الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويجعلون (1) النبوة كلها من جنس ما يحصل لبعض الصالحين من الكشف والتأثير والتخييل (2)، فيجعلون خاصة النبي ثلاثة أشياء:
قوة الحدس الصائب التي يسمونها القوة القدسية.
وقوة التأثير في العالم بنفسه (3).
وقوة الحس التي بها يسمع ويبصر المعقولات متخيلة في نفسه (4).
[طلب بعض غلاة الصوفية النبوة، واعتقادهم أنها بالاكتساب]
فكلام الله عندهم هو ما في نفسه من الأصوات، وملائكته هي ما في أنفسهم من الصور والأنوار، وهذه الخصال تحصل لغالب أهل الرياضة والصفاء. فلهذا كانت النبوة عندهم مكتسبة (5).
= الأضواء إلا على مثل هؤلاء الذي طفحت مؤلفاتهم بالإلحاد، وفاحت منها رائحة الزندقة والفساد، وتناسوا -وجهلنا نحن- عشرات من علماء المسلمين الذي أثروا العلوم التجريبية، وقامت على مؤلفاتهم وجهودهم حضارة المسلمين التي استفاد منها الغرب في نهضته الحديثة، دون أن ينجرفوا مع الفلسفات الهدامة، أو يتخلوا عن تعاليم دينهم، ويتجاهلون عن عمد أن هؤلاء الفلاسفة إنما تعلموا العلوم التجريبية وبرعوا فيها تحت ظل الحضارة الإسلامية، ورعاية دولها، فالفضل لحضارتنا ودولنا لا لهم، فمتى يأتي اليوم الذي تبعث فيه أسماء هؤلاء الرجال الأفذاذ، ونسلط الأضواء على جهودهم ومنجزاتهم، وتعرف الأمة بعض من ساهم في بناء مجدها الغابر، وإن كانت هناك محاولات في هذا المجال، إلا أنها تبقى محدودة الأثر.
توفي ابن سينا سنة 428 هـ بهمذان، تهافت الفلاسفة (306)، الكامل في التاريخ (9/ 456)، وفيات الأعيان (2/ 157)، الرد على المنطقيين (143)، ميزان الاعتدال (1/ 539)، سير أعلام النبلاء (17/ 531)، البداية والنهاية (12/ 42)، لسان الميزان (2/ 291)، شذرات الذهب (5/ 132).
(1)
في (ط): "فيجعلون".
(2)
في (م) و (ط): "التخيل".
(3)
كلمة "بنفسه" ليست في (م) و (ط).
(4)
الإشارات لابن سينا (2/ 368)، الشفاء لابن سينا (242)، مجموع الفتاوى (5/ 356).
(5)
ويقول كما في موضع آخر: "يجعلون النبوة فيضًا من العقل الفعال على نفس النبي، ويجعلون ما يقع في نفسه من الصور هي ملائكة الله، وما يسمعه في نفسه من الأصوات هو كلام الله، ولهذا يجعلون النبوة مكتسبة، فإذا استعد الإنسان بالرياضة والتصفية فاض عليه ما فاض على نفوس الأنبياء" مجموع الفتاوى (5/ 353)، ويقول في موضع آخر:(فيجعلون ما يراه الأنبياء من الملائكة ويسمعونه منهم إنما وجوده في أنفسهم لا في الخارج" المصدر نفسه (5/ 356).
وصار كل من سلك سبيلهم كالسهروردي المقتول (1)، وابن سبعين المغربي (2) وأمثالهما يطلب النبوة، ويطمع أن يقال له: قم فأنذر، هذا يقول: لا أموت حتى يقال لي: {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} (3)، وهذا يجاور بمكة
(1) هو أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك شهاب الدين السهروردي نسبة إلى سهرورد من العراق العجمي (الكردي) نعته الحافظ الذهبي "بالعلامة الفيلسوف السيماوي المنطقي، من كان يتوقد ذكاء، إلا أنه قليل الدين"، كان مزدريًا للعلماء مستهزئًا رقيق الدين، حكم بكفره فقهاء حلب، وكتبوا بذلك كتابًا إلى السلطان العادل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، فأرسل إلى ولده الملك الظاهر غازي ملك حلب يأمره بقتله -وكان السهروردي قد لبس على الظاهر وحظي عنده بمكانة خاصة- فذكر أنه خيره بين أنواع القتل، فاختار أن يموت جوعًا، فمنع عنه الطعام حتى هلك، وقيل إنه مات مخنوقًا، والأول أشهر، من مؤلفاته "التلويحات" و"اللمعة" و"هياكل النور" و"حكمة الإشراق" وكلها في الفلسفة والضلالات، مات سنة 587 هـ عن ستة وثلاثين عامًا وقول المصنف رحمه الله تعالى: السهروردي المقتول تفريق بينه وبين معاصره شهاب الدين السهروردي الصوفي الشافعي صاحب عوارف المعارف المتوفى سنة 632 هـ -الآتية ترجمت-، وفيات الأعيان (6/ 268)، سير أعلام النبلاء (21/ 207)، العبر (4/ 290)، النجوم الزاهرة (6/ 114)، شذرات الذهب (6/ 476).
