الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعها رؤوسهم، وهذه طريقة الملاحدة أيضاً إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة، وكتب الأدب واللغة
…
وإذا تدبرت حججهم وجدت دعاوى لا يقوم عليها دليل
…
" (1).
يذكر شيخ الإسلام أن أصل مقالة الفرق المخالفة في الإيمان -سواء كان القائلون بأن الأعمال من الإيمان، أو الذين ينفونها من الإيمان- يقوم على شبهتين:
الشبهة الأولى:
اعتقادهم أن الإيمان كل لا يتجزأ، إما أن يوجد كله، وإما أن يذهب كله.
يقول رحمه الله عن هذه الشبهة: "أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذ ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه"(2).
الشبهة الثانية:
أنه لا يجتمع في الإنسان كفر وإيمان.
ويقول المصنف رحمه الله: "ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في هذا، اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين"(3)"وادعوا أن هذا خلاف الإجماع"(4).
فاعتبار الإيمان حقيقة واحدة، لا يتجزأ، ولا يتبعض، ولا يزول منه جزء، ويبقى منه جزء، إما أن يوجد كله، أو يذهب كله، كان هو الشبهة الأولى والأصل الفاسد الكبير الذي شيدت عليه أقوال أهل البدع في الإيمان.
وكذلك القول بأنه لا يجتمع في العبد إيمان وبعض من الكفر، واعتبار هذا الأصل الفاسد، أصلاً مجمعاً عليه بين المسلمين، مع أن الصحيح هو أن إجماع سلف الأمة بخلافه.
فالخوارج والمعتزلة -الذين يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان- قد
(1) الإيمان (98).
(2)
شرح حديث جبريل (383).
(3)
الإيمان (316).
(4)
شرح حديث جبريل (385).
بنوا مذهبهم في تصور حقيقة الإيمان، وفي حكم مرتكب الكبيرة في ضوء هاتين الشبهتين الفاسدتين.
وطوائف المرجئة من مرجئة الفقهاء وجهمية وكرامية وأشعرية وماتريدية -وهم متفقون على إخراج الأعمال من مسمى الإيمان- قد أقاموا مذاهبهم في الإيمان على هاتين الشبهتين الفاسدتين أيضاً.
يقول المصنف رحمه الله: "ثم قالت الخوارج والمعتزلة: الطاعات كلها من الإيمان، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان، فذهب سائره، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان.
وقالت المرجئة والجهمية: ليس الإيمان إلا شيئاً واحداً، لا يتبعض، إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية، أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة، قالوا: لأنا إذا أدخلنا يه الأعمال صارت جزءاً منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول المعتزلة والخوارج" (1)، فلهذا عمدوا إلى إخراج الأعمال من الإيمان.
ويقول أيضاً في موضع آخر: "وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله، لم يبق منه شيء.
ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق كما قاله أهل الحديث، قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء فيخلد في النار.
وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئاً من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه يبق منه شيء، يكون شيئاً واحداً يستوي فيه البر والفاجر .. " (2).
وعلى هذا فنقول:
إن الخوارج والمعتزلة خالفوا أهل السُّنّة والجماعة في الاسم
(1) المصدر نفسه (384).
(2)
الإيمان (176).
والحكم، فنزعوا عن صاحب الكبيرة اسم المؤمن، وكفرته الخوارج، وجعلته المعتزلة في منزلة دين المنزلتين.
أما في الحكم فقد حكمت عليه كلا الطائفتين -كما سبق- بالخلود في النار.
وأما المرجئة فقد خالفوا أهل السنَّة والجماعة في الاسم لا في الحكم، حيث يجعلون المرء مؤمناً ولو لم يعمل شيئاً قط، فهم قد نازعوا في اسم الإيمان، ومن يستحقه.
أما في الحكم فقد أجازوا أن يعذب أهل الكبائر، غير أن شيخ الإسلام رحمه الله يذكر أن هناك فرقتين من المرجئة نازعوا في ذلك، وهما:
فرقة الواقفة التي توقفت في أهل الكبائر، وقالوا: لا نعلم أن أحداً منهم يدخل النار.
وفرقة الغلاة الذين يجزمون أن النار لا يدخلها أحد منهم (1).
أما الكرامية فيخالفون في الاسم لا في الحكم، فهم وإن سموا المنافقين مؤمنين، فإنهم يقولون إنهم مخلدون في النار.
وأما الجهمية فقد خالفوا أهل السنَّة والجماعة في الاسم والحكم جميعاً (2).
ويلخص المصنف رحمه الله ذلك بقوله: "وقول المعتزلة والخوارج والكرامية في اسم الإيمان والإسلام أقرب إلى قول السلف من قول الجهمية، لكن المعتزلة والخوارج يقولون بتخليد العصاة، وهذا أبعد، عن قول السلف من كل قول، فهم أقرب في الاسم وأبعد في الحكم، والجهمية وإن كانوا في قولهم: بأن الفساق لا يخلدون أقرب في الحكم إلى السلف، فقولهم في مسمى الإسلام والإيمان وحقيقتهما أبعد من كل قول عن الكتاب والسنّة .. "(3).
(1) شرح حديث جبريل (361)، ويذكر رحمه الله أن هذا القول لا يعرف له قائلاً.
(2)
المصدر نفسه (441).
(3)
الإيمان (129).
وقد فهم علماء السلف الصالح رضوان الله عليهم شبهات المخالفين في الإيمان من قبل، وعرفوا أصولهم الفاسدة، وعلموا أن الإيمان عندهم شيء واحد، لا أكثر، لا يتجزأ، إما أن يذهب كله، وإما أن يبقى كله.
ومن أجل ذلك فقد كانت مناظراتهم مع المرجئة -على سبيل المثال- تنصب محطمة هذه الأصول الفاسدة، وكاشفة لهذه الشبهات الباطلة.
يذكر المصنف رحمه الله أن الإمام أحمد قد بعث بجواب إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني في خرسان يتضمن ردوداً على المرجئة، ومن هذه الردود:
"وأما من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقاً بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار، فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقراً ومصدقاً بما عرف، فهو من ثلاثة أشياء، وإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد قال قولاً عظيماً ولا أحسب أحداً يدفع المعرفة والتصديق، وكذلك العمل مع هذه الأشياء"(1).
كما ينقل عن الإمام أبي ثور رحمه الله قوله في رده على المرجئة: "فأما الطائفة التي ذهبت إلى أن العمل ليس من الإيمان، فيقال لهم: ماذا أراد الله من العباد إذ قال لهم: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، الإقرار بذلك أو الإقرار والعمل؟ فإن قالت: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل، فقد كفرت، وإن قالت: أراد منهم الإقرار والعمل، قيل: فإذا كان أراد منهم الأمرين جميعاً، لم زعمتم أنه يكون مؤمناً بأحدهما دون الآخر، وقد أرادهما جميعاً؟ أرأيتم لو أن رجلًا قال: أعمل جميع ما أمر به الله ولا أقر به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإن قال أقر بجميع ما أمر الله به، ولا أعمل به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل: ما الفرق؟ فقد زعمتم
(1) ذكرها المصنف رحمه الله في كتاب "الإيمان"(307)، وذكر أن الخلال رواها في كتاب "السنة"، ولم أجدها في المطبوع منه.