الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر على ما قدمته من أن في البكاء شفاء وجدي، فهل من بكاء أشفى به غليلي، فهذا ظاهره استفهام، ومعناه التحضيض على البكاء، فالفاء عقدت آخر الكلام بأوله، لأنه كأنه قال: إن كنتما قد عرفتما ما أوثره من البكاء فابكيا معي، وأما على الثاني، فكأنه قال: إنما راحتي في البكاء، فما معنى اتكالي في شفاء غليلي على رسم دارس لا غناء عنده، فسبيلي أن أقبل على الدعاء والبكاء، وهذا أيضاً معنى يحتاج معه إلى الفاء، فكأنه قال: إذا كان شفائي إنما هو في فيض دمعي، فسبيلي أن لا أعول على رسم دارس، وينبغي أن أجد في البكاء. انتهى. فجعل الفاء في كلا الاحتمالين في جواب شرط مقدر.
وروى صدره سيبويه: "وإن شفاء عبرة" بتنكير شفاء على أنه يجوز الإخبار بالنكرة عن النكرة. والعبرة، بالفتح: الدمعة، ومهراقة، بفتح الهاء الزائدة، والإصل مراقة، أي: مصبوبة .. وقد بسطنا الكلام على هذا البيت في الشاهد الواحد والأربعين بعد السبعمائة من شواهد الرضي.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد التاسع والستون بعد الخمسمائة:
(569)
سائل فوارس يربوع بشدتنا
…
أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
على أن "هل فيه بمعنى قد، وقد أنكر المنصف ما نقله الزمخشري عن سيبويه من أن هل بمعنى قد، وكذبه في نقله بأن سيبويه إنما قال في باب عدة ما يكون عليه الكلم: "هل" هي للاستفهام. وهذا غير مستحسن من المصنف، فإن الزمخشري
إمام حافظ ثقة مأمون فيما ينقله، فكان ينبغي له التأدب معه لشأنه الرفيع، ومقامه المنيع، ويقول بعد ما نقله عن سيبويه: ولعل سيبويه قاله في باب آخر غير هذا، فإن كتاب سيبويه بحر لا يدرك قراره، أوي راجع شروح "المفصل" فإن غالب شراحه حفظة الكتاب، ومميزو القشر من اللباب، وهذا ابن يعيش وهو إمام جليل اطلع على كلام سيبويه المنقول، فقال بعد كلام "المفصل": هذا هو الظاهر من كلام سيبويه، وذلك أنه قال في تحقيق الكلام على "من" و "متى"، وكذلك "هل" إنما هي بمنزلة قد، ولكنهم تركوا الألف إذ كانت هل إنما تقع في الاستفهام ثم نقل السيرافي تقدير كلام سيبويه.
وأقول: أورده سيبويه قبيل باب: "ما لا ينصرف وما ينصرف" بأسطر، وهذا الباب آخر النصف الأول من الكتاب، وأول النصف الثاني منه، وهذا نص كلمه بحروفه: هذا باب تبيان "أم" لم دخلت على حروف الاستفهام، ولم تدخل على الألف، تقول: أم هل تقول، ولا تقول: أم أتقول، وذلك أن أم بمنزلة الألف، وليست "من" و"متى" و"ما" بمنزلة الألف، وإنما هي أسماء بمنزلة هذا وذاك، إلا أنهم تركوا الألف التي للاستفهام هاهنا، إذ كان هذا النحو من الكلام لا يقع إلا في المسألة، فلما علمنا أنه لا يكون إلا كذلك استغنوا عن الألف، وكذلك "هل" إنما هي بمنزلة "قد" إلا أنهم تركوا الألف إذ كانت هل لا تقع إلا في الاستفهام، قلت: بما بال أم تدخل عليهن وهي بمنزلة الألف؟ فقال: إن أم إنما تجيء هنا بمنزلة "لا بل" للتحول من شيء إلى شيء، والألف لا تجيء أبداً إلا مستقبلة، فهم قد استغنوا في الاستقبال عنها، واحتاجوا إلى أم، إذ كانت لترك شيء إلى شيء، لأنهم لو تركوها، فلم يذكروها؛ لم يتبين المعنى. انتهى كلام سيبويه.
وقال السيرافي: وأما هي، فإنها حرف دخلت لاستقبال الاستفهام، ومنع بعض ما يجوز في الألف من اقتطاعها بعض الجملة ومن جواز التعديل والمساواة، فكأنها دخلت مانعة لشيء من الاستفهام، ومجيزة لشيء منه، فصارت داخلة لغير الاستفهام المطلق الذي حرفه الألف، ولذلك قال سيبويه:"هل" إنما هي بمنزلة "قد" إلا أنهم تركوا الألف إذ كانت هل لا تقع إلا في الاستفهام، وكان حق هل أن تدخل عليها الألف، كما كان حق الأسماء التي يستفهم بها أن تدخل عليها ألف الاستفهام، فيقال: أهل قام زيد، وأمن قام، ودخلت أم على هل، لأنها حرف عطف، كالواو في قولك: وهل، وكان أبو العباس المبرد يجيز دخول ألف الاستفهام على هل، وعلى سائل أسماء الاستفهام، كدخول أم وأنشد:
سائل فوارس يربوع بشدتنا
…
أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم
ودخول ألف الاستفهام عليها غير معروف، وغيره يرويه: "أم هل رأونا، والقول ما ذكرناه عن سيبويه. انتهى كلام السيرافي.
