الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنَّه لا يكون إيمانًا بمجرد ظن وهوى، بل لا بد في أصل الإيمان من قول القلب، وعمل القلب.
[لفظ النصارى ليس مرادفًا للفظ الإيمان في اللغة]
وليس لفظ الإيمان مرادفًا للفظ التصديق كما تظنه (1) طائفة من الناس، فإن التصديق يستعمل في كل خبر، فيقال لمن أخبر بالأمور المشهودة (2) مثل قوله (3): الواحد نصف الاثنين، والسماء فوق الأرض مجيبًا: صدقت، وصدقنا بذلك، ولا يقال: آمنا لك، ولا آمنا بهذا، حتَّى يكون المخبر به من الأمور الغائبة، فيقال للمخبر: آمنا له، وللمخبر به آمنا به، كما قال إخوة يوسف:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي بمقر لنا، ومصدق لنا، لأنهم أخبروه عن غائب.
ومن قوله تعالى: {قَالُوا (4) أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111].
وقوله تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61].
وقوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47].
وقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)} [الدخان: 21].
{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس: 83] أي: أقر له.
وذلك أن لفظ الإيمان [يفارق التصديق](5) لفظًا ومعنى، فإنه أيضًا يقال: صدقته، فيتعدى بنفسه إلى المصدق، ولا يقال: آمنته، إلَّا من الأمان الَّذي هو ضد الإخافة، بل يقال (6): آمنت له، وإذا ساغ أن يقال: ما أنت بمصدق لفلان، كما يقال: هل أنت مصدق له؛ لأن الفعل المتعدي بنفسه، إذا قدم مفعوله عليه، أو كان العامل اسم فاعل ونحوه، مما يضعف عن الفعل، فقد يعدونه باللام تقوية له كما يقال: عرفت هذا، وأنا به عارف، وضربت هذا، وأنا له ضارب، وسمعت هذا، ورأيته وأنا له سامع
(1) في (م) و (ط): "يظنه".
(2)
في (م) و (ط): "المشهورة".
(3)
كلمة "قوله" ليست في (م) و (ط).
(4)
كلمة "قالوا" ليست في (م) و (ط).
(5)
ما بين المعكوفتين ليس في نسخة الأصل، وهو في (م) و (ط)، غير أن في (ط) كلمة "أي" بعد كلمة "التصديق".
(6)
كلمة "يقال" ليست في (ط).
وراء، كذلك يقال: صدقته، وأنا له مصدق، ولا يقال: صدقت له به، وهذا خلاف آمن، فإنه [لا](1) يقال إذا أردت التصديق آمنته، كما يقال: أقررت له، ومنه قوله: آمنت له كما يقال: أقررت له، فهذا فرق في اللفظ.
والفرق الثاني: ما تقدم من أن الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار (2)، بل فى الإخبار عن الأمور الغائبة ونحوها، مما يدخلها الريب، فإذا أقر بها المستمع، قيل: آمن، بخلاف لفظ التصديق، فإنه عام متناول لجميع الأخبار (3)، وأما المعنى فإن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من قر يقر، وهو قريب من آمن يأمن، لكن الصادق يطمئن إلى خبره، والكاذب بخلاف ذلك، كما يقال للصدق (4) طمأنينة، والكذب ريبة، فالمؤمن داخل (5) في الأمن، كما أن المقر دخل في القرار (6)، ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين:
(أحدهما): الإخبار وهو من هذا الوجه، كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما، وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.
و(الثاني): إنشاء الالتزام كما في قوله تعالى: {قَالَ (7) أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي}](8)[آل عمران: 81] فهذا التزام (9) للإيمان، والنصر للرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك لفظ الإيمان، فيه إخبار
(1) ما بين المعكوفتين ليس في نسخة الأصل، وهو في (م) و (ط).
(2)
في (ط): "الإخبار".
(3)
في (ط): "الإخبار".
(4)
في (م) و (ط). "الصدق".
(5)
في (م) و (ط): "دخل".
(6)
في (ط): "الإقرار".
