الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يطالعه، ونُقِّبَت واختُبرَت واعتُبرت فلم يوجد فيها بحمد الله خلل ولا تغير، ومن جملتها كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول) وهذا من الفضل الذي خصه الله تعالى به .. " (1).
رابعًا: دعوته وجهاده:
إن شيخ الإسلام ليعلم علم اليقين أن ثمرة العلم هو العمل، والعلماء هم ورثة الأنبياء في تطبيق العلم بالعمل وتعليم الناس ذلك عن طريق القدوة الحية في حياتهم، وما لم يكن العالم عاملًا بعلمه داعيًا إلى الله عز وجل، فما فائدة العلم إذن؟ .
لقد أدرك شيخ الإسلام رحمه الله هذه الحقيقة تمام الإدراك، ولذا كانت حياته كلها صفحات مشرقة بالدعوة والتعليم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى قبضه الله إليه.
فهو يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وربما خرج مع أصحابه إلى أهل المنكرات، من مروجي أم الخبائث، وكسَّروا أواني الخمور، وقاموا بتعزير جماعة منهم، وفرح الناس بذلك (2).
"ولقد أقام الفضيلة والأخلاق عندما صار رجل دمشق، وحاكمها غير المتوج، عندما فر حكامها في سنة (699 هـ) وأصبح إنكار المنكر حقًا عليه بالفعل لا بالقول والقلب، إذ صار مبسوط اليد والسلطان فيها، فحطموا أوانى الخمر، وشقوا قربها، وأراقوا الخمور، وعزروا أصحاب الحانات المتخذة للفواحش، فلقي ذلك من العامة ترحابًا، إذ رأوا حكم القرآن ينفذ، وعهد الرسول يعود .. "(3).
ولم يفت في عضده تآلب الحسدة والفسدة عليه، والوشاية به وشكايته عند السلطان، بسبب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، بل ظل على حاله غير آبه بمعاداتهم وتألبهم عليه (4).
(1) الأعلام العلية (10).
(2)
البداية والنهاية (14/ 12).
(3)
ابن تيمية للشيخ محمد أبو زهرة (41).
(4)
البداية والنهاية (14/ 20).
وها هو يحارب البدعة، ويناجز المبتدعين في دين الله عز وجل، ويعمل جهده لإقامة السنة، ونشرها بين الناس، فقد أنكر رحمه الله بعض الصلوات المبتدعة التي كان يجتمع عليها بعض الناس (1).
وحين يتعلق الناس بأثر مبتدع، لا يقر له قرار حتى يغدو عليه وأصحابه، فينسفوه نسفًا، ومن ذلك صخرة كانت بنهر تزار وينذر لها، فأمر الحجارين بقطعها، وزال الشرك من هناك بزوالها (2).
أما المبتدعة فهو رحمه الله يقيم عليهم الحجة أولًا، فإن أبوا الانصياع، وأصروا على المضي في طريق الابتداع، نابذهم وزجرهم وقهرهم بقوة الحق والسنّة.
فمن ذلك إحضاره لشيخ مبتدع فتان، يدعى المجاهد إبراهيم القطان، وأمره بحلق رأسه، وتقليم أظفاره -وكانت طويلة جدًا- وحف شاربه، واستتابه من أكل الحشيشة، ومن قول الفحش.
وبعده استحضر المدعو بالشيخ محمد الخباز البلاسي، واستتابه من أكل المحرمات ومخالطة أهل الذمة، وكتب عليه مكتوبًا أن لا يتكلم في تعبير المنامات ولا في غيرها بما لا علم له به (3).
