدائية في الزمان أيضاً، وأجاب الرضي بأن "من" فيه تعليلية مع تقدير مضاف، لا ابتدائية، وهو الحق، فإن علة إقواء الديار مرور الدهور عليها لا ابتداء مرورها، وقد بسطنا الكلام عليه بذكر ما للعلماء فيه في الشاهد الرابع والسبعين بعد السبعمائة من شواهد الرضي.
قوله: لمن الديار، الظرف خبر مقدم، والديار مبتدأ مؤخر، وهذا الاستفهام تعجب من شدة خرابها، حتى كأنها لا تعرف ولا يعرف أصحابها وسكانها، والقنة، بضم القاف: أعلى الجبل، ومثله القلة، والحجر، بكسر الحاء المهملة:
منازل ثمود بناحية الشام عند وادي القرى، قال صعوداء في شرح ديوان زهير: قال أبو عمرو: لا أعرف إلا حجر ثمود، ولا أدري أراده بعينه أم لا، وأما حجر، بفتح المهملة، فهي قصبة اليمامة، ولكن لا يدخلها الألف واللام، فلذلك أنكرها أبو عمرو. انتهى. وكذا قال غيره. قال ابن السيد في شرح أبيات "الجمل": هذا هو المروي هنا، وقد أوله جماع على زيادة أل، وقال اللخمي في شرحها أيضاً: قد يضعون ذلك في الأعلام، كقوله في البيت:
يا ليت أم العمرو كانت صاحبي
أراد: أم عمرو، وقال آخر:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا
أراد: الوليد بن يزيد هذا ما قالوا، والصواب دخول اللام عليه، قال عاصم: الحجر، بالفتح: مدينة اليمامة، والحجر بالكسر: حجر ثمود، قال الجوهري: الحجر: بالفتح: قصبة اليمامة يذكر ويؤنث، ويؤيد قولهما هذا البيت، وبيت النابغة:
وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة
…
أخا جابر واستنكحوا أم جابر
والباء في قوله: بقنة ظرفية متعلقة بمحذوف حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، والعامل فيه الاستقرار المحذوف، وأقوين: أقفرن، يقال: أقوت الدار: إذا خلت من سكانها، وأقفرت، والنون ضمير الديار، وجملة أقوين حال
من ذلك الضمير أيضاً، والحجج، بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم، جمع حجة، بكسرها أيضاً وهي السنة، والدهر: الأبد الممدود، قال اللخمي: ومن رواه: مذ حجج كانت "مذ" حرف جر، والعامل فيها أقوين، وهي بمنزلة في، لأن المعنى: أقوين في حجج.
والبيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى مدح بها هرم بن سنان المري، عدتها تسعة عشر بيتاً، وبعده:
لعب الرياح بها وغيرها
…
بعدي سوافي المور والقطر
قفر بمندفع النحائت من
…
ضفوي أولات الضال والسدر
دع ذا وعد القول في هرم
…
خير الكهول وسيد الحضر
والسوافي: جمع سافية من سفت الريح التراب تسفيه سفياً: إذا ذرته، والمور بالضم: الغبار بالريح، والقطر: المطر، قال أبو عبيدة: ليس المطر سوافي، ولكن أشركه في الجر. انتهى. وليس هذا من الجر بالجوار، لأنه لا يكون في النسق، ووجهه أن الرياح السوفي تذري التراب من الأرض، وتنزل المطر من السحاب، قوله: قفر، أي: تلك الديار قفر، والمدفع، بفتح الفاء، والنحائت، بفتح النون بعدها حاء مهملة، قال صعوداء: هي آبار، ومندفعها: مندفع مياهها، ولعلها أودية، والآبار تفسير أبي عمرو، والضفوان، بالضاد المعجمة بعدها فاء: الجانبان، الواحد ضفا، كقفا، وأولات الضال والسدر: مواضع في سدر، والضال: السدر البري.
وقوله: دع ذا، قال صعوداء: عد القول: اصرفه إليه، والحضر: جمع واحده حاضر، مثل صحب وصاحب. انتهى. والحاضر: الحي العظيم، والحاضر خلاف البادي، والأبيات الثلاثة الأول قد نسبها نقاد الشعر إلى حماد الراوية، وقالوا: أول القصيدة إنما هو:
دع ذا وعد القول في هرم .. البيت
روى الأصبهاني في "الأغاني" عن جماعة أنهم كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بعيساباذ، وقد اجتمع فيها العلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب، فدعا بالمفضل الضبي الراوية، فدخل فمكث ملياً، ثم خرج ذلك الرجل بعينه، فدعا بحماد الرواية، فمكث ملياً، ثم خرج ومعه حماد والمفضل جميعاً، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج الخادم، فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألف درهم لصدقه، وصحة روايته، فمن أراد أن يسمع شعراص جيداً محدثاً، فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة، فليأخذها عن المفضل، فسألنا عن السبب، فأخبرنا أن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده، إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بقوله:
دع ذا وعد القول في هرم
ولم يتقدم قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: يا أمير المؤمنين ما سمعت في هذا شيئاً إلا أنني توهمته كان [يفكر] في قول يقوله، أو يروي في أن يقول شعراً. قال: عد إلى مدح هرم، [وقال]: دع ذا، أو كان مفكراً في شيء من شأنه، فتركه، وقال: دع ذا، أي: دع ما أنت فيه من الفكر، وعد القول في هرم. ثم دعا بحماد، فسأله عن مثل ما سأل المفضل، فقال: ليس هكذا قال زهير، يا أمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ فأنشده:
لمن الديار بقنة الحجر
…
الأبيات الثلاثة
دع ذا وعد القول في هرم .. البيت
قال: فأطرق المهدي ساعة، ثم أقبل علي، فقال: قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بد من استحلافك عليه، ثم استحلفه بأيمان البيعة ليصدقنه عما سأله عنه، فحلف حماد له، فلما توثق منه، قال له: اصدقني عن حال هذه الأبيات، ومن أضافها إلى زهير، فأقر له حينئذ أنه قالها، فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهر أمرهما وكشفه. إلى هنا كلام صاحب "الأغاني".
وحماد هذا هو ابن ميسرة مولى بني شيبان، وكان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها، وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره، وقال له الوليد بن يزيد: بما استحققت هذا اللقب، فقيل لك: حمادة الراوية؟ قال: لأني أروي لكل شاعر يعرفه أمير المؤمنين أو سمع به، ثم أروي لأكثر ممن لا تعرفهم، ولا سمعت بهم، ثم لا أنشد شعراً لقديم أو لمحدث إلا ميزت القديم والمحدث، قال: إن هذا لعلم كثير، فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثير، ولكني أنشدك على أي حرف شئت من حروف المعجم مائة قصيدة طويلة سوى المقطعات من شعر الجاهلية، قال: سأمتحنك، وأمره الوليد بالإنشاد، فأنشده حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه، ويستوفي عليه، فأنشده ألفي قصيدة وتسعمائة قصيدة للجاهليين، وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهم. وقد بسطنا ترجمته في ذلك الشاهد من شواهد الرضي.