الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده:
لما تزل بركابنا وكأن قدن
على أن تنوين الترنم "قد" يلحق الحرف أيضاً، وأصله: وكأن قدي بياء الإطلاق فأبدلت نوناً، وصدره:
أفد الترحل غير أن ركابنا
وأفد من باب فرح بمعنى قرب، والترحل: الرحيل، والركاب: الإبل، واحدتها راحلة من غير لفظها، ولما بمعنى لم، والرحال: جمع رحل وهو متاع المسافر وأثاثه وما يحتاج إليه، ومدخول قد محذوف، أي: وكأن قد زالت؛ وتقدم الكلام عليه في الإنشاد الخامس والثمانين بعد المائتين.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الثامن والخمسون بعد الخمسمائة:
(558)
وقاتم الأعماق خاوي المخترقن
على أن هذه النون هي التنوين الغالي، والبيت مطلع أرجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج وصف بها قفراً تجاوزه بلا دليل على ناقة قوية شديدة تشبه حمار الوحش، وهذا مضمون الأرجوزة إجمالاً. والواو في أوله واو رب، ويأتي بعد ثمانية أبيات، وهو قوله: تنشطته. فيكون قاتم الأعماق منصوباً بفعل يفسره: تنشطته المذكور، والتقدير: رب قفر قاتم أعماقه تنشطت، تنشطته هذه الناقة، أي: تجاوزته وقطعته، وإنما لم ينصبه بتنشطته المذكور، لأن قد استوفى معموله.
وقد شرح هذه الأرجوزة شرحاً جيداً أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان
التنوخي المعري، قال: ابتدأ بالواو، والابتداء بها كثير في الرجز، فأما القصائد من غير الرجز، فلا يكثر ابتداؤها بالواو، كما يكثر في الأراجيز، إلا أنهم ربما جاؤوا به كما قال أبو داود الإيادي:
وقد أغتدي في بياض الصباح
…
وأعجاز ليل مولي الذنب
ولو حذف الواو لجاز وكان ذلك خرماً، وقال أيضاً:
وكل حصن وإن طالت سلامته
…
يوماً ستدخله النكراء والحوب
وقد رواه بعض الناس بحذف الواو، وذلك لا يجوز في رأي الخليل، لأن الخرم لا يجوز عنده في هذا الوزن، وقال أبو زبيد الطائي:
ولقد مت غير أني حي
…
يوم ولت بودها الخنساء
فابتدأ بالواو، وحذفها قبيح، ولم يروه أحد، وهذا البيت في ديوان الأسود ابن يعفر:
وخالد يحمد ساداتنا
…
بالحق لا يحمد بالباطل
والبيت في أول قصيدة، وقد روي بحذف الواو، وذلك غير جائز عند الخليل، ويستشهدون بهذا البيت، لأن خالداً مرفوع، كأنه لما ابتدئ به حمل على الابتداء وإرادة الهاء، كأنه قال: خالد يحمد ساداتنا، والواو في قوله: وقاتم، يسميها النحويون واو رب، وعندهم أن رب مضمرة بعدها، وكان محمد بن يزيد يزعم أن الواو خلف من رب، لأن عوامل الخفض لا تضمر، والقاتم الذي لونه لون القتام وهو الغبار، وإذا كان الفعل متصرفاً وجاء اسم الفاعل على فاعل أو فعل أو فعل، جاز أن يوضع مكانه أفعل، كقولهم: الغبار القاتم، والغبار الأقتم، وكذلك تقول: هذا الرجل الوجل والأوجل، والظريف والأظرف، والحسن والأحسن، ولم
يقولوا الحسين، على أن بعضهم قد حكاه، إلا أنه غير معروف، كأنهم جعلوا الحسن مصدراً نعت به.
