الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[احتياج البيوع إلى الصدق]
فعامة البيوع المباحة تحتاج إلى الصدق، وهو محض الحق، وبذل النصح، وتفسد بالكذب، وكتمان العيب أو النقص، وهذا عين الخيانة، وأصل الغش.
والبيع تارة يكون مباحًا، كرجل احتاج إلى ثمن شيء فباعه، لا يريد بذلك إلَّا الثمن، لنفقة واجبة، أو مصلحة ظاهرة، وتارة يكون البيع واجبًا، كطعام يجب بذله لمحتاج إليه بثمن المثل، لا وكس (1) ولا شطط (2).
[النهي عن تلقي الركبان]
ولهذا: "نهي عن تلقي الركبان" الحديث (3)، وأثبت له الخيار إذا بلغ السوق.
ولهذا كان مذهب أكثر الفقهاء على أنَّه نُهي عن ذلك من أجل ضرر
= (1245) كتاب البيوع، والنسائي برقم (4457) كتاب البيوع، وأبو داود برقم (3457) كتاب البيوع، وابن ماجة برقم (21829) كتاب التجارات، والدارمي برقم (24359) كتاب البيوع، وأحمد برقم (4254).
(1)
الوكس: النقص، والنقصان، وقد وكس الشيء يكس، وفي الحديث:(لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط)، الصحاح (3/ 989) والقاموس المحيط (748).
(2)
الشطط: مجاوزة القدر في كل شيء، قاله في الصحاح (3/ 1138)، وقال في القاموس المحيط (ص 870):"اشتط في سلعته: جاوز المقدار المحدود، وتباعد عن الحق".
وانظر في معنى الوكس والشطط: النهاية لابن الأثير (5/ 219)، (2/ 474)، والفتح (5/ 154) وشرح السيوطي على صحيح مسلم (4/ 260)، وأما الحديث الَّذي أشار إليه صاحب الصحاح، فقد رواه النسائي برقم (3354)، والترمذي برقم (1145)، وأحمد برقم (4276)، وابن حبان في صحيحه برقم (4100) 9/ 409، وقال محققه:"صحيح على شرط مسلم"، والطبراني في المعجم الكبير
(20/ 231).
قلت: قد جاء ذكر الوكس والشطط في صحيح مسلم برقم (1501) 3/ 1287 ولفظه: (من أعتق عبدًا بينه وبين آخر، قوّم عليه في ماله قيمة عدل، لا وكس ولا شطط. . .).
(3)
رواه البخاري برقم (2274) كتاب الإجارة باب أجر السمسرة، ومسلم برقم (1521) كتاب البيوع باب تحريم بيع الحاضر للبادي، والنسائي برقم (4500) كتاب البيوع، وأبو داود برقم (3443) كتاب البيوع، ومالك برقم (1391) كتاب البيوع، وأحمد برقم (3302).
البائع هنا، لأنه إذا لم يكن عرف قيمة المثل، ولا درى السعر بالحاضر، وتُلقيت منه السلعة، فاشتريت بمبلغ لعله دون القيمة، فأثبت له الخيار إذا بلغ السوق.
وفي الخيار هنا أقوال: منها أنَّه يثبت له الخيار إذا غبن في البيع، واليه ذهب أحمد، والثاني: أنَّه يثبت مطلقًا، وبه قال الشافعي وأكثر أهل العلم، وهو أظهر قوله (1).
وقال طائفة: إنما نهى من أجل ضرر المشتري، لأنه إذا اشتراه بثمن لا يبيعه في السوق إلَّا بزيادة، فيغلو على المحتاج إليه (2)، فكأنه عليه السلام أراد أن يشتريه من يحتاجه بغير واسطة، لئلا يتضاعف الربح فيغلو.
وفي الجملة فقد نهى فضلًا للمصلحة، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع الَّذي هو حلال الجنس، حتَّى يعرف السعر البائع، ويتحقق
(1) مجموع الفتاوى (28/ 74)، وذكر الخلاف مرة أخرى فيها (28/ 102) وأشار إلى أن أظهر قولي أحمد هو ثبوت الخيار بالغبن، وهو ما يتعارض مع ما حكاه في كتابنا هذا، من أن أظهر القولين عنده هو ثبوت الخيار مطلقًا، وليس من تفسير لذلك إلَّا أن المصنف رجح هذا مرة، وهذا مرة، إلَّا إن كان يعني الشافعي بذلك، فقد ذكر الشوكاني في نيل الأوطار (6/ 252) أن الأصح عند الشافعية هو القول بثبوت الخيار مطلقًا، فدل أن هناك قولًا آخر لهم في هذه المسألة.