(7)
كلمة "قال" ليست في (م) و (ط).
(8)
ما بين المعكوفتين ليس في نسخة الأصل، وهو في (م) و (ط).
(9)
في (ط): "الالتزام".
وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر، لا يقال فيه: آمن له، بخلاف الخبر الَّذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر، والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له، وقد لا يتضمن إلَّا مجرد الطمأنينة [إلى صدقه](1) فإذا تضمن طاعة المستمع، لم يكن مؤمنًا للمخبر إلَّا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان، كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد، فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر، وكان من الكافرين.
وأيضًا فلفظ التصديق إنما يستعمل في جنس الأخبار (2)، وأن (3) التصديق إخبار بصدق المخبر، والتكذيب إخبار بكذب المخبر، فقد يصدق الرجل الكاذب تارة، والصادق أخرى (4)، فالتصديق والتكذيب نوعان من الخبر، وهما خبر عن الخبر.
فالحقائق الثابتة في نفسها، التي قد تعلم بدون خبر، لا يكاد يستعمل فيها لفظ التصديق والتكذيب إن لم يقدر مخبر عنها بخلاف الإيمان والإقرار والإنكار والجحود ونحو ذلك، فإنه يتناول الحقائق والإخبار عن الحقائق أيضًا.
وأيضًا [فالذوات](5) التي تحب تارة، وتبغض تارة، وتوالي تارة، وتعادي أخرى (6)، وتطاع (7) تارة، وتعصى أخرى، ويذل لها تارة، ويستكبر عنها أخرى، تختص هذه المعاني فيها بلفظ الإيمان والكفر ونحو ذلك.
وأما لفظ التصديق والصدق ونحو ذلك، فيتعلق بمتعلقها، كالحب
(1) في نسخة الأصل و (م): التي صدقه. وقد أثبتنا ما في (ط) لأنه الصواب.
(2)
في (ط): الإخبار.
(3)
في (ط): (فإن).
(4)
في (ط): العبارة هكذا بين معكوفتين [وقد يكذب الرجل] الصادق أخرى.
(5)
في نسخة الأصل: "والذوات".
(6)
في (ط): "وتوالي تارة وتعادي تارة".
(7)
في (ط): "وتطاوع".
والبغض، فيقال: حب صادق، وبغض صادق، فكما أن الصدق والكذب في إثبات الحقائق ونفيها، متعلق بالخبر المنافي (1) والمثبت دون الحقيقة ابتداء، فكذلك في الحب والبغض ونحو ذلك، يتعلق بالحب والبغض دون الحقيقة ابتداء، بخلاف لفظ الإيمان والكفر، فإنه يتناول الذوات بلا واسطة [إقرارًا](2)، أو [إنكارًا](3)، أو حبًا، أو بغضًا، أو طمأنينة، أو نفورًا (4).
ويشهد [لهذا](5) الدعاء المأثور المشهور عند استلام الحجر: (اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم)(6).
فقال: إيمانًا بك ولم يقل تصديقًا بك كما قال: تصديقًا بكتابك.
وقال تعالى عن مريم: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12] فجعل التصديق بالكلمات والكتب.
ومنه الحديث الَّذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تكفل الله لمن خرج في سبيل الله (7)، لا يخرجه إلَّا إيمان بي، وتصديق كلماتي (8) " ويروي:
(1) في (ط): "النافي".
(2)
في نسخة الأصل و (ط): إقرار، وأثبتنا ما في (م) لأنه أقرب إلى الصواب.
(3)
في نسخة الأصل و (ط): "إنكار"، وأثبتنا ما في (م) لأنه أقرب إلى الصواب.
(4)
في (ط): "أو حب"، "أو بغض"، "أو طمأنينة" أو نفور".
