الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الصدقة بفضول الأموال]
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أصابتهم مرة حاجة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتصدقوا بفضول أموالهم، حتَّى يفضل من كل جنس من منافعهم، حتى ظنوا أنَّه لا حق لأحد في شيء من فضل ماله (1).
ولو قام أحدهم فجمع فضول أموالهم لكان حسن، وعلى ولي الأمر أن يجبرهم على مواساة من علموا احتياجه إليها.
فصل (2)
(1) روى مسلم في صحيحه برقم (1728) 3/ 1354 كتاب اللقطة باب استحباب المواساة بفضول المال عن أبي سعيد الخدري قال: "بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليمد به على من لا زاد له"، قال: فذكر أصناف المال حتى رأينا أنَّه لا حق لأحد منا في فضل"، ورواه أبو داود برقم (1663) كتاب الزكاة، وأحمد برقم (11311)، ورواه ابن عباد في صحيحه برقم (5419) 12/ 238، والبيهقى (4/ 182).
(2)
نود أن نشير في هذا المقام: إلى أن هذا الفصل وما ورد قبله وبعده، مما يبدو أنها استطرادات فقهية، لها تعلق بموضوع الإحسان، الَّذي يتحدث عنه المؤلف، فإن الله قد كتب الإحسان على كل شيء، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم الَّذي استهل به المصنف هذا الفصل من الإحسان والمصنف رحمه الله وإن طال به الاستطراد الفقهي كما يبدو في بعض الأحيان - إلَّا أنَّه لم يجعل حديثه فقهيًا صرفًا كما يصنع الفقهاء، فهو يربط كل موضوع في الغالب بالإحسان، ويحاول إظهار روح التشريع وسمو أحكامه، وينبه على أهمية تعاون المسلمين فيما بينهم، وفيما يلي بعض الأمثلة التي توضح المراد:
فهو بعد أن تحدث رحمه الله عن عارية الدلو والفأس والقدر بين الناس، وكذلك عارية الخيل لمن احتاج إليها، وإعارة فحل الإبل قال:"فلا يمنع المعروف من الناس بطلب الأجرة على مثل هذه الأشياء، فإن الله يأمر بالعدل والإحسان".
وهو مثلًا يقول: "والغرض هنا إذا كان الكافر الَّذي هو عدو الملة، يجاور ويعامل ويعطي أجرة المثل عند الحاجة، ولا يحل ظلمه في شيء، فكيف المسلم إذا قام بما يجب عليه من مصالح إخوانه، من طحن بر، وإصلاح خبز، وتسوية طعام، وإحكام بناء، ونسج ثوب، وغير ذلك، مما هو فرض كفاية، فحقه أن من احتاج إلى أخيه في شيء من ذلك الإحسان إليه، يدفع ما يتعين له من أجرة أو ثمن أو قرض أو عوض".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ويقول: "فعامة البيوع المباحة تحتاج إلى الصدق، وهو محض الحق، وبذل النصح، وتفسد بالكذب، وكتمان العيب أو النقص، وهذا عين الخيانة وأصل الغش".
ويقول أيضًا: "ولهذا أمروا بالعدل في البيوع، والصدق في المعاملات".
ويقول أيضًا: "وأصل مذهب أحمد في العقود الجواز، فلا يحرم منها إلَّا ما حرمه الله ورسوله، ومذهبه أوسع المذاهب في باب المزارعة والمناصبة والمساقاة، وكل ما كان من المعاملات المباحة".
ويقول أيضًا: "من الإحسان في البيوع، والتزام العقود الشرعية، والورع في المعاملات المباحة ما ذكره الإمام أبو الوفا بن عقيل البغدادي في كتاب (التذكرة) في باب ما يجتنب من البيوع الفاسدة فقال: يجتنب منها خمسة وعشرون بيعًا. . . ".
وقال بعد ذلك: "فهذه بيوع كثيرة عرف تفصيلها، ووجه الاحتراز منها، من مشهور الأحاديث وجمله النهي عن البيوع الفاسدة ثلاثة وخمسون حديثًا، وقد بوب العلماء على أكثرها، وأحسنوا التنبيه على ذلك، لئلا يكون للآكل حجة، إذا أخذ الحرام، وسماه بغير اسمه، واحتج لغلبة هواه، ورغبته في تثمير المال. . . ". ثم يقول: "ومن البيوع فاسد، لا يحل ربحه، ولا يصح العقد فيه، وللعلماء من التصانيف الجليلة في البيوع، ما بين الحالي من العاطل، وأوضح الحق من الباطل، وليس هذا مما يستغني عنه العوام، بل هو مما لا يسعهم جهله، ولا يعذر التجار في التساهل في حفظه".
