الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غير الله إلا لمرض في قلبه، فإن رجلاً شكى إلى أحمد بن حنبل خوف من بعض الولاة، فقال: لو صححت لم تخف أحداً، أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك .. " (1).
وقد ذكرت طرفاً من شجاعة شيخ الإسلام عند الحديث عن جهاده ودعوته، ويذكر البزار قصته مع ملك مصر والشام السلطان الناصر حين أخبر الشيخ أنه سمع عنه أنه يعد العدة للإطاحة بملكه، فقال له بجنان راسخ، وصوت سمعه كثير من الحاضرين في المجلس:"أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك المغل لا يساوي عندي فلسين .. "(2).
وأختم الحديث بكلمة لتلميذه المقرب الحافظ ابن قيم الجوزية ملخصاً لحياة شيخه حيث يقول: "وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها .. "(3).
تاسعاً: وفاته:
{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30].
لقد آن لهذا الجسد المُعنَّى أن يستريح، وحان لذلك القائد أن يترجل، فلكل أجل كتاب، ولقد قضى الله عز وجل أن تنتهي تلك الحياة العامرة الطيبة لشيخ الإسلام الحافلة بالجهاد والدعوة والكفاح عند السَّحر
(1) المصدر السابق (34).
(2)
المصدر السابق (34).
(3)
الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 402).
من ليلة الإثنين يوم الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام سنة ثمان وعشرين وسبعمائة للهجرة.
وفي القلعة الدمشقية قضى شيخ الإسلام رحمه الله نحبه مسجوناً مظلوماً، وكان في جسه الأخير قد أقبل على تفسير كتاب الله، وقد ضيق عليه بآخره، وأخذوا منه الدواة والقلم، فكتب رحمه الله بالفحم أوراقاً لبعض أصحابه (1)، وفي السجن ختم القرآن مدة إقامته في القلعة ثمانين ختمة، وفي الختمة الإحدى والثمانين انتهى إلى قول الحق تعالى ناصر المظلومين، وقامع المتجبرين:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55} [القمر: 54، 55].
وكان قد مرض أياماً يسيرة، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه، ولم يفجأهم إلا موته، ولقد زلزلهم الحدث، واهتزت يومئذِ دمشق، فلئن كان شيخ الإسلام يهزها بالأمس بجهاده ودعوته، فهو اليوم يهزها بعد مماته، وتخرج دمشق التي أحبته بجميعها، برجالها وصغارها، بأمرائها وأعيانها، بأثريائها وفقرائها، تبكي على الشيخ وتتأسف عليه، وأغلقت الأسواق والحوانيت، وتجمع الخلق في حشد عظيم لم تعرف له مثيلاً في ذلك الزمان، وقد صلي عليه في القلعة، أولاً، ثم صلي عليه في جامع بني أمية الكبير عقب صلاة الظهر، ودفن ذلك اليوم، وقد صليت عليه صلاة الغائب في غالب أقطار الإسلام، في مصر والشام والعراق واليمن وغيرها، ولقد ذكر أنه صلي عليه صلاة الغائب حتى في الصين.
وجنازة شيخ الإسلام التي تسابقت إلى حملها الأفئدة قبل الأيدي، تذكر الناس بمقولة إمام أهل السنّة والجماعة، الإمام المبجل أبو عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه حين قال: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز (2).
(1) أورد ابن عبد الهادي في العقود الدرية جملة من مضمون هذه الأوراق التي كتبها شيخ الإسلام بالفحم (242 - 245).
(2)
كلمة الإمام أحمد رواها إمام الحفاظ في عصره أبو الحسن الدارقطني عن أبي سهل بن زياد القطان عن عبد الله بن أحمد عن أبيه، كما ذكر ذلك ابن عبد الهادي في العقود الدرية (249).
ولم تكن دمشق آنذاك كثيرة العدد مكتظة السكان، ولكن حسبها أنها أخرجت كل ما فيها، وكما قيل: الجود من الموجود، ولقد تراوحت تقديرات المؤرخين لأعداد الحاضرين بين الخمسين ألفاً وبين المائتي ألف.
وها هو شيخ الإسلام يرحل عن هذه الحياة الدنيا، ويغيب عنها ليجتمع مع خصومه بين يدي ملك الملوك الذي لا يظلم مثقال ذرة.
ولئن غيبت الأرض شيخ الإسلام، فإن علمه حاضر بين العالمين، وقد جعل الله له لسان صدق في الآخرين، وها هم أعداؤه قد غادروا أيضاً هذه الحياة، فهلكوا لا يدري عنهم أحد، وأما شيخ الإسلام فذكره الطيب على كل لسان، من أهل العلم المنصفين، وجماهير أهل السنّة الصالحين.
اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم اجعل ما قدمه في خدمة دينك وكتابك وأمتك في موازين حسناته، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم اجزه خير الجزاء، واجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
اللهم اكتب له بكل حرت كتبه حسنة وضاعفها، وتجاوز عن سيئاته في أصحاب الجنة.
اللهم عليك بمن خاصمه في الدين، وسعى لإطفاء نور السنّة، واستمات في نصر البدعة، وعليك اللهم بكل من نال منه من أعداء كتابك، وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم انفع الأمة بعلمه وكتبه ويسر لها من يخدمها ويقوم على نشرها، واجعلها قذى في أعين المبتدعين، وشوكة تغص بها قلوب الحاقدين.
واغفر لمن ساهم في ذلك، ولمن قام بتحقيق هذا الكتاب، ولمشايخه ووالديه والمسلمين أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
المبحث الثاني
دراسة تحليلية وتفصيلية
عن كتاب "الإيمان الأوسط"
لقد آثرنا خلال هذه الدراسة أن نقسمها إلى قسمين:
الأول: دراسة المسائل الأصلية.
الثاني: دراسة المسائل الفرعية.