الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد السادس والسبعون بعد الخمسمائة:
(576)
والفى قولها كذباً ومينا
على أن العطف المراد إنما يكون بالواو، فإن المين هو الكذب، ومثله قول طرفة:
فما لي أراني وابن عمي مالكاً
…
متى أدن منه ينأ عني ويبعد
قال الفراء في "تفسيره" عند قوله تبارك وتعالى: (وإذْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ والْفُرْقَانَ)[الآية 53] من سورة البقرة: إن العرب لتجمع بين الحرفين بمعنى واحد إذا اختلف لفظهما، كقول عدي بن زيد:
وقدمت الأديم لراهشيه
…
وألفى قولها كذباً ومينا
وقولهم: بعداً وسحقاً، والبعد والسحق واحد. انتهى.
والبيت مثال عند علماء المعاني للتطويل، وهو أن يكون اللفظ زائداً على أصل المراد لا لفائدة، وهو من قصيدة لعدي بن زيد العبادي، خاطب بها النعمان بن المنذر لما كان في حبسه، وعظه بها، وحذره تقلب الدهر به، وذكر فيها ما آل إليه أمر جذيمة الوضاح، وغدر الزباء به، وأخذ قصير الثأر منها، ويأتي إن شاء الله تعالى، شرح غدرها به في الباب الخامس. والقصيدة هذه:
ألا يا أيها المثري المرجى
…
ألم تسمع بخطب الأولينا
دعا بالبقة الأمراء يوماً
…
جذيمة عصر ينجوهم ثبينا
فلم ير غير ما ائتمروا لديه
…
وشد لرحلة السفر الوضينا
فطاوع أمرهم وعصى قصيراً
…
وكان يقول لو نفع اليقينا
لخطبته التي غدرت وخانت
…
وهن ذوات غائلة لحينا
فدست في صحيفتها إليه
…
ليملك بضعها ولأن تدينا
فغرته ورغب النفس يردي
…
ويبدي للفتى الحين المبينا
ففاجأها وقد جمعت جيوشاً
…
على أبواب حصن مصلتينا
وقدمت الأديم لراهشيه
…
وألفى قولها كذباً ومينا
وحدثت العصا الأنباء عنه
…
ولم أر مثل فارسها هجينا
فبات نساؤه عجلاً عليه
…
مع الويلات يعلن الرنينا
ومن حذر الملاوم والمخازي
…
وهن المنديات لمن منينا
أطف لأنفه الموسى قصير
…
ليجدعه وكان به ضنينا
فأهواها لمارنه فأضحى
…
طرب الوتر مجدوعاً مشيناً
فصادفت امرءأ لم تخش فيه
…
مخادعة وما أمنت أمينا
أتاها كرتين بما أرادت
…
فأصبح عند ربته مكينا
فأبلاها كما حبست نصيحاً
…
فملكت الخزائن والقطينا
وردته بضعفي ما أتاها
…
ولم تكبل عن المال اليمينا
فلما ارتد عنها ارتد صلباً
…
يجر المال والصدر الضغينا
أتتها العير تحمل ما دهاها
…
وقنع في المسوح الدارعينا
ودس لها على الأنفاق عمراً
…
بشكته وما خشيت كمينا
فجللها قديم الأثر عضباً
…
يصك به الحواجب والجبينا
فأضحت من خزائنها كأن لم
…
تكن زبا لحاملة جنينا
وأبرزها الحوادث والمنايا
…
وأي معمر لا يبتلينا
إذا أمهلن ذا جد عظيم
…
عطفن له ولو فرطن حينا
ألم تر أن ريب الدهر يعلو
…
أخا النجدات والحصن الحصينا
ولم أجد الفتى ينجو بشيء
…
ولو أثرى ولو ولد البنينا
وقوله: دعا بالبقة .. إلخ جذيمة: فاعل دعا، وكان ملك قضاعة بالحيرة من قبل أردشير بن بابك، وكان قتل أبا الزباء ملك الشام والجزيرة من قبل الروم، وملكت بلاد أبيها بعده، ثم إن جذيمة خطبها، فأجابته، فسار إليها حتى إذا كان ببقة، وهو موضع بين هيت والأنباء، استشار أصحابه، فأشاروا بالشخوص إليها، إلا قصير ابن سعد اللخمي، وقال: إن النساء يهدين إلى الأزواج. انصرف عنها، فأبى، وسافر حتى رأى مدينتها والكتائب من دونها هالة، فقال لقصير: ما الرأي؟ قال: تركت الرأي ببقة، وقال: إن لقيتك الكتائب، وساروا أمامك، فقد خاب ظني، وإن أحاطوا بك، فإني معرض لك "العصا" وهي فرس لا يشق غبارها، فجعلوا يتلقونه ولا يرجعون، فعرض له العصا، فلم ينتبه، فركبها قصير ونجا، وورد الحيرة، ولما دخل جذيمة على الزباء، أمرت برواهشه فقطعت واستنزفته حتى مات. وكان جذيمة استعمل على ملكه ابن أخته عمر بن عدي، فأشار إليه قصير بأخذ ثأره من الزباء، فقال: لا أقدر، فجدع قصير أنفه، وأتى الزباء، فقال: اتهمني عمرو في مجيء خاله إليك، فجدع أنفي، فلم تقر نفسي عنده، وإن لي بالعراق مالاً كثيراً، فأعطني شيئاً وأرسليني بعلة التجارة حتى آتيك بطرائف العراق: ففعلت، فأطرها وزادها مالاً كثيراً، فردته ثانية فأطرفها وزادها، فتلطف حتى علم موضع النفق وهو السرب، فردته ثالثاً فأتى عمراً، وقال: احمل الرجال في الصناديق على الإبل ففعل، وفيهم عمرو، فلما دخلت العير المدينة، وحلوا الصناديق، شد عليها الرجال فهربت طلب السرب، فاستقبلها قصير وعمرو، فضربها عمرو، فقتلها، ونهب الأموال، وسبى الذراري.