(2)
هو عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن سبعين الإشبيلي المرسي، من أئمة الفلاسفة المتصوفين القائلين بوحدة الوجود، وكان يعرف السيميا (نوع من السحر) وكان يلبس بذلك على الأغبياء من الأمراء والأغنياء، أقام بمكة، وجاور في بعض الأوقات بغار حراء، يرتجي فيما ينقل عنه أن يأتيه وحي كما أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك على ما كان يعتقده -قبحه الله- من العقيدة الفاسدة من أن النبوة مكتسبة، وأنها فيض على العقل إذا صفا، فما حصل له إلا الخزي في الدنيا والآخرة، أن كان مات على ذلك، له مؤلفات منها كتاب "الهو" وكتاب "الحروف الوضعية في الصور الفلكية"، مات بمكة سنة 669 هـ، العبر (5/ 291)، الوافي بالوفيات (18/ 60)، البداية والنهاية (13/ 275)، نفح الطيب للمقري (2/ 195).
(3)
يذكر ابن العماد الأصفهاني في كتابه "البستان الجامع لتواريخ الزمان" أن الفقهاء في حلب ناظروا السهروردي حول إمكان الله خلق نبي جديد، وأنه قال بذلك، وأن هذا من أسباب قتله (592) نقلًا عن الفلسفة الصوفية في الإسلام للدكتور عبد القادر محمود (442)، ويوافق الدكتور محمد علي أبو ريان في كتابه "أصول الحكمة الإشراقية"(19) على ذلك، ولكنه يدافع عن السهروردي بأنه قال ذلك "حفظًا للقدرة الإلهية من إلحاق النقص بها يقرر إمكان خلق نبي جديد"، على أن ما نسبه المصنف رحمه الله تعالى إلى السهروردي من قوله: لا أموت حتى يقال =
ويعمر (1) غار حراء، ويطلب أن ينزل عليه فيه الوحي كما نزل على المزمل المدثر مثله (2)، وكل منهما ومن أمثالهما يسعى بأنواع من (3) السيمياء (4)
= لي: قم فأنذر، لم أستطع الاطلاع عليه، غير أن السهروردي نفسه يذهب في كتابه "حكمة الإشراق"(371) إلى "وجود قطب متوغل في التأله لا يخلو العالم منه، يكون خليفة الله في أرضه، ويتلقى عنه. . . " ويقول في كتابه "هياكل النور"(44): "فإذا ما تجردنا عن الملذات الجسمية، تجلى لنا نور إلهي لا ينقطع مدده عنا. .. " نقلًا عن الفلسفة الصوفية (446)، وكل هذه النصوص تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك ما ذهب إليه شيخ الإسلام في هذا المقام وحكاه عن السهروردي المقتول، ويؤيده في ذلك الدكتور عبد القادر محمود في كتابه "الفلسفة الصوفية في الإسلام"(442).
(1)
في (م) و (ط): "ويعمد إلى".
(2)
في (ط): "المزمل والمدثر"، وقد نقل المؤرخون عن ابن سبعين أنه كان قد اختلى بنفسه في غار حراء -كما أوردنا في ترجمته- وقام برياضات نفسية شاقة حتى تصفو نفسه وينزل عليه الوحي بزعمه الباطل، ونقل عنه أيضًا قوله:"لقد تحجر ابن آمنة واسعًا بقوله: لا نبي بعدي" انظر: المصادر التي ذكرناها في ترجمته.
والمقصود بالمزمل والمدثر النبي صلى الله عليه وسلم القائل حين نزل عليه الوحي وأخذته صلى الله عليه وسلم -بأبي وأمى هو- رعدة: زملوني دثروني كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، رواه البخاري برقم (4957) كتاب التفسير، ومسلم برقم (73) كتاب الإيمان، والمعنى ألبسوني وغطوني.
(3)
كلمة "من" ليست في (ط).
(4)
يقول صاحب كتاب "كشف الظنون"(2/ 1020): "علم السيمياء يطلق هذا الاسم على ما هو غير الحقيقي من السحر، وهو المشهور، وحاصله إحداث مثالات خيالة في الجو لا وجود لها في الحس. . وحاصله أن يركب الساحر أشياء من الخواص أو الأذهان والمائعات أو كلمات خاصة توجب بعض تخيلات خاصة. . . وفي هذا الباب حكايات كثيرة عن ابن سينا والسهروردي المقتول".
وجاء أيضًا في الحاشية في نفس الصفحة عن لفظ السيمياء: "لفظ عبراني معرب، أصله سيم يه أي اسم الله".
وانظر أيضًا: أبجد العلوم (2/ 332) لصديق حسن خان القنوجي.
ويرى د. محمد يحيى الهاشمي في كتابه "الكيمياء في التفكير الإسلامي"(21): أن السيميا تحتوي على كيفية تحويل المعادن وأكسير الحياة تلك المادة التي تطيل الحياة بزعمهم، وأن الكيمياء بمعنى السيميا تتمشى مع الأفلاطونية الحديثة جنبًا إلى جنب، ولها ناحيتان: ناحية تجريبية، وأخرى نظرية شديدة العلاقة بفكرة الوحي والإلهام، وهذا هو السر على ما يظهر بعلاقة السيمياء بالصوفية والتدين الشرقي، وكل من الصوفية والأفلاطونية يميل إلى الإلهام والباطن والفيض. وقد =