(5)
في نسخة الأصل و (م): لها، وأثبتنا ما في (ط) لأنه أقرب.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 105) وعبد الرزاق برقم (8898) والطيالسي ص 25، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 230) عن ابن عمر وقال: لا يتابع عليه، والطبراني في المعجم الأوسط (1/ 303) والبيهقي في سننه الكبري (5/ 79)، وابن عدي في الكامل (6/ 246)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 135)، وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 247): وروى البيهقي والطبراني في الأوسط الدعاء من حديث ابن عمر. . . سنده صحيح"، والحديث عن علي رضي الله عنه في أكثر الروايات، ويشعر كلام الحافظ إلى أن الرواية عن علي رواية ضعيفة.
(7)
في (ط): "في سبيله"، وقد وردت الروايات بذلك، وبما أثبتناه في المتن.
(8)
في (م) و (ط): "بكلماتي" وقد وردت الروايات بذلك، وربما أثبتناه أيضًا في المتن، ووردت بعض الروايات بلفظ:"كلمات الله".
"إيمان بي وتصديق برسلي" ويروي: "لا يخرجه إلا جهاد في سبيل الله، وتصديق كلماته"(1).
ففي جميع الألفاظ جعل لفظ التصديق بالكلمات والرسل، وكذلك قوله في الحديث الَّذي في الصحيح، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم منازل عالية في الجنّة، فقيل له: يا رسول الله، تلك منازل لا يبلغها إلَّا الأنبياء، فقال:"بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين"(2).
وما [يحصى](3) الآن [الاستعمال المعروف](4) في كلام السلف، صدقت بالله، أو فلان يصدق بالله، أو صدق بالله، ونحو ذلك، كما جاء فلان يؤمن بالله، وآمن بالله إيمانًا (5) بالله، ونؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ونؤمن بالله وحده، ونحو ذلك، فإن القرآن والحديث، وكلام الخاصة والعامة، مملوء من لفظ الإيمان بالله، وآمن بالله، ويؤمن بالله، فآمنوا بالله (6)، ويا أيها الذين آمنوا، وما أعلم قيل التصديق بالله، [أو](7) أن (8) صدقوا بالله و (9) يا أيها النبي صدق بالله (10)، ونحو ذلك، اللهم إلَّا
(1) هذه الألفاظ كلها وردت في الصحيحين والسنن، والحديث رواه البخاري برقم (36) كتاب الإيمان باب الجهاد من الإيمان، ومسلم برقم (1876) 3/ 1494 كتاب الإمارة باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، والنسائي برقم (3122) كتاب الجهاد، وابن ماجة برقم (2753) كتاب الجهاد، ومالك برقم (974) كتاب الجهاد، والدارمي برقم (2391) كتاب الجهاد، وأحمد برقم (8757).
(2)
رواه البخاري برقم (3256) كتاب بدء الخلق باب ما جاء في صفة الجنّة وأنها مخلوقة، ومسلم برقم (2831) 4/ 2177 كتاب الجنّة وصفة نعيمها باب ترائي أهل الجنّة أهل الغرف، كما يرى الكوكب في السماء.
(3)
في نسخة الأصل: "يخصون" وفي (م): "يحصون"، وأثبتنا ما في (ط): لأنه الأولى.
(4)
في نسخة الأصل و (م): "استعمال معروف"، وأثبتنا ما في (ط) لأنه الأولى.
(5)
في نسخة الأصل: "أمانًا"، والتصحيح من (م) و (ط).
(6)
العبارتان: (يؤمن بالله، فآمنوا بالله) ليست في (ط).
(7)
ما بين المعكوفتين ليس في نسخة الأصل، وهي في (م) و (ط).
(8)
كلمة (أن) ليست في (ط).
(9)
في (م) و (ط): "أو".
(10)
العبارة في (م) و (ط): "يا أيها الَّذي صدق بالله".
أن [يكون](1) في ذلك [شيء](2) لا يحضرني الساعة وما أظنه (3).
ولفظ الإيمان يستعمل في الخبر أيضًا كما يقال: {كُلُّ آمَنَ بِاللهِ} أي: أقر له، والرسول يؤمن له من جهة أنَّه مخبر، ويؤمن به من جهة أن رسالته مما أخبر بها، كما يؤمن بالله وملائكته وكتبه.