وأما إنكاره على المتصوفة فأمر أشهر من التفصيل فيه، فقد كبت متقدميهم وانتقدهم بالتأليف والتصنيف، وأما متصوفة عصره فقد لاقوا منه مقاومة عنيفة عصفت بهم في كثير من الأحيان، ومن ذلك إنكاره على دجاجلة البطائجة أو الأحمدية، الذين كانوا يتعاطون من الأحوال الشيطانية ما يحسبه الجهال والمعتقدون فيهم أنه من كرامات الصالحين، وبشارات المتقين، ففضح أسرارهم، وهتك أستارهم، وأظهر الله السنة على يديه، وأخمد بدعتهم، وأبطل فتنتهم (4).
(1) المصدر السابق (14/ 43).
(2)
المصدر السابق (14/ 36).
(3)
المصدر السابق (14/ 36).
(4)
مجموع الفتاوى (11/ 445 - 475)، البداية والنهاية (14/ 38)، العقود الدرية (131).
ومع ذلك فالعصر قد غلبت عليه الصوفية، ولقد سعى أربابها جاهدين في الإيقاع بشيخ الإسلام، ورأوا أنه أكبر عدو لهم، وأنه ما لم يتخلص منه، فلن تقوم لهم بعد اليوم قائمة، وقد تحقق لهم في إحدى المرات ما أرادوا، وأدخل الشيخ السجن بسببهم، فلبث فيه قدر سنتين (1).
والعالم الرباني كالغيث متى وقع بأرض نفع، وهكذا كان شيخ الإسلام، ولم يكن لتضعف عزيمته في السجن، أو نفل إرادته، ولم يكن ليتخلى عن دعوته حتى وهو بين المجرمين وغيرهم من أصناف المحبوسين.
يقول تلميذه ابن عبد الهادي رحمه الله: "ولما دخل الحبس وجد المحابيس مشتغلين بأنواع من اللعب، يلتهون بها عما هم فيه، كالشطرنج والنرد، ونحو ذلك من تضييع الصلوات، فأنكر الشيخ عليهم ذلك أشد الإنكار، وأمرهم بملازمة الصلاة، والتوجه إلى الله بالأعمال الصالحة، والتسبيح، والاستغفار، والدعاء، وعلمهم من السنّة ما يحتاجون إليه، ورغبهم في أعمال الخير، وحضهم على ذلك، حتى صار الحبس بما فيه من الاشتغال بالعلم والدين خيرًا من الزوايا والربط والخوانق والمدارس، وصار خلق من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده، وكثر المترددون إليه، حتى كان السجن يمتلئ منهم .. "(2).
أما الروافض والنصيرية فقد ذهب شيخ الإسلام إلى عقر دارهم في جماعة من أصحابه، واستتابوا خلقًا منهم، وألزموهم بشرائع الإسلام.
وحين نكثوا ما التزموا به، خرج شيخ الإسلام مع جيش المسلمين بقيادة نائب السلطان لغزوهم وقتالهم، فأنزل الله النصر عليهم، ومنحهم أكتاف عدوهم، وأبادوا منهم خلقًا كثيرًا، وقاتل شيخ الإسلام في تلك الغزاة بنفسه (3).
(1) البداية والنهاية (14/ 47)، العقود الدرية (176).
(2)
العقود الدرية (178).
(3)
البداية والنهاية (14/ 37)، وكانت الواقعة الأولى سنة (704 هـ)، والواقعة الثانية سنة (705 هـ).
وأما دعوته وجهاده مع النصارى فإن واقعة عساف النصراني الذي سب النبي صلى الله عليه وسلم، خير شاهد ودليل، ولئن أوذي شيخ الإسلام رحمه الله بسبب تلك الواقعة، فلقد أسفرت عن تأليف سفره العظيم:"الصارم المسلول على شاتم الرسول"(1).
وقد شارك رحمه الله في فتح "عكا" واستنقاذها من أيدي الصليبيين، "وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أمورًا من الشجاعة يعجز الواصف عن وصفها، قالوا: ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها، بفعله ومشورته وحسن نظره .. "(2).