ولم يكتب أبو علي الفارسي في تعليقته على "الكتاب" على هذا الباب شيئاً، وإنما كتب على الباب الذي قبله، وهو "باب الواو التي تدخل عليها ألف الاستفهام" كتب ما نصه: قال أبو إسحاق: الألف أصل الاستفهام، وليس فيها إلا معنى الاستفهام، ولا تدخل عليها الواو، وهل فيها بمعنى "قد" ولو قلنا: هل وهو فلان، كنا نقدر بعد هل استفهاماً قبل الواو ولا نقدم هل على الألف. انتهى.
وقد تكلم ابن جني على "هل" في كتاب "الخصائص" قال في باب إقرار الألفاظ على أوضاعها الأول: وأما هل فقد أخرجت عن بابها إلى معنى قد، نحو قوله تعالى:(هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ)[الإنسان/1] قالوا: معناه: قد أتى عليه ذلك، وقد يمكن عندي أن تكون مبقاة في هذا الموضع على بابها من الاستفهام، فكأنه قال، والله تعالى أعلم: هل أتى على الإنسان هذا؟ فلا بد في جوابه من "نعم" ملفوظاً بها أو مقدرة، أي: فكما أن ذلك كذلك، فينبغي
للإنسان أن يحتقر نفسه، ولا يباهي بما فتح له، وهذا كقولك لمن تريد الاحتجاج عليه: بالله هل سألتني فأعطيتك، أم هل زرتني فأكرمتك؟ أي: فكما أن ذلك كذلك، فيجب أن تعرف حقي عليك، وإحساني إليك، ويؤكد ذلك عندي قوله تعالى:(إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) [الإنسان/ 2 و 3]، أفلا تراه، عز اسمه، كيف عدد عليه أياديه وألطافه له، فإن قلت: فما تصنع بقول الشاعر:
سائل فوارس يربوع بشدتنا
…
أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم
ألا ترى إلى دخول همزة الاستفهام على هل، ولو كانت على ما فيها من الاستفهام لم تلاق همزته لاستحالة اجتماع حرفين لمعنى واحد، وهذا يدل على خروجها عن حيز الاستفهام إلى معنى الخبر! قيل: هذا قول يمكن أن يقوله صاحب هذا المذهب، ومثله خروج الهمزة عن الاستفهام إلى التقرير، ألا ترى أن التقرير ضرب من الخبر، وذلك ضد الاستفهام! انتهى كلامه.
وأورد البيت صاحب "الكشاف" عند قوله تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ)[الشعراء/ 221]، على أن أصل "من": أمن، فلا يرد أن "من" حرف استفهام، ودخل عليه حرف جر، والاستفهام له الصدارة، لأن الجار دخل على من، والاستفهام إنما يفهم من الهمزة المستلزم حذفها، فإذا أدخل الجار على من قدرت الهمزة على ما قبل الجار، فصار التقدير: أعلى من تنزل، نحو: أعلى زيد مررت؟ ومثله في حذف الهمزة هل، فإن أصله: أهل، كما صرح به في البيت، ولا يجوز أن يكون هل حرف للاستفهام، لأن الاستفهام لا يدخل على الاستفهام، بل بمعنى قد.
ورأيت في المجلس الواحد والثلاثين من "أمالي ابن الشجري" روي عن أبي أحمد عبد السلام بن حسين البصري أنه قال: كتب إلى شيخنا أبو القاسم الحسن بن بشر بن
يحيى الآمدي رقعة نسختها: أريد – قد مت قبلك- أن تسأل القاضي أبا سعيد أدام الله عزه –عما أنا ذاكره في هذه الرقعة، وتتطول بتعريفي ما يكون في الجواب: ذكر أبو العباس محمد بن يزيد في "المقتضب" عند تحديد حروف المعاني مواضع قد، فقال: تكون اسماً بمعنى حسب، وتكون حرفاً في موضعين، أحدهما: أن يكون قوم يتوقعون جواب: هل قام زيد، وتكون في موضع ربما، كقوله:
قد أترك القرن مصفراً أنامله
ثم ذكر هل، فقال: ومن الحروف هل، وهي لاستقبال الاستفهام، وتكون بمنزلة قد في قوله: جل اسمه: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ) وهو قد ذكر مواضع قد، وحصرها. ففي أي مواضع قد الثلاثة تكون هل بمعناها؟ والعلم محيط بأنها لا تكون بمعنى حسب، ولا تكون جواباً لقول من قال: هل قام زيد؟ فيقال: هل قام، بمعنى: قد قام؛ لأن المجيب يكون كأنه قد حكى كلام المستفهم، وهذا غير معروف في كلام العرب. ولا يحسن أن تكون بمعنى ربما، وهل لا تتضمن هذا المعنى، وما علمت أحداً من أهل اللغة قال: إن هل تكون في شيء من الكلام، ولا القرآن الكريم بمعنى قد، والنحويون يقولون في الآية: إن المعنى: ألم يأت، منهم الزجاج، فمن علي بتعجيل الجواب فإني أتطلعه.