وقال الحافظ في الفتح (4/ 374) بعد أن أورد حديث مسلم: (لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار): "قوله: (فهو بالخيار) أي إذا قدم السوق وعلم السعر، وهل يثبت له مطلقًا، أو بشرط أن يقع له في البيع غبن؟ وجهان، أصحهما الأول، وبه قال الحنابلة"، وذكر الشوكاني في نيل الأوطار (6/ 252) مثل ذلك، وما ذكره الحافظ والشوكاني عن الحنابلة هو قول عندهم، ولكن المذهب كما ذكر ابن قدامة في الكافي (2/ 23) هو أن الخيار لا يثبت له إلَّا إذا غبن، وهو المتفق مع قول المصنف، وانظر: الشرح الكبير على هامش المغني (4/ 87).
(2)
الحكمة في النهي عن تلقي الركبان، هل هي لمصلحة البائع، أو لمصلحة المشتري وأهل السوق؟ فيه خلاف كما ذكره المصنف، ولا مانع من اجتماع الأمرين، ووقوع النهي لمصلحة جميع الأطراف، القادمين والمقيمين على حد سواء، وانظر في هذه المسألة: مجموع الفتاوى (28/ 102) الفتح (4/ 374)، نيل الأوطار (6/ 252).
المشتري السلعة، وصاحب القياس الفاسد يقول للمشتري: أن يشتري ما شاء أين شاء! ! وقد اشترى يرضى البائع.
والشارع رعى المصلحة العامة، لأن الجالب إذا لم يعرف السعر، ولا أخبر بثمن المثل، كان المشتري قد غرَّه، وليس ذلك من الصدق والنصح في شيء، إنما هو خيانة وغش، فإن أضاف إليها كذبًا صريحًا مثل أن يقول: قد أعطيت فوق ما يساوي في سوقه، لأجل حاجتي إلى ذلك، ونحو هذا مما يستعمله من لا عناية له بمطعمه ومشربه، ومن جل قصده تثمير المال، والمفاخرة والمكاثرة بحسن المخادعة في البيوع، وكل ذلك محرم محذور.
ولذلك ألحق مالك وأحمد كل سليم الصدر في الفهم، لا يساوم، ولا يماكس (1) بالجالب، فلا يؤخذ من هؤلاء إلَّا قيمة المثل، وأن يقنع في معاملتهم بأيسر الربحين، لأنهم جاهلون (2) بالسعر، والبيع يعتبر فيه الرضا، والرضا تبع للعلم، وأما إذا لم يعلم المشتري بسعر المبيع، ولا الجيد من جنسه، فاستسلم للبائع، فإنما رضاه باختياره له، وليس ذلك الرضا المشترط في صحة البيع.
وأما إذا علم أنَّه غبن في المشترى، ودلس عليه في جنسها ورضي، فهذا لا بأس به، لأنه يجوز للعبد أن يترك بعض حقه، وهو يقدر على استيفائه، وإذا أخذ منه ثمن المثل ولم يرض، لم يلتفت إلى سخطه.
ولهذا أثبت الشارع الخيار لمن يعلم العيب والتدليس (3)، فإن الأصل في السلعة الصحة، وأن يكون الظاهر كالباطن، فإذا اشترى على ذلك اعتبر رضاه، فإذا اطلع على عيب أو غبن، فهو كالجالب الجاهل بقيمة المثل إن
(1) قال في القاموس المحيط (742): "مكس في البيع يمكس إذا جبى مالًا، والمكس النقص والظلم"، وانظر الصحاح (3/ 979).
(2)
في نسخة الأصل: "جاهلين"، وهو خطأ.
(3)
انظر في خيار العيب: المغني لابن قدامة (4/ 92)، بداية المجتهد لابن رشد (2/ 173).