الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الرابع والسبعون بعد الخمسمائة:
(574)
أقيمنا بها يوماً ويوماً وثالثا
…
ويوماً له يوم الترحل خامس
على أن الواو قد عطف ما حقه الجمع، فيقال: أقمنا أياماً، وقد أورد ابن عصفور هذا والذي قبله في كتاب "الضرائر" قال: ومنه العطف موضع التثنية أو موضع الجمع، واستعماله بدلاً منهما حيث لا يسوغ ذلك في سعة الكلام، فمن الأول قوله:
ليث وليث في محل ضنك
…
كلاهما ذو أشر ومحك
وقول الآخر:
كأن بين فكها والفك
…
فأرة مسك ذبحت بسك
وقوله:
أنجب عرسي ولداً وعرس
كان الوجه في جميع ذلك أن يقال: ليثان في محل ضنك، وكأن بين فكيها فأرة مسك، وأنجب عرسين ولداً، ومن الثاني قوله:
كأن حيث يلتقي منه المحل
من جانبيه وعلان ووعل
ثلاثة أشرفن في طود عتل
كان الوجه أن يقال: ثلاثة أوعال: لولا الضرورة، وقد جاء مثل ذلك في شعر ابن هانئ وهو قوله:
أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً
…
ويوماً له يوم الترحل خامس
يريد أياماً أربعة. انتهى.
وفصل الخفاف الإشبيلي في شرح "الجمل" فقال: ولا يجوز الجمع إلا فيما غلب فيه أحد الأسماء على سائرها، وذلك موقوف على السماع نحو:"المهالبة" في المهلب وبنيه، و"الحوص" في الأحوص وإخوته، وإن اتفقت، فلا يخلو أن تتفق المعاني، أو تختلف، فإن اختلفت، فالعطف، ولا يجوز الاجتماع إلا حيث سمع نحو: الأحامرة، في اللحم والخمر والزعفران، وإن اتفقت الألفاظ والمعاني، فلا يخلو أن تكون الأسماء أعلاماً باقية على علميتها، أولا تكون، ففي الأول العطف ليس إلا، وإن لم تكن باقية على علميتها فالجمع، ولا يجوز العطف إلا في ضرورة، قال الشاعر: أقمنا بها يوماً ويوماً .. البيت، فعطف. كان القياس أن يقول: أقمنا بها أياماً أربعة فيجمع لولا الضرورة للوزن. انتهى.
وقد فصل ابن الشجري في أول المجلس الثاني من "أماليه" ما يخص الشعر وما يجوز في غيره تفصيلاً جيداً، ولولا خوف الإطالة لأثبته هنا. والبيت أحد أبيات ثمانية وهي:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا
…
بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى
…
وأضغاث ريحان جني ويابس
وقفت بها صحبي فجددت عهدهم
…
وإني على أمثال تلك لحابس
ولم أدر من هم غير ما شهدت به
…
بشرقي ساباط الديار البسابس
أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً
…
ويوماً له يوم الترحل خامس
تدار علينا الراح في عسجدية
…
حبيتها بأنواع التصاوير فارس
قراراتها كسرى وفي جنباتها
…
مهاً تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها
…
وللماء ما اجتازت عليه القلانس
قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي في كتاب "الأخبار" بعد نقل هذه الأبيات: قال أبو القاسم: الدار: منزل القوم، مبنية كانت أو غير مبنية، ويقال: دار ودارة، والبسابس: القفار، واحدها بسبس، ومثلها: السباسب، واحدها: سبسب، وأصلها الصحراء الواسعة الملساء: والعسجدية: كأس مصوغة من العسجد، وهو الذهب.
وقوله: قرارتها كسرى، نصبه على الظرف، يريد أنه كان في قرار الكأس، وهو أرضها، صورة كسرى، وفي جنباتها: وهي نواحيها، صورة المها، وهو بقر الوحش، وصور فرسان بأيديهم قسي ونشاب يرمون تلك المها، وهو معنى قوله: تدريها بالقسي الفوارس، والدرية: الشيء الذي يرمى، يعني أنه صب الخمر في الكأس إلى أن بلغت حلوق الفرسان، وهو موضع الأزرار، ثم صب الماء مقدار رؤوس الصور، وهو الذي تجتازه القلانس. انتهى كلامه.
وأورد أبو العباس المبرد، هذه الأبيات في "الكامل" قال فيه: وقال الحسن ابن هانئ:
بنينا على كسرى سماء مدامة
…
جوانبها محفوفة بنجوم
فلو رد في كسرى بن ساسان روحه
…
إذن لاصطفاني دون كل نديم
أراد: أنه كان صورة كسرى في الإناء، وقوله: جوانبها محفوفة بنجوم: يريد ما تطوق به من الزبد، وقال في أخرى:
أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً
…
ويوماً له يوم الترحل خامس
تدرا علينا الراح في عسجدية
…
البيت
فللخمر ما زرت عليه جيوبها
…
البيت
العسجدية: منسوبة إلى العسجد، وهو الذهب، وقوله: تدريها، أي تختلها، يقال: دريت الصيد: إذا ختلته. انتهى.