فوقفت القاضي أبا سعيد على الرقعة، فأملى علي ما كتبه على ظهرها:
بسم الله الرحمن الرحيم (هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ): على قول من جعله بمنزلة قد إنما تكون قد من قسم دخولها للفعل المتوقع، فكأنه قيل لقوم يتوقعون الإخبار عما أتى على الإنسان، والإنسان آدم: قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، لأن آدم بقي زماناً طويلاً طيناً. هذا آخر ما نقله ابن الشجري.
والبيت أول أبيات خمسة لزيد الخيل الطائي الصحابي، وبعده:
أم هل تركت نهيكاً فيه نافذة
…
قلاسة تنفد الطلاء بالغذم
والحارث بن شهاب عند معترك
…
رهن المقامة للعرجاء والرخم
إنا كذلك إذ ما أزمة أزمت
…
نعصى بكل رقيق حده خذم
وكل مشترف نهد وسلهبة
…
يقد عن عند اعتراك القوم باللجم
وهذه الأبيات قالها في إغارة أغارها على بني يربوع، فأصاب منهم، وقتل وسبى.
وسائل: أمر بالمسائلة، وفوارس: جمع فارس شذوذاً، ويربوع: أبو حي من تميم، والباء بمعنى "عن" والشدة، بفتح الشين: الحملة، وروي بكسرها، وسفح الجبل: أسفله، والقاع: المستوي من الأرض، والأكم، بفتحتين، واحدها أكمة: وهي ما ارتفع عن الأرض، ولا يبلغ أن يكون جبلاً، وروي في ديوانه:"بسفح القف" بضم القاف. وهي حجارة غاص بعضها ببعض لا يخالطها سهولة، وهو جبل غير أنه ليس بطويل في السماء، فيه إشراف على ما حوله، وفيه حجارة عظام. وقول السيرافي وغيره يرويه:"أما هل رأونا" لا يفيده، فإن رواية:"أهل" قد نقلها الثقات، وهي ثابتة في نسخة ديوانه التي عندي، وهي نسخة قديمة صحيحة.
وقوله: أم هل تركت نهيكاً .. إلى آخره، أم: للأضراب المجرد، وتركت بضم التاء، ونهيكاً، بفتح النون وكسر الهاء: اسم رجل من بني يربوع، ونافذة، بالذال المعجمة، أي: طعنة نافذة نفذت منه، وقلاسة، بفتح القاف وتشديد اللام والسين مهملة، قال جامع ديوانه، أي: تقذف بالدم، وفي " القاموس": القلس: غثيان النفس، [وقذف الكأس] والبحر امتلاء، والفعل كضرب، وبحر قلاس: زخار. وتنفد، بضم التاء وكسر الفاء والدال المهملة، مضارع أنفده، أي أفناه وفرغه، وهو متعدي نفد ينفد من باب تعب –نفاداً: فني وانقطع.
والطلاء، بضم الطاء المهملة وتشديد اللام وبالمد، قال جامع ديوانه: هو الدم، وفي باب الهمزة من "القاموس" طلاء الدم، بالضم والشد والمد: قشرته، والغذم: بالغين والذال المعجمتين، المفتوحتين، قال جامع ديوان: هو السيلان، وليس في "القاموس" هذا المعنى.
وقوله: والحارث بن شهاب، بالنصب: عطف على نهيك، والمعترك، بفتح الراء: محل الاعتراك، وهو القتال، والمقامة، بضم الميم: الإقامة، والعرجاء: الضبع، والرخم، بفتحتين: طائر يقع على القتلى، ويأكل العذرة.
والأزمة: الشدة، وأزمت: اشتدت، جاء من باب ضرب، ومن باب تعتب، ونعصى: نضرب، يقال: عصي بسيفه، أي: ضرب به من باب تعب، وقوله: بكل رقيق حده، أي: بكل سيف رقيق، وحده: فاعل رقيق، وهو الموضع الذي يقطع به من السيف، وخذم، بمعجمتين، مفتوح الأول مكسور الثاني، أي: قاطع وهو صفة لسيف المقدر.
وقوله: وكل مشترف، بالجر: معطوف على كل، والمشترف: من صفات الخيل. في "القاموس": وفرس مشترف: مشرف الخلق، أي: مرتفعه، والنهد بفتح النون: الفرس الحسن الجسم اللحيم المشرف، وقد نهد ككرم نهودة، والسلهبة: بفتح السين المهملة في "القاموس" السلهب: ما عظم وطال عظامه كالسلهبة، وهي الجسيمة، ويقدعن، بالبناء للمفعول من القدع، بالقاف والدال المهملة، مصدر قدع فرسه، بمعنى: أنه كبحه، وهو أن يجذب لجامها لتقف، واللجم، جمع لجام، والباء متعلقة بيقدعن. وزيد الخيل تقدمت ترجمته في الإنشاد الثامن والسبعين بعد المائتين.