والأعماق: جمع عمق، وهي الناحية، يقال: عمق وعمق، وهو ما بعد من الأطراف، ومنه قولهم: بئر عميقة، أي: بعيدة العمق والعمق، وفي الكتاب العزيز:(مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحج/ 27]، أي: بعيد النهاية، والخاوي: الذي لا شيء فيه، يقال: خوت الدار: إذا ترحل عنها السكن، وكانت العرب تقول: خوى النجم: إذا لم يكن عند سقوطه مطر. والمخترقن: الموضع الذي تخرق فيه الريح، ويجوز أن يراد به أن الركاب تقطعه، فكأنها تخترقه، والمخترق بالريح أشبه. وبعده:
مشبه الأعلام لماع الخفق
الأعلام: جمع علم، وهو ما يهتدى به في الأرض المضلة من جبل أو غيره، وكل ما اهتدي به إلى شيء، فهو علم له، ومن الأمثال:
إذا قطعن علماً بدا علم
فيجوز أن يراد بالعلم الجبل وغيره مما يهتدى به، ومن التي ذكرها الأصمعي:
إن الشقي ترى له أعلاماً
فالأعلام ههنا جمع علامة في المعنى، والعلامة قد تكون خفية، فسماها القائل علماً، وأما قول الخنساء:
كأنه علم في رأسه نار
فلم ترد إلا الجبل، والخفق: ما يخفق من السراب، ويقال: إنه أراد الخفق، فحرك للضرورة، وقد يريدون أشياء كثيرة مثل ذلك، منها قول زهير:
كما استغاث بسيء فز غيطلة
…
خاف العيون فلم ينظر به الحشك
أراد: الحشك فحركه، وقالوا في قوله:
ثم استمروا وقالوا إن موعدكم
…
ماء بشرقي سلمى فيد أوركك
أراد "رك" فأظهر التضعيف، وهذا أبعد من قوله الحشك، لأن إظهار التضعيف كالضرورة الثانية، وأكثر ما يستعملون التحريك ساكناً في القافية، وربما جاء في حشو البيت، وأنشد بعضهم:
ونحن في لذات عيش وجذل
…
من سمن مستلأ ومن عسل
يكل وفد الريح من حيث انخرق
…
شأز بمن عوه جدب المنطلق
كان في النسخة يكل بفتح الياء، ولا يمتنع ذلك، ويكل، أي: يعيا، وإنما أصل الكلال في الحيوان، فاستعاره ههنا للريح، ووفدها: ما يفد منها، وإذا فتحت الياء من يكل، فيجب أن يكون في قوله: انخرق ضمير يعود على قاتم الأعماق، فإن جعل الضمير الذي في انخرق عائداً على الوفد، ففي الكلام حذف، كنه قال: يكل وفد الريح من حيث انخرق فيه، والأحسن أن تضم الياء من يكل وينصب وفد الريح، ويكون في "يكل" ضمير عائد على قاتم الأعماق، يقال: انخرقت الريح وتخرقت، وريح خريق، أي: شديدة الهبوب، قال الشاعر:
تكأن حفيفه خفقان ريح
…
خريق بين أعلام طوال
ويقال: مكان جدب وجديب، وهو ضد الخصيب، واشتقاق جدب الأرض والسنة من قولهم: جدبت الرجل: إذا عبته، وقوله: بمن عوه، أي: أقام، والشأز، أصله المكان الغليظ الذي لا يطمئن عليه القائم ولا القاعد، ولا المضطجع، ثم استعير في كل ما يصعب من الأمور، يقال: أشأزني الأمر إشآزاً، وهذا أمر مشئز، والمنطلق: الموضع الذي ينطلق فيه، أي: يذهب ويسلك.
ناء من التصبيح نأي المغتبق
…
تبدو لنا أعلامه بعد الغرق
التصبيح هنا من الصبوح: وهو شرب الغداة، وأكثر ما يقولون: صبحت الرجل بتخفيف الباء، والمثل السائر:"أين أغدو إذا صبحتموني"، والاغتباق: شرب الليل، يقال: غبقت القوم وهم مغتبقون، والاسم الغبوق، والجاشرية: شرب إذا جشر الصبح، والفحم: شرب أول الليل، وربما قالوا: شرب العتمة، وإنما أخذ من فحمة الليل، وفحمته: ظلامه، والمقيل: شرب نصف النهار، والنائي: البعيد، والمعنى: إن هذه الأرض بعيدة من الغبوق، والصبوح، لأنهما فيها متعذران، فأما الغبق، فلا يقدر عليه المسافر، وأما الماء، فلا يصل إليه السالك إلا بمشقة وسير شديد. وقوله:
تبدو لنا أعلامه بعد الغرق
أي: يرفعها الآل، ثم ينكشف عنها، فيراها الناظر على ما يعهد:
في قطع الآل وهبوات الدقق
…
خارجة أعناقها من معتنق
الآل: الذي يرفع الشخوص في أول النهار، والهبوات جمع هبوة وهي الغبرة، والأجود هبوات، بتحريك الباء، ولكنه سكنها للضرورة، والدقق، جمع الدقة وهو التراب الدقيق، والضمير في أعناقها للأعلام، ومعتنق: مصدر اعتنق معتنقاً، يقول: تخرج أعناق هذه الأعلام من اعتناق الآل إياها. ويجوز أن يكون المعتنق موضعاً في هذا البيت، لأن الفعل إذا بلغ الأربعة فما زاد استوى فيه المصدر واسم الزمان واسم المفعول:
تنشطته كل مغلاة الوهق
…
مضبورة قرواء هرجاب فنق
تنشطته: جواب رب كما تقدم، أي: قطعته، قال المعري: أي خرجت منه، مأخوذ من الناشط، وهو الذي يخرج من بلد إلى بلد، ويجوز أن يكون تنشطته مأخوذ من حل الأنشوطة، كأنها حلت عنها عقد هذه البلد، والمغلاة: التي تغلو في السير، أي: تزيد فيه وهي مشبهة بالمغلى من السهام وهو الذي يرمى به