ولم تقف دعوة شيخ الإسلام عند حدود المخالفين من المنتسبين إلى المسلمين، بل كان لأصحاب الديانات الأخرى نصيب لا بأس به من دعوته، ومن ذلك إرساله كتابًا إلى ملك قبرص النصراني يدعوه فيه إلى الإسلام، ويبين فيه أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد، ويذكر له تلبيسات القساوسة، وابتداعات الرهبان، ويناقشهم تفصيلات في دينهم، كإدخال الألحان في صلواتهم، وقد كان خطاب شيخ الإسلام لملك قبرص فياضًا باللين والسماحة والحكمة والموعظة الحسنة، فهو يبتدي خطابه للملك بقوله: "من أحمد بن تيمية إلى سرجوان عظيم أهل ملته، ومن تحوط به عنايته من رؤساء الدين، وعظماء القسيسين .. سلام على من اتبع الهدى .. وإنما نبه الداعي لعظيم ملته وأهله، لما بلغني ما عنده من الديانة والفضل، ومحبة أهل العلم وطلب المذاكرة
…
ونحن نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة .. وأنا ما غرضي الساعة إلا مخاطبتكم بالتي هي أحسن، والمعاونة على النظر في العلم، واتباع الحق،
(1) المصدر السابق (14/ 355)، والجدير بالذكر أن شيخ الإسلام ضرب وسجن بسبب هذه الواقعة، ولكنه بعد ذلك أطلق وأكرم، وأما عساف هذا فقد لقي ختفه مقتولًا على يد ابن أخيه، وما ربك بظلام للعبيد.
(2)
الأعلام العلية (32)، وقد كان فتح عكا سنة (690 هـ)، وقد كان عمر شيخ الإسلام وقتها لا يتجاوز الثلاثين.
وفعل ما يجب .. وأصل ذلك أن تستعين بالله، وتسأله الهداية، وتقول: اللهم أرني الحق حقًا، وأعني على اتباعه، وأرني الباطل باطلًا، وأعني على اجتنابه .. والكتاب لا يحتمل البسط أكثر من هذا، لكن أنا ما أريد للملك إلا ما ينفعه في الدنيا والآخرة .. وأبو العباس (وهو أحد أسارى المسلمين) حامل هذا الكتاب، قد بث محاسن الملك وإخوته عندنا، واستعطف قلوبنا إليه، فلذلك كاتبت الملك لما بلغتني رغبته في الخير، وميله إلى العلم والدين، وأنا من نواب المسيح وسائر الأنبياء في مناصحة الملك وأصحابه .. والله المسئول أن يعين الملك على مصلحته التي هي عند الله المصلحة، وأن يخير له من الأقوال ما هو خير له عند الله، ويختم له بخاتمة خير، والحمد لله رب العالمين .. ".
ولم ينس شيخ الإسلام أن يذكر ملك القبارصة النصارى أنه سعى عند التتار في فك جميع الأسرى من أهل الملة، ومن أهل الذمة من اليهود والنصارى، وأن ليس جزاء الإحسان إلا الإحسان، وأن على الملك ومن معه إطلاق أسرى المسلمين.
على أن شيخ الإسلام -وهو الداعي الحكيم- تأخذه العزة لله، والحرقة على مصاب أسرى المسلمين في قبرص، فيلجأ أحيانًا إلى لهجة التهديد، ونبرة الوعيد، وإن كان يحاول مزجها بشيء من الاعتذار، فهو يقول مثلًا: "فيا أيها الملك! ! كف تستحل سفك الدماء، وسبي الحريم، وأخذ الأموال بغير حجة من الله، ورسله، ثم أما يعلم الملك أن بديارنا من النصارى أهل الذمة والأمن ما لا يحصي عددهم إلا الله، ومعاملتنا فيهم معروفة، فكيف يعاملون أسرى المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ودين؟ لست أقول عن الملك وأهل بيته ولا إخوته، فإن أبا العباس شاكر للملك ولأهل بيته كثيرًا .. أفتأمنون مع هذا أن يقابلكم المسلمون ببعض هذا، وتكونون مغدورين؟ والله ناصرهم ومعينهم، لا سيما في هذه الأوقات، والأمة قد امتدت للجهاد، واستعدت للجلاد، ورغب الصالحون وأولياء الرحمن في طاعته، وقد تولى الثغور الساحلية أمراء ذوو
بأس شديد .. ثم عبد المسلمين من الرجال الفداوية (1) الذين يغتالون الملوك في فرشها، وعلى أفراسها .. وأما ما عندنا في أمر النصارى، وما يفعل الله بهم من إدالة المسلمين عليهم، وتسليطه عليهم، فهذا مما لا أخبر به الملك، لئلا يضيق صدره " (2).
