الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر موضحًا بعض الآثار المترتبة على هذا الأصل الفاسد المتعلقة بالإيمان: "بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محمودًا من وجه، مذمومًا من وجه، ولا محبوبًا مدعوًا له من وجه، مسخوطًا ملعونًا من وجه، ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعًا عندهم، بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى عندهم، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار، أو الشفاعة في أحد من أهل النار، وحكي عن غالية المرجئة أنهم وافقوهم على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا: إن أهل الكبائر يدخلون الجنة ولا يدخلون النار مقابلة لأولئك"(1).
ثالثًا: الرد على شبهتم في الإيمان، وذلك من وجوه:
وقد قام شيخ الإعلام رحمه الله تعالى بتفنيد شبهتهم التي تقوم على أن الإيمان حقيقة واحدة، إما أن يبقى كله، أو يذهب كله، وكان تفنيده في عدة وجوه:
الأول: إن الحقيقة الجامعة لأمور أو أجزاء (كالمركبات) -أعيانًا كانت أو أعراضًا- إذا زال بعض أجزائها، لم يلزم من ذلك زوال سائر الأجزاء.
والرد عليهم بما أوردوه من أمثلة، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل التسعة باقية، وكذلك إذا زال أحد جزئي السكنجبين لم يلزم من ذلك زوال الجزء الآخر.
الثاني: إن هذه الحقيقة الجامعة لأمور أو أجزاء إذا زال بعض أجزائها، فإن صورتها المجتمعة، وهيئتها الاجتماعية قد زالت.
وبالتالي فإن الاسم الذي كان يطلق عليها بسبب هذه الأجزاء المجتمعة قد زال، كما زال اسم العشرة، واسم السكنجبين.
(1) الإيمان (278).
الثالث: أن هذه الحقيقة، أو تلك المركبات لم تبق كما كانت، ولم تعد على تركيبها، كالشجرة إذا زال بعض أجزائها، لم تبق كما كانت قبل زوال تلك الأجزاء.
والإيمان والصلاة والحج من هذا الباب، فإذا زال بعضها لم تبق كما كانت قبل زوال بعضها.
ولكن لا يلزم -كما سبق- من زوال بعضها أن تزول بقية أجزائها.
الرابع: هل يلزم من زوال بعض أجزاء المركبات زوال اسمها؟ .
والجواب: أن المركبات في ذلك على قسمين:
قسم: ما يكون التركيب فيها شرطًا في إطلاق الاسم عليها.
فإذا زالت بعض أجزاء التركيب، زال الاسم بزوالها، ومثال ذلك اسم العشرة واسم السكنجيين، واسم الإيمان المطلق إذا نظرنا إلى أنه مركب من قول وعمل.
وقسم: ما لا يكون التركيب فيها شرطًا في الاسم.
فهذه المركبات لا يزول الاسم عنها بزوال بعض أجزائها، لأن التركيب فيها ليس شرطًا في إطلاق الاسم عليها.
والأمثلة على هذا القسم كثيرة، "وجميع المركبات المتشابهة الأجزاء من هذا الباب، وكذلك المخلفة الأجزاء"(1).
ومن الأمثلة على هذا القسم:
العباد، والطاعة، والخير، والبر، والإحسان، والصدقة، والعلم، مما يدخل فيه أمور كثيرة، ويتكون من أجزاء عديدة، فإن الاسم في هذه الأشياء يطلق على القليل منها وعلى الكبير، ويطلق الاسم أيضًا عليها إذا زالت بعض أجزائها، وبقيت أجزاء أخرى منها.
ومن ذلك لفظ القرآن، فإنه يطلق على جميع القرآن، ويطلق على بعضه، ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمي قرآنًا.
(1) شرح حديث جبريل (393).
وكذلك لفظ القول والكلام والذكر والدعاء، يطلق على القليل والكثير.
وكذلك لفظ البحر والنهر والمدينة والقرية، يطلق عليها الاسم حتى ولو نقصت بعض أجزائها.
وكذلك لفظ النبات والحيوان والإنسان، لو قطع شيء من النبات، أو من الحيوان، أو من الإنسان، لسمي المقطوع منه نباتًا وحيوانًا وإنسانًا.
وهكذا نرى أنَّ كثيرًا من المركبات، إذا زالت بعض أجزائها، لا تزول أجزاؤها الأخرى، ولا يزول الاسم عنها بزوال بعض أجزائها.
وعلى هذا فلا يصح قولهم: إن الشيء إذا زال جزء منه، لزم أن يزول الاسم، إذا أمكن أن يبقى الاسم مع بقاء الجزء الثاني.
الخاص: اسم الإيمان من القسم الثاني من المركبات، التي يطلق الاسم فيها على قليله وغيره، باعتبار أن الإيمان بضع وسبعون شعبة، وعلى هذا لا يلزم أن يزول الإيمان كلها إذا زال بعض أجزائه، ولا يلزم أيضًا أن يزول اسم الإيمان بالكلية بزوال بعض الأجزاء.
ففي الحديث الصحيح: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
ومعلوم أنه إذا زالت الإماطة، لم يزل اسم الإيمان.
وفي الحديث الآخر صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان".
فأخبر في هذا الحديث أنه يتبعض، وأنه يذهب بعضه، ويبقى بعضه (1).
السادس: الإيمان له كمالان: كمال واجب، وكمال مستحب.
