الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة وجوب التفريق بين الحكم الظاهر والباطن
هذا أصل عظيم قد قرره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وقد وقع بسبب الجهل به، أو إغفاله خطأ كبير.
يقول رحمه الله: "فإن كثيراً ممن تكلم في مسائل الإيمان والكفر -لتكفير أهل الأهواء- لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن تدبر هذا علم أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمناً مخطئاً جاهلاً ضالًّا عن بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون منافقاً زنديقاً يظهر خلاف ما يبطن"(1).
ويزيد المصنف هذه المسألة توضيحاً فيقول: "وبيان هذا الموضع مما يزيل الشبهة، فإن كثيراً من الفقهاء يظن أن من قيل هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث لا يورث، ولا يناكح، حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام، مبطن للكفر، وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات، بل من لا يشكون في نفاقه، ومن نزل القرآن ببيان نفاقه -كابن أبي وأمثاله- ومع هذا فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت أتوهم ميراثه، وكانت تعصم دماؤهم حتى تقوم البينة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته"(2).
وهكذا استدل المصنف رحمه الله على وجوب التفريق بين الحكم الظاهر والحكم الباطن، بما سبق أن ذكره من أحكام المنافقين، ومعاملته صلى الله عليه وسلم لهم، فهم وإن كانوا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار بسبب كفرهم ونفاقهم، إلا إن دماءهم وأموالهم معصومة بما أظهروه من الإسلام.
(1) شرح حديث جبريل (304).
(2)
المصدر نفسه (568).
ويقول بعد ذلك: "وبالجملة فاصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان، كفر ظاهر، وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة، كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا، فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين"(1).
فيجب التفريق بين الأمرين عند الحكم على الناس، بين الحكم في الدنيا والحكم في الآخرة.
ويقول المصنف في موضع آخر: "فإن كثيراً من المتأخرين، ما بقي في المظهرين للإسلام عندهم إلا عدل أو فاسق، وأعرضوا عن حكم المنافقين، والمنافقون ما زالوا، ولا يزالون إلى يوم القيامة"(2).
ولذلك كان السلف رضوان الله عليهم يفرقون بين الحكم الظاهر والحكم الباطن، فقد روى الخلال بسنده عن وكيع عن سفيان الثوري قال:"الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، نرجوا أن يكونوا كذلك، ولا ندري ما حالنا عند الله"(3)، وذكر المصنف هذا الأثر في "الإيمان الكبير"(4).
ويقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: "ولأن شرائع الإسلام على الأفعال الظاهرة، وأما حقائق الإيمان الباطنة، فتلك عيها شرائع الثواب والعقاب، فلّله تعالى حكمان: حكم في الدنيا على الرائع الظاهرة وأعمال الجوارح، وحكم في الآخرة على الظواهر والبواطن، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانية المنافقين، ويكل أسرارهم إلى الله، فيناكحون، ويرثون ويورثون، ويعتد بصلاتهم في الدنيا، فلا يكون حكمهم حكم تارك الصلاة، إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة، وأحكام الثواب والعقاب، ليست إلى البشر، بل إلى الله، والله يتولاه في الدار الآخرة .. "(5).
(1) المصدر نفسه (576).
(2)
الإيمان (168).
(3)
السنة (567).
(4)
الإيمان (201).
(5)
مدارج السالكين (1/ 567).