وحين لاحظ شيخ الإسلام ازديادًا في النشاط التنصيري في عصره، ورأى أن بعض علمائهم قاموا يسيحون في الأرض لنشر ديانتهم، والتشكيك في دين الإسلام، ونشر الشبهات حوله، بادر رحمه الله إلى تأليف كتابه العظيم "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" الذي قوض به معالم النصرانية، وأطاح يه بعبادة الصليب، وأبان بجلاء ما احتوت عليه هذه الديانة من أكاذيب وأباطيل وخرافات، وأن المسيح عليه السلام بريء منها، وأنها مخالفة لدين الأنبياء جميعًا (3).
(1) لعلهم يقابلون الفدائين في عصرنا الحاضر.
(2)
مجموع الفتاوى (28/ 601 - 630)، وتسمى هذه الرسالة بالقبرصية، وقد أطلت النقل بعض الشيء، لإعطاء بعض الضوء على عالمية الدعوة الإسلامية التي فهمها شيخ الإسلام، وعمل بمقتضاها.
(3)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 19)، حيث ذكر رحمه الله أنه ورد كتاب من قبرص فيه الاحتجاج لدين النصارى، وهو عبارة عن رسالة لأحد كبرائهم وهو أسقف صيدا بولس الراهب، الذي أكثر من التسيار لمناقشة الناس، ودعوتهم إلى النصرانية.
ويرى الباحث القدير الأستاذ الدكتور علي بن عودة الغامدي أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة أم القرى أن سبب إرسال ملك قبرص لهذه الرسالة إلى المسلمين في بلاد الشام هو الراهب الفرنسيسكاني ريموند لول (نسبة إلى منظمة الرهبان الفرنسيسكان إحدى المنظمات التنصيرية التي انبثقت منها حركة التنصير الأوربية، التي هدفت إلى تحويل العالم الإسلامى إلى النصرانية) وكان ريموند لول هذا قد وصل إلى قبرص سنة (699) للهجرة، وطلب من ملكها الصليبي هنري الثاني دي لوزجنان أن يساعده في مهمة تنصير المسلمين، ويقول في ذلك: "ويبدو أن ملك قبرص أطلع لول على رسالة شيخ الإسلام، وكان ريموند لول -حينذاك- يجمع مادة كتابه، فرد ريموند لول على رسالة شيخ الإسلام بأن بعث إليه بكتاب قديم ألفه أحد علماء الكنيسة الشرقية، ويدعى بولس الراهب أسقف صيدا الإنطاكي المتوفى سنة (154 هـ)، وقد أشار شيخ الإسلام إلى هذا الكتاب =
وأما جهاده للتتار فهو الحلقة الأكثر بروزًا في صفحات جهاده المديدة، ولقد ظلت مأساة سقوط بغداد عام (656 هـ) على أيدي التتار صدمة عنيفة محفورة في ذاكرة كثير من المسلمين، ومع كسر شوكة التتار في موقعة عين جالوت سنة (658 هـ)، وانحسار موج التتار العاتي، إلا إن بعض فلولهم استطاعت من جديد أن توحد صفوفها، وبدأت بمحاولة لإعادة سلطان التتار الهمجي الذي يقوم على سفك الدماء، وإزهاق الأنفس، والسعي في إزالة دين الإسلام، بالتعاون مع أعداء المسلمين من يهود ونصارى وروافض ونصيريين.