كالصلاة والحج، فالصلاة فيها أجزاء تنقص بزوالها عن كمال
(1) المصدر السابق (385 - 394) بشيء من التصرف.
الاستحباب، وفيها أجزاء واجبة تنقص بزوالها عن الكمال الواجب.
والحج فيه أجزاء ينقص بزوالها عن كماله الواجب، ولا يبطل بتركها؛ كرمي الجمار، والمبيت بمنى، وكير ذلك؛ وفيه أجزاء ينقص بزواله عن كماله المستحب.
فتبين أن المركبات من القسم الثاني، لها كمال واجب، وكمال مستحب، بحسب الأجزاء الناقصة منها (1).
السابع: ليس للإيمان حقيقة واحدة، مثل حقيقة السواد والبياض؛ بل الإيمان -وكذلك الكفر- يختلف بسبب عدة أمور:
منها: اختلاف حال المكلف، واختلاف بلوغ التكليف له، وزوال الخطاب الذي به التكليف.
وتفصيل ذلك بما يلي:
1 -
في بداية الدعوة كان الإيمان تامًا بما نزل فقط، فمن آمن قبل أن تفرض الصلوات الخمس، كان مؤمنًا تام الإيمان، ومن آمن بعد فرضها، وقبل أن يفرض الصيام كان أيضًا مؤمنًا تام الإيمان، ومن آمن قبل أن تحرم الخمر، ويحرم الربا كان مؤمنًا تام الإيمان، مع أن مثل هذا الإيمان لا يقبل بعد نزول الفرائض، وتحريم هذه الأمور، واكتمال الدين، الذي دل عليه قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .
2 -
بعد إكمال الدين، كما بلغ الإنسان شيء من الدين وجب عليه الإيمان به، وما لم يبلغه، ولم يمكنه معرفته، فلا يجب عليه، فصار الإيمان يختلف هنا بحسب حال المكلف.
3 -
إذا آمن الإنسان ثم مات قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال، فقد مات كامل الإيمان الذي وجب عليه.
(1) المصدر السابق (394).
4 -
ومن ذلك أن الأمر يختلف بحسب القدرة والعجز، فيجب على القادر مثلاً من واجبات الإيمان ما لا يجب على العاجز.
والخلاصة: أن ما يجب من الإيمان يختلف باختلاف نزول الوحي من السماء، وباختلاف حال المكلف في البلاغ وعدمه (1).
ويقول المصنف بعد ذلكم: "فمن المعلوم أن بعض الناس إذا أتى ببعض ما يجب عليه دون بعض، كان قد تبعض ما أتى فيه من الإيمان، كتبعض سائر الواجبات"(2).
وكل هذه الأمور من الأدلة على أن الإيمان يتبعض، وأنه ليس كلاً لا تجزأ، وأنه يذهب بعضه، ويبقى بعضه، وأنه كذلك يزيد وينقص.
ويقول المصنف في موضع آخر: "وذلك أن أصل أهل السنّة أن الإيمان يتفاضل من وجهين: من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد.
أما الأول: فإنه ليس الإيمان الذي أمر به شخص من المؤمنين هو الإيمان الذي أمر به كل شخص، فإن المسلمين في أول الأمر كانوا مأمورين بمقدار من الإيمان، ثم بعد ذلك أمروا بغير ذلك، وأمروا بترك ما كانوا مأمورين به كالقبلة، فكان من الإيمان في أول الأمر الإيمان بوجوب استقبال بيت المقدس، ثم صار من الإيمان تحريم استقباله ووجوب استقبال الكعبة، فقد تنوع الإيمان في الشريعة الواحدة.
وأيضًا فمن وجب عليه الحج والزكاة أو الجهاد يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره إلا مجملاً، وهذا يجب عليه الإيمان المفصل، وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان، وهذا من أصول غلط المرجئة، فإنهم ظنوا أنه شيء واحد، وأنه يستوي فيه جميع المكلفين، فقالوا: إيمان الملائكة والأنبياء وأفسق الناس سواء، كما
(1) المصدر السابق (396).
(2)
المصدر السابق (397 - 398).
أنه إذا تلفظ الفاسق بالشهادتين، أو قرأ فاتحة الكتاب كان لفظه كلفظ غيره من الناس. . . .
والنوع الثاني هو تفاضل الناس في الإتيان به مع استوائهم في الواجب، وهذا هو الذي يظن أنه محل النزاع، وكلاهما محل النزاع، وهذا أيضًا يتفاضلون فيه، فليس إيمان السارق والزاني والشارب كإيمان غيرهم، ولا إيمان من أدى الواجبات كإيمان من أخل ببعضها. . " (1).
الثامن: قد تكون بعض الأجزاء المتروكة شرطًا في الأجزاء الأخرى، كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه، أو آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)} [النساء: 150 - 151].
وقد تكون تلك الأجزاء المتروكة ليست شرطًا في وجود الأجزاء الأخرى، ومن ذلك الأمثلة الكثيرة التي ذكرناها سابقًا، كالعلم والخير والدعاء (2).
التاسع: قد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق، ويجتمع فيه أيضًا بعض شعب الإيمان، وبعض شعب من الكفر، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها. . ".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"(3).
(1) مجموع الفتاوى (13/ 51).
(2)
شرح حديث جبريل (398).
(3)
المصدر نفسه (391).