وأورد الأبيات جميعها السيد المرتضى في "أماليه" قال: وقال يموت بن المزرع: سمعت خالي الجاحظ يقول: لا أعرف شعراً يفضل قول أبي نواس:
ودار ندامى عطلوها
…
الأبيات.
قال الجاحظ: فأنشدتها أبا شعيب القلال، فقال: يا أبا عثمان لو نقر هذا الشعر، لطن، فقلت: ويلك، ما تفارق الجرار والخزف حيث كنت! ؟
قال السيد المرتضى: أخذ أبو نواس قوله:
ولم أدر من هم غير ما شهدت بهم .. البيت.
من أبي خراش الهذلي:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه
…
ولكنه قدسل من ماجد محض
ويقال: إن أبا خراش أول من مدح من لا يعرفه، وذلك أن خراش بن أبي خراش أسر هو وعروة بن مرة، فطرح رجل من القوم رداء على خراش حين شغل القوم بقتل عروة ونجاه، فلم تفروغوا له، قال: إنه أفلت مني، ويقال: بل رآه في الأسر رجل من بني عمه، فألقى عليه رداءه ليجيره، وقال له: النجا. ويلك! انتهى.
وأدلجوا: ساروا من أول الليل، ومساحب: جمع مسحب، وهو موضع السحب، والزقاق: جمع زق وهو قربة الخمر، وأضغاث: جمع ضغث، بالكسر، وهي الحزمة، ووقفت بها صحبي: بمعنى حبست، وقد روي بدله، وساباط، لا ينصرف: موضع بالمدائن لكسرى، معرب بلاس أباد، والديار: فاعل شهدت، وحبتها، أعطتها. وقراره الشيء أسفله، وجنباتها، بفتح الجيم والنون، جمع جنب بسكون النون، والمها: بقر الوحش، وكان في القديم يصورون في الكأس صورة الملك، وغيره تعظيماً له، والأصل فيه: أن قيصر لما خاف ملك الفرس سابور، بعث مصوراً إلى بلاده، فصور صورة سابور في جميع أحواله، فأمر قيصر أن تصور تلك الصورة على فرشه وستوره وآلات أكله وشربه، ولمادخل ساوبر متنكراً بلدة قيصر، عرف بصورته المنقوشة على الكأس، فقبض عليه، وحكايته مذكورة في "سلوان المطاع" وغيره.
وقد تبع الشعراء أبا نواس في ذلك، وأبدع فخر الدين بن مكانس في قوله:
إذا ما أديرت في حشا عسجدية
…
بها كل ذي تاج وملك مصورا
فحسبك نيلاً في السيادة أن ترى
…
نديمك في الكاسات كسرى وقيصرا
وقال ابن قلاقس:
دارت زجاجتها وفي جنباتها
…
كسرى أنو شروان في إيوانه
فجعلت عن عطفيه حلة قهوة
…
وشربتها فغدوت في سلطانه
وقال الناشئ:
في كأسها صورة تظن لحسنها
…
عرباً برزن من الحجال وغيدا
وإذا المزاج أثارها فتقسمت
…
ذهباً ودراً توأماً وفريدا
فكأنهن لبسن ذاك مجاسداً
…
وجعلن ذا لنحورهن عقودا
وقال ابن المعتز:
بكأس من زجاج فيه أسد
…
فرائسهن ألباب الرجال
قال حمزة بن الحسن الأصبهاني، جامع ديوان أبي نواس الحسن بن هانئ، بعد ذكر هذه الأبيات: وتلا الناشئ الكلامي أبا نواس في هذين البيتين الأخيرين، فقال:
ملوك ساسان على كأسها
…
كأنها في عز سلطانها
فخمرها من فوق أرقابها
…
وماؤها من فوق تيجانها
وتحدث يموت بن المزرع قال: سمعت خالي الجاحظ يقول: لا أعرف شعراً يفضل قول أبي نواس:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا
ولقد أنشدتها أبا شعيب القلال، فقال: والله يا أبا عثمان، إن هذا هو الشعر، ولو نقر، لطن، فقلت له: ويلك! لا تفارق الجرار والخزف حيث كنت؟
قال النيبختيون: خرج أبو نواس مع بعض أهلها إلى المدائن، فرأى بساباط أثاراً تدل على اجتماع كان لقوم، فقال أصحابنا، صف هؤلاء وبقاياهم، فقال غير ممتكث:
ودار ندامى عطلوها .. .. الأبيات
وتحدث أبو العيناء عن الجاحظ قال: نظرنا في شعر القدماء والمحدثين، فوجدنا المعاني نقلت، ووجدنا بعضاً يسرق من بعض إلا قول عنترة، وقول أبي نواس، فأما قول عنترة:
وخلا الذباب بها فليس ببارح
وأما قول أبي نواس:
قرارتها كسرى
قال الحسن بن طباطبا: فممن قال إثر أبي نواس في هذا المعنى فأحسن: أبو الحسن بن أبي البغل في قوله:
قد صف في كاساتها صور حكت
…
للشاربين بها كواعب غيداً
فإذا جرى فيها المزاج تقسمت
…
ذهباً ودراً توأماً وفريدا
فكأنهن لبسن ذاك مجاسداً
…
وجعن ذا لنحورهن عقودا
أقول: معنى البيت الأخير أن حد الخمر من صور هذه الفوارس التي في الكأس إلى التراقي، ومزجت بالماء إلى ما فوق رؤوسها، وفائدته معرفة حدها صرفاً من حدها ممزوجة، وزعم بعضهم أن أبا نواس أخذه من قول امرئ القيس:
فلما استطابوا صب في الصحن نصفه
…
ووافوا بماء غير طرق ولا كدر
جعل الماء والشراب قسمين: فتسلق أبو نواس عليه، وأخفاه بما شغل به الكلام من ذكر الصور.