وقد قام التتار في أواخر القرن السابع الهجري وأوائل القرن الثامن الهجري بعدة حملات على بلاد الشام -مع إسلام بعض أسلافهم، وادعائهم أنهم مسلمون- وروعوا الآمنين، ونهبوا الأموال، وسبوا النساء، وكانت وقعة قازان (ملك التتر) سنة (699 هـ) هزيمة مروعة للمسلمين.
وفي خضم هذه الأحداث العظام، والأمور الجسام كان شيخ الإسلام بلا منازع قائد الأمة في الملمات، ومرشدها إذا اشتدت الأزمات، ولم يكن شيخ الإسلام ليهن أو يحزن وهو يعلم أن المؤمنين هم الأعلون دومًا، حتى وإن وقعت الهزيمة، وتمزفت الجموع.
فها هو يخرج في جماعة من العلماء والأعيان إلى قازان المنتصر لتلقيه، ويكون هو المتكلم الرسمي للوفد، والمفاوض باسمه، وشيخ الإسلام كشأن العلماء الربانيين في كل زمان ومكان لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو وأمثاله رحمهم الله المعنيون بقول الحق في محكم الترتيل: {الَّذِينَ
= الذي بعث به ريموند لول من قبرص، إلا أنه لم يصرح باسم المرسل .. " من بحث له بعنوان: الراهب الفرنسيسكاني ريموند لول، ومحاولاته نشر النصرانية في شمال إفريقية في مجلة المؤرخ العربي (135، 150) العدد السادس، المجلد الأول، مارس 1998 م.
وللدكتور علي بن عودة مشروع ضخم يعكف عليه هذه الأيام، لدراسة النشاط التنصيرى في العصور الوسطى، وربط ذلك بالتنصير في العصر الحديث، قال الله له التوفيق والنجاح.
يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)} [الأحزاب: 39].
وأخذ الشيخ في الكلام مع الخان الأعظم، وارتفع صوته، ووعظه وشدد عليه، واقترب منه وجثا على ركبتيه، وكان مما قاله للملك:"أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاضٍ وإمام وشيخ ومأذون -على ما بلغنا- فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين، وما عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت وجرت .. ".
وقد أنزل الله المحبة والهيبة للشيخ في قلب الخان قازان، وأعجب به أيما إعجاب، وسأل عن الشيخ، ولما عرف أن موطنه حران، عرض عليه أن يعمرها وأن يعتني بها، وأن ينقله أميرًا عليها، فبادر شيخ الإسلام إلى القول:"لا والله، لا أرغب عن مهاجر إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأستبدل به غيره .. ".
وصدق الله القائل: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص: 83].
وقد خرج من عنده معززًا مكرمًا، قد حقن الله به دماء المسلمين، وكبت به قلوب الحاسدين (1).
ولكن التتار ما زالوا على أبواب دمشق المحروسة، وقد أسلمت قيادها لهم، وخطب لقازان على منابر الفيحاء نحوًا من مائة يوم (2)، والمرجفون في المدينة لم ينتهوا عن نشر الفتنة والأراجيف بين الناس، وماجت الإشاعات أن التتار يوشكون على الهجوم، فزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وكثرت الظنون، وزلزل الناس هنالك زلزالًا شديدًا.
وفي تلك الأيام المعصية التي يضن كل شجاع فيها بنفسه، خرج شيخ الإسلام إلى معسكر التتار خارج دمشق، وكلم أحد أمراء التتار، واستنقذ مه عددًا كثيرًا من المسلمين (3).
(1) الأعلام الحلية (33)، البداية والنهاية (14/ 8).
(2)
البداية والنهاية (12/ 14).
(3)
المصدر السابق (14/ 12).