فالإيمان متضمن للإقرار للرسول والإقرار (4) بما أخبر به، والكفر تارة يكون بالنظر إلى عدم تصديق الرسول والإيمان به، وهو من هذا الباب يشترك فيه كل ما أخبر به، وتارة بالنظر إلى عدم الإقرار بما أخبر به، والأصل في ذلك هو الإخبار بالله وبأسمائه، ولهذا كان جحد ما يتعلق بهذا الباب أعظم من جحد غيره، وإن كان الرسول أخبر [بكليهما](5)، ثم مجرد تصديقه في الخبر والعلم بثبوت ما أخبر به، إذا لم يكن معه طاعة لأمره، لا باطنًا، ولا ظاهرًا، ولا محبة لله، ولا تعظيم له، لم يكن ذلك إيمانًا.
وكفر إبليس وفرعون واليهود ونحوهم، لم يكن أصله من جهة عدم التصديق والعلم، فإن إبليس لم يخبره أحد بخبر، بل أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين، فكفره بالإباء والاستكبار وما يتبع ذلك، لا لأجل تكذيب.
(1) في نسخة الأصل: تكون، وأثبتنا ما في (م) و (ط) لأنه أقرب إلى الصواب.
(2)
في نسخة الأصل: "شيئًا"، والتصحيح من (م) و (ط).
(3)
هذا الكلام يدل على أمرين اثنين: (الأول): سعة علم المؤلف رحمه الله تعالى، وتبحره في جميع العلوم سواء علوم غاية كالعلوم الشرعية بفروعها المتشعبة، أو علوم وسائل كعلوم اللغة بفنونها المختلفة، وليس هذا غريبًا على شيخ الإسلام ابن تيمية الَّذي كان يتحدى المخالفين ويفحمهم، بل يتعمق في مذاهبهم ويفهم، أدلتهم أكثر من كثيرين منهم.
(الثاني): تواضعه رحمة الله عليه، فهو يستثني بعد أن نفى وجود مثل هذه الألفاظ (صدقوا بالله. . .)، وتلك هي سيما العلماء الربانيين: التواضع، ومقت العجب، والحذر من الغرور، ومع ذلك فثقة شيخ الإسلام بعلمه وأنه على الحق تبقى ظاهرة، ويتضح هذا من قوله:"وما أظنه".
(4)
عبارة (للرسول والإقرار) ليست في (م) و (ط).
(5)
في نسخة الأصل: كلاهما، والتصحيح من (م) و (ط).
وكذلك فرعون وقومه جحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا، وقال له موسى:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الإسراء: 102]، فالذي يقال هنا أحد أمرين:
إما أن يقال: الاستكبار والإباء والحسد ونحو ذلك، مما كفر (1) به مستلزم لعدم العلم والتصديق الَّذي هو الإيمان، وإلا فمن كان علمه وتصديقه تامًا، أوجب استسلامه وطاعته مع القدرة، كما أن الإرادة الجازمة تستلزم وجود المراد مع القدرة، فعلم أن المراد إذا لم يوجد مع القدرة، دل على أن (2) ما في القلب همة ولا إرادة، فكذلك إذا لم يوجد موجب التصديق والعلم، من حب القلب وانقياده، دل على أن الحاصل في القلب ليس بتصديق ولا علم، بل هناك (3) شبهة وريب، كما يقول ذلك طوائف من الناس، وهو أصل قول جهم والصالحي والأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه كالقاضي أبي بكر ومن اتبعه، ممن يجعل الأعمال الباطنة والظاهرة [من](4) موجبات الإيمان، لا من نفسه، ويجعل ما ينتفي الإيمان بانتفائه من لوازم التصديق، لا يتصور عنده تصديق باطن مع كفر قط.
أو أن يقال (5): قد يحصل في القلب علم بالحق وتصديق به، ولكن مما (6) في القلب من الحسد والكبر ونحو ذلك، مانع من استسلام القلب وانقياده ومحبته، وليس هذا كالإرادة مع العمل، لأن الإرادة مع القدرة مستلزمة للمراد، وليس العلم بالحق والتصديق به مع القدرة على العمل بموجب ذلك العمل، بل لا بد مع ذلك من إرادة الحق والحب له.