قال صاحب "المثل السائر" في أدب الكاتب والشاعر، وهو ضياء الدين، نصر الله، الشهير بابن الأثير الموصلي: قرأت في كتاب "الروضة" لأبي العباس المبرد، وهو كتاب جمعه، واختار فيه أشعار شعراء بدأ فيهم بأبي نواس، ثم بمن كان في زمانه، وانسحب على ذيله، فقال فيما أورده من شعره: وهو معنى لم يسبق إليه بإجماع، وهو قوله:
تدار علينا الراح في عسجدية .. الأبيات
وقد أكثر العلماء في وصف هذا المعنى، وقولهم فيه: إنه [معنى] مبتدع، ويحكى عن الجاحظ أنه قال: ما زال العلماء يتناقلون المعاني قديماً وحديثاً إلا هذا المعنى، فإن أبا نواس انفرد بإبداعه، وما أعلم أنا ما أقول لهؤلاء سوى أني أقول: قد تجاوزتم حد الإكثار، ومن الأمثال السائرة:"بدون ذا يباع الحمار" وفصاحة هذا الشعر عندي هي الموصوفة، لا في هذا المعنى، فإنه لا كبير كلفة فيه، لأن أبا نواس رأى كأساً من الذهب ذات تصاوير، فحكاه في شعره، والذي عندي في هذا أنه من المعاني المشاهدة، فإن هذه الخمر لم تحمل إلا ماء يسيراً، وكانت تستغرق صور هذا الكأس إلى مكان جيوبها، وكان الماء فيها قليلاً بقدر القلانس التي على رؤوسها، وهذه حكاية حال مشاهدة بالبصر. انتهى.
وقال أيضاً في قسم المساواة من ذلك الكتاب: ومن هذا الضرب قول أبي نواس، وهو من نادر ما يأتي في هذا الموضع:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا
…
إلى آخر الأبيات.
ثم قال: ومما انتهى إلينا من أخبار ابن المزرع قال: سمعت الجاحظ يقول: لا أعرف شعراً يفضل هذه الأبيات، ولقد أنشدتها أبا شعيب القلال، فقال: والله يا أبا عثمان إن هذا هو الشعر، ولو نقر، لطن، فقلت له: ويحك! لا تفارق عمل الجرار والخزف؟ ولعمري إن الجاحظ عرف فوصف، وخبر فشكر،
والذي ذكره هو الحق. انتهى. ثم قال في "باب الإطناب": وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي نواس:
أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً .. البيت.
ومراده من ذلك أنهم أقاموا أربعة أيام، ويا عجباً له! يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش في ضمن تلك الأبيات العجيبة الحسن، التي تقدم ذكرها؟ . انتهى.
وقال الصلاح الصفدي في "شرح لامية العجم" بعد نقل كلام ابن الأثير الأخير: قلت: أبو نواس أجل قدراً من أن يأتي بهذه العبارة لغير معنى طائل، فأما البيت، فالمفهوم منه أن المقام سبعة أيام، لأنه قال: وثالثاً، ويوماً آخر له اليوم الذي رحلنا فيه خامس يوم، وابن الأثير لو أمعن الفكر في هذا ربما كان يظهر له. انتهى.
أقول: كون أيام الإقامة أربعة هذا هو الظاهر، وبه قال ابن عصفور، والخفاف، وأبو حيان وغيرهم، وذلك بإرجاع الضمير من "له" راجع لما تقدم من الأيام، لا إلى اليوم الأخير، ويوم الرحيل غير معدود، ومن عده فيها، فباعتبار الإقامة في نحو نصفه على سبيل التغليب، ويؤيده ما نقله الدماميني من "شرح مقصورة حازم" للشريف الغرناطي.
وترجمة أبي نواس تقدمت في الإنشاد الثاني والأربعين بعد المائتين.