الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الثاني والخمسون بعد الستمائة:
(652)
ألم تر أني يوم جو سويقة
…
بكيت فنادتني هنيدة ما ليا
على أن الأصل في التعبير: مالك؛ لأنه خطاب منها له، لكنه عدل عنه، فحكى قولها بالمعنى، لأن المخاطب هو المتكلم، قيل: ويحتمل أن مرادها استفهامها عن حلال نفسها، أي: ما وقع لي حين بكيت؟ فلا يكون من قبيل ما ذكر. انتهى. ولا يخفى أن هذا التخريج لا يلائم البيت الذي بعده، وهو:
فقلت لها إن البكاء لراحة
…
به يشتفي من ظن أن لا تلاقيا
فإن هذا الجواب لسؤالها: ما لك؟ لا لسؤالها عن حال نفسها، وجملة:"فقلت لها" إلى آخره، معطفة على جملة "فنادتني" فالجواب لذلك الاستفهام إنما هو قوله: إن البكاء لراحة .. إلى آخره، معطفة على جملة "فنادتني" فالجواب لذلك الاستفهام إنما هو قوله: إن البكاء لراحة .. إلى آخره، وجملة "مالك" المعبر عنه بمالي: إما تفسير للنداء، فيكون نداؤها هذا اللفظ بعينه، وإما محكي بقول محذوف، أي: فنادتني، فقالت: ما لك.
وقوله: ألم تر .. خاطب صاحبه بهذا الاستفهام، وقوله:"يوم جو سويقة" يوم من أيام العرب وهي حروبها ووقائعها والأمور العظيمة التي تقع منهم، وقد ألف أبو عبيدة معمر بن المثنى كتاباً حافلاً في أيام العرب مفصلة، وذكرها ابن عبد ربه مجملة في "العقد الفريد" وكذلك أوردها ابن رشيق في كتاب " العمدة" وجو، بفتح الجيم وتشديد الواو، وسويقة: مصغر: سوق، قال العسكري في كتاب "التصحيف": جو سويقة: موضع، وأنشد هذا البيت. وقال أبو عبيد البكري
في "معجم ما استعجم": سويقة: هي قريبة من المدينة المنورة، وبها كانت منازل بني حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، وحدثنا يموت بن المزرع عن ابن الملاح، عن أبيه، عن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم، عن موسى بن عبد الله بن حسن قال: خرجت من منازلنا بسويقة جنح ليل، وذلك قبل خروج محمد أخي، فإذا أنا بنسوة توهمت أنهن خرجن من دارنا، فأدركتني الغيرة عليهن، فاتبعتيهن؛ لإنظر أين يردن، حتى إذا كن بطرف الحي، فالتفتت إلي إحداهن وهي تقول:
سويقة بعد ساكنها يباب
…
لقد أمست أجد بها الخراب
فقالت لهن: أمن الإنس أنتن؟ فلم يراجعنني، فخرج محمد بعد هذا، فقتل وخربت ديارنا، وبالإسناد عن إسماعيل قال: لقيني موسى بن عبد الله فقال لي: هلم حتى أريك ما صنع بنا بسويقة، فانطلقت معه، فإذا نخلها قد عضد من آخره، وديارها ومصانعها قد خربت؛ فخنقتني العبرة، فقال: إليك، فنحن والله كما قال دريد بن الصمة:
تقول ألا تبكي أخاك وقد أرى
…
مكان البكا لكن جبلت على الصبر
ثن أنشد البكري هذا البيت الشاهد:
ورواه أبو طالب في "الفاخر": "نعف سويقة" وقال: قال الأصمعي: النعف: ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض، وليس بالغليظ، وأنشد الفرزدق:
ألم تر أني يوم نعف سويقة
والنعف، بفتح النون وسكون العين المهملة، وآخره فاء. وقوله:"بكيت" هو الناصب ليوم جو سويقة، فإنه يتعدى بنفسه، يقال: بكيته، وإنما بكى لأجل
خرابها، وهنيدة بالتصغير، قال ابن السيد فيما كتبه على "كامل المبرد": وهنيدة هذه عمة الفرزدق بنت صعصعة بن ناجية، وهي الملقبة "ذات الخمار"؛ لقولها: من جاءت بأربعة يحل لها أن تضع عندهم خمارها كأربعتي، فلها صرمتي: أبي صعصعة، وأخي غالب، وهو أبو الفرزدق، وخالي الأكوع، وزوجي الزبرقان. انتهى.
وقوله: فقلت لها إن البكاء لراحة .. إلى آخره. قد أورد المبرد هذين البيتين نظيراً لقول رجل، قال أحسبه تميمياً:
لو لم يفارقني عطية لم أهن
…
ولم أعط أعدائي الذي كنت أمنع
شجاع إذا لاقى ورام إذا رمى
…
وهاد إذا ما أظلم الليل مصدع
سأبكيك حتى تنفد العين ماءها
…
ويشفي مني الدمع ما أتوجع
انتهى. قال أبو الوليد الوقشي فيما كتبه على "كامل المبرد": قوله: رجل أحسبه تميمياً هو حكيم بن معية، أحد بني ربيعة الجوع، يرثي أخاه عطية بن معية، ذكر ذلك أبو علي في ذيل الأمالي، وربيعة الجوع هو ربيعة بن مالك بن زيد مناة بان تميم. انتهى.
وقوله: أن لا تلاقيا: "أن" مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير شأن محذوف، ولا: نافية للجنس، تلاقي: اسمها مبني معها على الفتح، والألف للإطلاق، وخبرها محذوف، تقديره: له.
والبيتان مطلع قصيدة للفرزدق، أوردها محمد بن المبارك في "منتهى الطلب
من أشعار العرب" وقال: هي أول قصيدة هجا بها جريراً وقومه، وقال في القصيدة التي فوقها بورقة، ومطلعها:
ألا استهزأت مني هنيدة أن رأت
…
أسيراً بدا في قيده حلق الحجل
وقال الفرزدق لجرير، وهي من أول هجائه، وكان سبب ذلك، أن نساء بني مجاشع، لما عمهم جرير بالهجاء، بسبب البعيث، تجمعن وجئن إلى الفرزدق، وكان قد حج وعاهد الله أن لا يهجو أحداً، وأن يقيد نفسه حتى يحفظ القرآن، ففعل ذلك، وقيد نفسه، فلما شكون إليه ما نزل بهن من هجاء جرير، فض قيده، ثم قال:
ألا استهزأت مني هنيدة أن رأت .. القصيدة. انتهى.
وقد تقدم منا ذكر هذا قريباً عند شرح قوله:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني .. البيتين.
وغالب من أنشد القصيدة اليائية قال مطلعها:
ألم تر أني يوم جو سويقة
…
إلا ابن السيد، فإنه قال: مطلعها ما قبل هذا البيت وهو:
قفي ودعينا يا هنيدة إنني
…
أرى الحي قد شام العقيق اليمانيا
وتقدمت ترجمة الفرزدق في الإنشاد الثاني من أول الكتابب.