فإذا قال القائل: القدرة التامة [بدون](7) الإرادة الجازمة مستلزمة
(1) في (ط): "الكفر".
(2)
في (م) و (ط): "أنَّه".
(3)
في (ط): "هنا".
(4)
هذه الإضافة من (ط).
(5)
هذا هو الأمر الثاني مما رد به المؤلف على مرجئة الجهمية الذين لا يتصورون أصلًا وجود الكفر مع التصديق والعلم.
(6)
في (م) و (ط): "ما".
(7)
في نسخة الأصل: من، وأثبتنا ما في (م) و (ط) لأنه أقرب إلى الصواب.
لوجود المراد المقدور، [موجبة](1) لحصول المقدور، لم يكن مصيبًا، بل لا بد من الإرادة، وبهذا [يتبين] (2) خطأ من قال: إن مجرد علم الله عز وجل قد بالمخلوقات موجب لوجودها، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الفلسلفة، كما يغلط الناس من يقول: إن مجرد إرادة الممكنات بدون القدرة موجب وجودها، وكما خطأوا من قال: إن مجرد القدرة كافية، بل لا بد من العلم والقدرة والإرادة في وجود المقدور والمراد، والإرادة مستلزمة لتصور المراد والعلم به، والعلم والإرادة (3) والقدرة ونحو ذلك، وإن كان قد يقال: إنها متلازمة في الحي، أو أن الحياة مستلزمة لهذه الصفات، أو أن بعض الصفات مشروط بالبعض، فلا ريب أنَّه ليس كل معلوم مرادًا محبوبًا ولا مقدورًا، ولا كل مقدور مرادًا محبوبًا، وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الشيء معلومًا مصدقًا به، أن يكون محبوبًا معبودًا، بل لا بد من العلم وأمر آخر به يكون هذا محبًا وهذا محبوبًا.
فقول من جعل مجرد العلم والتصديق في العبد هو الإيمان، وأنه موجب لأعمال القلب، فإذا انتفت دل على انتفاء العلم، بمنزلة من يقول: مجرد علم الله بنظام العالم موجب لوجوده، بدون وجود إرادة منه، وهو [شبيه] (4) بقول المتفلسفة: إن سعادة النفس في [مجرد](5) أن تعلم الحقائق، ولم يقرنوا ذلك بحب الله تعالى وعبادته التي لا تتم السعادة إلا به (6)، وهو نظير من يقول: كمال الجسم أو النفس في الحس (7) من غير
(1) في نسخة الأصل و (م): موجب، وأثبتنا ما في (ط) لأنه الأولى بسياق الكلام.
(2)
في نسخة الأصل: يبين، وأثبتنا ما في (م) و (ط) لأنه أقرب.
(3)
في (م) سقطت العبارة التالية: "في وجود المقدور والمراد، والإزادة مستلزمة لتصور المراد والعلم به والعلم والإرادة".
(4)
في نسخة الأصل: "شبه"، وأثبتنا ما في (م) و (ط) لأنه أقرب.
(5)
في نسخة الأصل: "تجرد"، وأثبتنا ما في (م) و (ط) لأنه أقرب.
(6)
في (ط): بها، وكلا الأمرين صحيح، فما أثبتناه في المتن يعود الضمير المذكر فيه إلى حب الله تعالى، وما ورد في (ط) يعود الضمير المؤنث فيه إلى عبادته سبحانه وتعالى، على أن هذه اللفظة "إلَّا بها" قد سقطت من (م).
(7)
في (ط): "الحب".
اقتران الحركة الإرادية به (1)، يقول: اللذة في مجرد الإدراك والشعور، وهذا غلط باتفاق العقلاء، بل لا بد من إدراك الملائم، والملائمة لا تكون إلَّا بمحبة بين المدرِك والمدرَك، وتلك المحبة والموافقة والملائمة ليست نفس إدراكه والشعور به.