وقوله: عصر ينجوهم ثبينا، العصر: الوقت، وينجوهم: يخصهم بالخطاب للمشاورة، ومنه المناجاة، وثبين: جمع ثبة، بضم المثلثة، بمعنى الجماعة، وائتمروا: تشاوروا، والوضين: مفعول شد، وهو حزام القتب. وقوله: وكان يقول لو نفع اليقينا، أي: كان يقول القول اليقين لو نفع، ولو للتمني.
وقوله: لخطبته، اللام للتعليل متعلقة بيقول، والخطبة، بكسر الخاء وسكون الطاء: المخطوبة، قوله: لحينا. دعاء عليهن، من لحاه الله، بمعنى قبحه ولعنه، والبضع بالضم: الفرج، والجماع، وعقد النكاح، وتدينا، من دانه، أي: أطاعه، والرغب، بالضم، الرغبة. ويردي: مضارع أرداه، أي: أهلكه، والحين، بالفتح: الهلاك، والمصلت: الرجل الماضي في الحوائج.
وقوله: وقدمت الأديم لراهشيه، كذا في جميع الروايات التي رأيتها، فإن هذه القصيدة رواها ابن قتيبة في ترجمة عدي من كتاب "الشعراء" والعسكري في "أوائله" والزمخشري في "أمثاله" وفي رواية كل كذا، وكذا روى البيت الفراء في تفسيره، والسيد المرتضى في "أماليه" وغيرهما. فالمراد بالأديم: النطع، واللام بمعنى إلى، والراهشان: عرفان في بطن الذراعين، وقدمت: من التقديم، أي: تت بالنطع إلى راهشيه لما قصدتهما، وضمير قدمت للخطبة التي هي الزباء، والهاء ضمير جذيمة، والرواية المشهورة:"وقددت"، قال الدماميني، وتبعه من جاء بعده: قددت قطعت، قال ابن المنلا: التقديد: القطع، والأديم: الجلد، أو أحمره، أو مدبوغه، هذا كلامه. وألفى بمعنى: وجد، والمين، بفتح الميم، نقل السيوطي من "طبقات الشعراء" لمحمد بن سلام الجمحي أنه قال: في هذه القافية سناد، وقال المفضل في روايته:"كذباً مبيناً" فر من
السناد، والرواية هي الأولى. انتهى. هذا نقل السيوطي، وقد رجعت إلى ترجمة عدي بن زيد، من "طبقات الجمحي" فلم أر فيها هذا البيت، ولا هذا الكلام، ولعله قاله في موضع آخر من "الطبقات" بمناسبة.
وقوله: وحدثت العصا .. إلخ العصا: فرس جذيمة التي هرب عليها قصير، والأنباء: الأخبار، وفارسها جذيمة، والهجين: اللئيم، وعجل، بضمتين: جمع عجول، وهي الثكلى والواله، ويعلن: يظهرن، من العلن، والرنين: الصياح.
وقوله: ومن حذر الملاوم .. إلخ، من تعليلية متعلقة بأطف في البيت بعدها، وأطف بمعنى: أشرف عليه لقطعه، والملاوم: جمع ملامة، وقوله: وهن، أي: الملاوم والمخازي، والمنديات، قال العسكري: هي الدواهي، ومنين له، أي: قضين، والمنى، بالقصر: القضاء. انتهى.
وقوله فأهواها، أي: أمال الموسى، والمارن: ما لان من الأنف، وطلاب مفعول لأجله، والوتر، بالكسر: الثأر، ومشين: اسم مفعول من الشين: وهو العيب، وربته: صاحبته وهي الزباء.
وأبلاها: خدمها بنصح، والقطين، الخدم والأتباع وأهل الدار يكون للواحد والجمع.
وقوله: ولم تكبل، أي: لم تحبس يمينها عن العطاء، وقنع: غطى، والمسوح جمع مسح، بالكسر: وهو البلاس، أراد به الغرائر، والأنفاق، بالفتح، جمع نفق، بفتحتين: وهو السرب، والشكة، بالكسر: السلاح، وجللها: غشاها، وقديم الأثر، بفتحتين: أراد به السيف المأثور، والأثر: فرند السيف وجوهره، والعضب: القاطع.