الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[قول الفلاسفة في الوعد والعيد]
من أن الرسل خاطبوا الناس بإظهار أمور من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن وإنما هي أمثال مضروبة لتفهيم (1) حال النفس بعد المفارقة، وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد وإن كان لا حقيقة له (2) فإنما تعلق (3) لمصلحتهم في الدنيا إذ كان لا يمكن تقويمهم إلا بهذه الطريق (4).
وهذا القول مع أنه معلوم الفساد بالضرورة من دين الرسل، فلو كان الأمر كذلك لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك، وإذا علموا زالت محافظتهم على الأمر والنهي، كما يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة من الإسماعيلية (5)، والنصيرية (6) ونحوهم، فإن البارع منهم في
= حراماً، وهدفهم إبطال الشرائع، ونشر الإلحاد، وهم غاية في الخبث والمكر، ويلبسون على العوام حتى يوقعوهم في شراكهم -كما ذكر ابن الجوزي في كتابه القرامطة (51). فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي (22)، الفرق بين الفرق (298)، وذكر الأشعري في المقالات (1/ 101) فرقة من فرق الرافضة سماها القرامطة، ولم يذكر من عقائدهم سوى عقيدتهم في الأئمة، وأن الإمام الغائب عندهم هو محمد بن إسماعيل بن جعفر.
(1)
في (م): "ليفهم "، وفي (ط):"لتفهم".
(2)
"له" ليست في (م).
(3)
في (م) و (ط): "يعلق".
(4)
في (ط): "الطريقة".
(5)
الإسماعيلية: فرقة باطنية تنسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق -الذي توفي في حياة والده- وأقاموا لهم عدة دول، منها الدولة العبيدية بمصر والمغرب -المسماة زوراً بالدولة الفاطمية- التى استمرت زهاء ثلاثمائة عام، والدولة الصليحية في اليمن، وهي كبقية الفرق الباطنية الأخرى تسعى إلى هدم الدين، وإلغاء الشرائع، واستباحة المحرمات، وعقائدهم في الألوهية والنبوة والمعاد تكاد تكون صدى لآراء الفلاسفة، ومتفقة معها كما يقول الغزالي، ومن فروع الإسماعيلية البهرة والحشاشين والآغاخانية، وقد كانوا مصدر فتنة وحرب وكيد على المسلمين، وذاق المسلمون أيام دولهم الويلات.
مقالات الإسلاميين (1/ 100)، فضائح الباطنية (38)، الفرق بين الفرق (178)، الملل والنحل (1/ 226).
(6)
النصيرية: فرقة باطنية اختلف في نسبتها، والأقرب أنها تنسب إلى محمد بن نصير النميري أحد أصحاب الحسن العسكري الإمام الحادي عشر عند الشيعة الاثني عشرية، وتقوم عقيدتها على تأليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستحلال =
العلم والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي، وتباح له المحظورات، وتسقط عنه الواجبات، فتظهر أضغانهم، وتنكشف أسرارهم، ويعرف عموم الناس حقيقة دينهم الباطل، حتى سموهم باطنية لإبطانهم خلاف ما يظهرون، فلو كان والعياذ بالله دين الرسل كذلك، لكان خواصه قد عرفوه، ولظهر (1) باطنه، وكان عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية (2)، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا أعلم الناس بباطن الرسول وظاهره، وأخبر الناس بمقاصده ومراداته كانوا أعظم الأمة لزوماً لطاعة أمره سراً وعلانية ومحافظة على ذلك إلى الموت، وكل من كان منهم إليه أقرب (3) وبه أخص وبباطنه أعلم كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كان أعظمهم (4) لزوماً لطاعته سراً وعلانية، ومحافظة على أداء الواجب، واجتناب المحرم باطناً وظاهراً، وقد أشبه هؤلاء في بعض الأمور ملاحدة المتصوفة، الذين يجعلون فعل المأمور وترك المحظور
= المحرمات، والقول بتناسخ الأرواح، وإنكار البعث والنشور، وتقديس عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي لأنه كما يقولون خلص اللاهوت من الناسوت، وهم وسائر فرق الباطنية أكفر من اليهود والنصارى وكثير من المشركين -كما نص عليه المؤلف رحمه الله وقد كان النصيرية -كسائر فرق الباطنية- عوناً لأعداء الإسلام من التتار والصليبيين والمستعمرين ضد المسلمين.
الملل والنحل (1/ 220)، الفصل لابن حزم (4/ 188)، مجموع الفتاوى (35/ 145).
(1)
فى (ط): "وأظهروا".
(2)
الباطنية: اسم عام تنضوي تحته عدة طوائف تجتمع كلها على أن الدين باطن وظاهر، ولها تأويلات -وإن اختلفت- إلا أنها جميعاً تهدف إلى إبطال الدين، وهدم الشرائع، وإنكار العقائد، ولها عدة أسماء: الإسماعيلية والملاحدة والقرامطة والخرمية والبابكية والنصيرية والمحمرة، وهذه الأسماء وإن كانت عامة إلا أنها قد تخص بعض فرقها، وسموا بالباطنية لأن نصوص الشرع عندهم لها ظواهر عند العامة والجهال، وبواطن لا يفهمها إلا العقلاء بزعمهم. فضائح الباطنية (11)، القرامطة لابن الجوزي (35)، الملل والنحل (1/ 228).