وقد قال كثير من الناس من الفلاسفة والأطباء ومن اتبعهم: إن اللذة إدراك الملائم، وهذا تقصير منهم، بل اللذة حال يعقب إدراك الملائم، كالإنسان الَّذي يحب الحلو ويشتهيه، فيدركه بالذوق والأكل، فليست اللذة مجرد ذوقه، بل أمر يجد من نفسه يحصل مع الذوق، فلا بد أولًا من أمرين، وآخرًا من أمرين، لا بد أولًا من شعور بالمحبوب ومحبة له، فما لا شعور به لا يتصور أن يشتهي، وما يشعر به وليس في النفس محبة له لا يشتهى، ثم إذا حصل إدراكه بالمحبوب نفسه، حصل عقيب ذلك اللذة والفرح مع ذلك.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المأثور: "اللهم إني أسالك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة"(2).
وفي الحديث الصحيح: "إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، نادى مناد: يا أهل الجنّة! إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويئقل موازيننا، ويدخلنا الجنّة، ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه"(3) رواه مسلم وغيره.
(1) في (م) و (ط): ومن، وبهذه اللفظة يعد هذا قولًا جديدًا يذكره المؤلف، وبدونها يحد هذا القول تفسيرًا للقول الَّذي قبله.
(2)
رواه النسائي برقم (1305) كتاب السهو؛ وأحمد برقم (17861)، والحاكم برقم في المستدرك (1/ 524)، وصححه ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وكذا صححه الألباني في كتابه صحيح النسائي (1/ 280).
(3)
رواه مسلم بنحوه برقم (181) 1/ 163 كتاب الإيمان باب إثبات رؤية المؤمنين =
فاللذة مقرونة بالنظر إليه، ولا أحب إليهم من النظر إليه لما يقترن بذلك من اللذة، لا أن نفس النظر هو اللذة.
وفي الجملة فلا بد في الإيمان الَّذي في القلب من تصديق بالله ورسوله، وحب لله (1) ورسوله، والا فمجرد التصديق مع البغض لله ورسوله، ومعاداة الله ورسوله، ليس إيمانًا باتفاق المسلمين، وليس مجرد التصديق والعلم يستلزم الحب، إلَّا إذا كان القلب سليمًا من المعارض، كالحد والكبر، لأن النفس مفطورة على حب الحق، وهو الَّذي يلائمها، ولا شيء أحب إلى القلوب السليمة من الله، وهذا هو الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام الَّذي اتخذه الله خليلًا.
وقد قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88، 89]، فليس مجرد العلم [موجبًا لحب](2) المعلوم، إن لم يكن في النفس قوة أخرى تلائم المعلوم، وهذه القوة موجودة في النفس، وكل من القوتين تقوى بالأخرى، فالعلم يقوى بالعمل، والعمل يقوى بالعلم، فمن عرف الله وقلبه سليم أحبه، وكلما ازداد له معرفة ازداد حبه له، وكلما ازداد حبه له ازداد ذكره له، ومعرفته بأسمائه وصفاته، فإن قوة الحب توجب كثرة ذكر المحبوب، كما أن البغض يوجب الإعراض عن ذكر المبغض، فمن عادى الله ورسله (3)، وحاد الله ورسوله، كان ذلك مقتضيًا [لإعراضه](4) عن ذكر الله ورسوله بالخير، وعن ذكر ما يوجب المحبة [فيضعف](5) علمه به حتَّى قد ينساه، كما قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]
= في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، والترمذي برقم (2552) كتاب صفة الجنة، وابن ماجة برقم (187) المقدمة: وأحمد برقم (18456).
(1)
في (ط): "الله".
(2)
في نسخة الأصل: "موجب الحب"، والتصحيح من (م) و (ط).
(3)
في (ط): "رسوله".
(4)
في نسخة الأصل: "لأغراضه"، التصحيح من (م) و (ط).
(5)
في نسخة الأصل: "يضعف"، والتصحيح من (م) و (ط).