ويقول رحمه الله: "ولا خلاف أن الصحابة كانت لهم أسباب، ومعائش شتى، مع كثرة اشتغالهم بالغزو، الَّذي هو من أشد الأعمال على النفوس، وكان تورعهم واجتهادهم وفقههم الَّذي يتدارسونه بينهم معرفة الحلال والحرام، في المآكل، والمشارب، والملابس، والمساكن، والمناكح، ونحو ذلك، وكانوا يرجعون في ذلك كله إلى الكتاب والسنة، يستفتون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال حياته، ويسأل بعضهم بعضًا عن سنته بعد وفاته، حتَّى حفظ عنهم في باب المعاملات ما قطع حجة كل أفاك أثيم، وعرف من شعارهم ما لو تمسكنا به لم نعدل عن النهج القويم، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم".
ويقول أيضًا: "وكذلك تصح المساقاة على جميع الأشجار، ويورث من كل منهم، وتقسم الشجرة أو الزرع في ورثته قسمة شرعية، فإن هذا كله من فضل الله الَّذي يحيى في الأرض.
ومن قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)} [الحجر: 20]. ومن قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]. =
المغارسة والمناصبة (1) تجوز في ظاهر مذهب أحمد، ذكرها العكبري (2) والقاضي وجوزها، وقاسها على المزارعة، فإن المزارعة تقتضي المشاركة في الثمرة.
وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "نقركم ما شئنا" رواه مسلم (3).
ثم (4) إذا كان الغرس من صاحب الأرض، فهو كما لو كان البذر من العامل، فيشتركان فيما يحدثه الله من الثمر والزرع.
= ومن قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63). . .} [الواقعة: 63]. . . ".
وأخيرًا يقول: "والشارع رعى المصلحة العامة، لأن الجالب إذا لم يعرف السعر، ولا أخبر بثمن المثل، كان المشتري قد غره، وليس ذلك من الصدق والنصح في شيء، إنما هو خيانة وغش، فإن أضاف إليها كذبًا صريحًا مثل أن يقول: قد أعطيت فوق ما يساوي في سوقه، لأجل حاجتي إلى ذلك، ونحو هذا مما يستعمله من لا عناية له بمطعمه ومشربه، ومن جل قصده تثمير المال، والمفاخرة والمكاثرة بحسن المخادعة في البيوع، وكل ذلك محرم محذور".
وبعد كل هذه الأمثلة يظهر لنا جليًا روعة الأسلوب الَّذي صاغ به المصنف تلك القضايا الفقهية، وربطها بموضوع الإحسان، وتركيزه على جانب التعاون والصدق والأمانة والورع في المعاملات والبيوع بين المسلمين، وكل هذا يدخل ولا شك -في مرتبة الإحسان، وهذا ما أراده المصنف، والله أعلم.
ويا ليت كثيرًا من الفقهاء عنوا بالجانب الروحي والتربوي عند مناقشتهم للمسائل الفقهية، وتوضيح المقاصد العظيمة والغايات السامية من وراء هذه التشريعات الإسلامية.
(1)
هما بمعنى واحد، وهو: دفع أرض بيضاء مدة معلومة ليغرس فيها، وتكون الأرض والشجر بينهما، حاشية ابن عابدين (5/ 183) كشاف القناع (3/ 532)، شرح منتهى الإرادات (2/ 343).
(2)
هو شيخ الحنابلة القاضي أبو علي يعقوب بن إبراهيم بن أحمد العكبري البرزيني -وهي قرية كبيرة على خمسة فراسخ من بغداد- من كبار تلامذة القاضي أبي يعلى، وكان من أعرف القضاة في عصره بأحكام القضاء، ذو هيبة كبيرة، وقرأ عليه عامة الحنابلة ببغداد، وانتفعوا به، من مصنفاته:"التعليقة في الفقه" في عدة مجلدات، مات سنة 486 هـ. طبقات الحنابلة (2/ 245)، الأنساب (4/ 426)، المنتظم (9/ 80)، سير أعلام النبلاء (19/ 93)، ذيل طبقات الحنابلة (1/ 73)، شذرات الذهب (5/ 380).
(3)
تقدم تخريج هذا الحديث (ص 602).
(4)
كتب قبل "ثم" في نسخة الأصل: (وفي الأصل) وقد حذفناها، لأننا نرجح أنها مقحمة من الناسخ.