(3)
" أقرب " ساقطة من (ط).
(4)
في (ط): "كانوا".
واجباً على السالك، حتى يصير عارفاً محققاً في زعمهم وحينئذ يسقط عنه التكليف، ويتأولون على ذلك قوله تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} (1)[الحجر: 99] زاعمين أن اليقين هو ما يدعونه من المعرفة،
(1) قال المؤلف في درء التعارض ما نصه (3/ 270): "ودخل في ذلك طائفة من المتصوفة ظنوا أن غاية العبادات هو حصول المعرفة، فإذا حصلت سقطت العبادات، وقد يحتج بعضهم بقوله:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} ويزعمون أن اليقين هو المعرفة، وهذا خطأ بإجماع المسلمين -أهل التفسير وغيرهم- فإن المسلمين متفقون على أن وجوب العبادات -كالصلوات الخمس ونحوها- وتحريم المحرمات -كالفواحش والمظالم- لا يزال واجباً على كل أحد ما دام عقله حاضراً ولو بلغ ما بلغ. . . فالمقصود من هذا أن الصلوات الخمس لا تسقط عن أحد له عقل، سواء كان كبيراً أو صالحاً أو عالماً.
وما يظنه طوائف من جهال العباد وأتباعهم وجهال النظار وأتباعهم وجهال الإسماعيلية والنصيرية -وإن كانوا كلهم جهالاً- من سقوطها عن العارفين أو الواصلين أو أهل الحضرة أو عمن خرقت لهم العادات أو عن الأئمة الإسماعيلية أو بعض أتباعهم أو عمن عرف العلوم العقلية أو عن المتكلم الماهر في النظر أو الفيلسوف الكامل في الفلسفة فكل ذلك باطل باتفاق المسلمين، وبما علم بالاضطرار من دين الإسلام".
ولقول الحافظ ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/ 117) في إشارة لطيفة لعبوديتين أخريين في البرزخ ويوم القيامة: "واليقين هاهنا: الموت بإجماع أهل التفسير. . .، فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف، بل عليه فى البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان: من كان يعبد؟ وما يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلتمسان منه الجواب، وعليه عبودية أخرى يوم القيامة، يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود، يسجد المؤمنون، ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون السجود، فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك، وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحاً مقروناً بأنفاسهم لا يجدون له تعباً ولا نصباً. . .
ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد؛ فهو زنديق كافر بالله وبرسوله، وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله، والانسلاخ من دينه. . . ".
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير القرآن العظيم (2/ 561) عند هذه الآية: "ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم، وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. . . ".
واليقين هنا الموت (1) وما بعده كما قال تعالى عن أهل النار: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} (2)[المدثر: 45 - 47] قال الحسن البصري: (إن الله لم يجعل لعباده المؤمنين أجلاً دون الموت) وتلا هذه الآية.
ومنه قول النبي (3) صلى الله عليه وسلم لما توفي عثمان بن مظعون: (أما عثمان بن مظعون فقد أتاه اليقين من ربه)(4).
وهؤلاء قد يشهدون القدر أولاً، وهي الحقيقة الكونية، ويظنون أن غاية العارف أن يشهد القدر ويفنى عن هذا الشهود، وذلك المشهد لا تميز (5) فيه بين المأمور والمحظور، وموجبات الله ومكروهاته، وأوليائه وأعدائه وقد يقول أحدهم: العارف شهد أولاً الطاعة والمعصية، ثم شهد طاعة بلا معصية، يريد بذلك طاعة القدر، كقول بعض شيوخهم: أنا كافر برب يعصى! !
وقيل له عن بعض الظالمين: هذا ماله حرام، فقال: إن كان عصى الأمر فقد أطاع الإرادة، ثم ينتقلون إلى المشهد الثالث، لا طاعة ولا معصية، وهو مشهد أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود، وهذا غاية إلحاد المبتدعة جهمية الصوفية، كما أن القرمطة آخر إلحاد الشيعة، وكلا الإلحادين يتقاربان، وفيهما من الكفر ما ليس في دين اليهود والنصارى ومشركى العرب والله أعلم.
(1) قال البخاري في صحيحه: قال سالم عند هذه الآية: "اليقين هو الموت" كتاب تفسير القرآن باب: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} (3/ 248) وسالم هذا هو سالم بن عبد الله بن عمر، كما رواه ابن جرير رحمه الله فى تفسيره (14/ 74).
(2)
في (ط): قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} بعد الآيات الثلاث.
(3)
كلمة النبي ليست في (ط).
(4)
رواه البخاري برقم (1243) كتاب الجنائز باب الدخول على الميت إذا أدرج في أكفانه، وأحمد برقم (26186).
(5)
في (ط): "تمييز".