بل إن شيخ الإسلام يرسل إلى المتولي على قلعة دمشق ينهاه أشد النهي عن تسليمها للتتار ويقول له: لو لم يبق فيها إلا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت، وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشام (1).
وقبل أن يلفظ القرن السابع الهجري أنفاسه، و "وردت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر، فانزعج الناس لذلك، وازدادوا ضعفًا على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب .. "(2).
وما كان شيخ الإسلام ليدع دمشق حاضرة الإسلام يفر الناس منها، وعز عليه أن يرى الخور والذل وحب الدنيا وكراهية الموت في سبيل الله يسيطر على كثير من الناس.
فقام رحمه الله وجلس في الجامع، وحرض الناس على القتال، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في الجهاد بالفى والحال؛ وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيرًا ونصرًا بإذن الله، وفي هذا المجلس أوجب جهاد التتار حتمًا، وتتابعت دروس الشيخ وخطبه التي كان يوقظ بها جموع الأمة من سكرة الحياة الدنيا، ويسوقهم إلى دار القرار بالجهاد في سبيل الله، ويذكرهم أن الفرار الحقيقي هو في الآخرة من نار تلظى.
وكان من بركة تلك المجالس الإيمانية العامرة صدور مرسوم سلطاني بمنع السفر إلا بورقة وإذن (3).
وكان رحمه الله يدور على الأسوار كل ليلة يحرض الناس على الجهاد والقتال، ويأمرهم بالصبر، ويذكر لهم فضل الشهادة في سبيل الله (4).
ولئن كان شيخ الإسلام رحمه الله يطوف ين الجماهير داعيًا إلى الجهاد،
(1) المصدر نفسه (14/ 9).
(2)
المصدر نفسه (14/ 15) وكان ذلك في المحرم من سنة (700) هـ.
(3)
المصدر السابق (14/ 16).
(4)
المصدر نفسه (14/ 12).
فلقد كان لحكام المسلمين وأمرائهم من دعوته المجال الرحب، فها هو يسافر إلى مصر حيث مقر السلطان، ويحثه على المسير إلى الشام لمناجزة التتار، والذب عن حياض المسلمين، وكان مما قاله للحكام هناك:"إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه ويستغله زمن الأمن .. ولو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، واستنصركم أهله، وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم .. "(1).
ولقد توجت تلك الجهود الكبيرة التي بذلها شيخ الإسلام في جهاد التتار، بالمنقبة الحميدة والمأثرة الجليلة التي تجلت في معركة "شقحب" وكانت الكثرة في العدد والعدة تميل لصالح كفة التتار الجائرة أصلًا، واعتقد الناس أنه لا طاقة لجيش المسلمين بهذه الجيوش المتكاثرة من التتار، ولكن شيخ الإسلام يؤمن أن النصر لعباده المؤمنين، وأنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين، وبلغ التوكل واليقين بنصر الله وفضله وكرمه أن قام شيخ الإسلام يطوف بين صفوف المقاتلين من المجاهدين حالفا مؤكدًا أن النصر في هذه الكرة للمسلمين، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله! ! فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، ويفتي الشيخ الناس بالفطر في رمضان للتقوي على مجاهدة أتباع قازان، وحين تردد بعض الناس في قتالهم لدعواهم الإسلام، بين رحمه الله أن هؤلاء من جنس الخوارج المارقين الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وقد تحقق ما وعد به الشيخ، وما انفك يحلف به، وأنزل الله النصر على المسلمين، فأوقعوا بالتتار يقتلون فريقًا، ويأسرون فريقًا، وكانت معركة مهولة ذكرت المسلمين بموقعة عين جالوت، ولم تكد تقم للتتار بعدها قائمة، وقاتل فيها شيخ الإسلام قتالًا عجيبًا، وكان الناس في
(1) المصدر السابق (14/ 17).
(2)
المصدر السابق (14/ 25).