الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم أين التواتر الموجود عن العرب أنهم كانوا لا يعرفون للإيمان معنى غير التصديق؟ فإن دون ذلك خرط القتاد.
ثم إن هؤلاء لم يذكروا شاهدًا من كلام العرب على أن الإيمان في اللغة هو التصديق بالإجماع، ولم يذكروا إلا كلامًا -هو حجة عليهم وليس لهم-كقولهم: فلان يؤمن بالشفاعة، ويؤمن بالجنة والنار، ويؤمن بعذاب القبر.
وليس معنى ذلك هو التصديق المجرد بهذه الغيبيات، بل المقصود أنه يؤمن بالجنة ويرجوها، ويؤمن بالنار ويخافها، أما من صدق بها، ولم يخف أو يرجو، فلا يسمى مؤمنًا بها (1).
الرد التفصيلي
على من قال: إن الإيمان هو التصديق:
تقوم ردود شيخ الإسلام في غالبها، على الإحاطة بفهم حجج الخصوم، واستقصاء أدلهم، وهو في أكثر الأحيان يستخدم الأدلة الإلزامية التي تلزم الخصوم، وتضعهم في أضيق المواقف، ويقوم رد شيخ الإسلام في القضية التي نحن بصددها على مقامين، المقام الأول يقوم على إبطال أن الإيمان في اللغة هو التصديق، ويعتمد هذا المقام على عدة فروق في اللفظ والمعنى، وأما المقام الثاني فيقوم على أننا لو سلمنا جدلاً، أن الإيمان في اللغة هو التصديق، فلا حجة فيه لمن جعله في الشرع كذلك، والآن نأتي إلى التفصيل:
المقام الأول: إبطال القول بأن الإيمان هو التصديق:
يذهب شيخ الإسلام إلى أن الإيمان يفارق التصديق في اللفظ والمعنى، ونأتي الآن إلى توضيح ذلك:
أولًا: الفرق بين الإيمان والتصديق في اللفظ يكون من ناحيتين:
الأولى: فإنك تقول لمن أخبرك بخبر: صدقته، فيتعدى الفعل بنفسه
(1) المصدر السابق (102).
إلى المصدق، ولا يقال: آمنته، إلا من الأمان الذي هو ضد الإخافة، بل تقول: آمنت له.
ويقال لمن أخبر رجل بأمر: صدقه، ولا يقال: آمنه، بل يقال: آمن له.
فلا يقال قط: آمنته، أو آمنه، كما لا يقال: صدقت له، أو صدق له.
فهذا فرق في اللفظ (1) حيث يتعدى الفعل بنفسه بالنسبة إلى التصديق بخلاف الفعل في الإيمان.
الثانية: أن التصديق يستعمل في كل خبر، فيقال لمن أخبر بالأمور المشهودة، مثل: الواحد نصف الإثنين، والسماء فوق الأرض: صدقت، وصدقنا بذلك، ولا يقال له: آمنا لك، ولا آمنا بهذا، لأن هذه الأخبار من الأمور المشهودة.
أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الإخبار عن الأمور الغائبة، كما قال تعالى على لسان إخوة يوسف:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي: بمقر لنا، ومصدق لنا، لأنهم أخبروه عن أمر غائب.
ومن ذلك قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} ، وقوله تعالى:{يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله تعالى:{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} أي: أقر له (2).
ثانيًا: الفرق بين الإيمان والتصديق في المعنى:
فإن الإيمان مأخوذ من الأمن، الذي هو الطمأنينة، كما أن الإقرار مأخوذ من القرار، وهو قريب من آمن يأمن، فالمؤمن دخل في الأمن، كما أن المقر دخل في الإقرار، ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، وهو على معنيين:
أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه شبيه بلفظ التصديق، والشهادة، وهذا هو معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتبهم باسم كتاب الإقرار.
(1) شرح حديث جبريل (413).
(2)
المصدر السابق (413).
الثاني: إنشاء الالتزام، كما في قوله تعالى:{أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، ولفظ الإقرار هنا ليس بمعنى الخبر المجرد، وإنما معناه إنشاء الالتزام بالإيمان بالرسول، والتعهد بنصرته، لأن الله عز وجل قال في أول الآية الكريمة:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} (1).
فتبين أن لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، مثل لفظ الإقرار، بخلاف لفظ التصديق المجرد، وهذا الفرق الأول في المعنى.
ومن الفروق في المعنى: ما ذكره شيخ الإسلام من أن لفظ التصديق إنما يستعمل في جنس الإخبار، فهو إخبار بصدق الخبر، كما أن التكذيب إخبار بكذب المخبر، والتصديق والتكذيب نوعان من الخبر، وهما خبر عن الخبر.
وأما لفظ الإيمان فإنه يستعمل في الحقائق، وفي الإخبار عن الحقائق، فالحقائق الثابتة في نفسها التي قد تعلم بدون خبر، لا يكاد يستعمل فيها لفظ التصديق والتكذيب، بخلاف لفظ الإيمان، وهذا الفرق الثاني في المعنى (2).
ومن الفروق أيضًا: أن الذوات التي تحب تارة وتبغض أخرى، وتوالي تارة وتعادي أخرى، تختص بلفظ الإيمان، وأما لفظ التصديق فيستعمل في متعلقات هذه الذوات من الحب والبغض، والموالاة والمعاداة، وغير ذلك، فيقال: حب صادق، وبغض صادق.
ويدل على ذلك الدعاء المشهور عند استلام الحجر الأسود: "اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعًا لسنّة نبيك".
فقد قال: إيمانًا بك، ولم يقل تصديقًا بك، كما قال: تصديقًا
(1) المصدر السابق (414).
(2)
المصدر نفسه (415).
بكتابك، وقال تعالى عن مريم:{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} فجعل التصديق بالكلمات والكتب.
فإنه يقال: الإيمان بالله، وآمن بالله، ونؤمن بالله، ويا أيها الذين آمنوا، فآمنوا بالله، ولا يقال: التصديق بالله، أو صدقوا بالله، أو يا أيها الذي صدق بالله، وهذا فرق ثالث في المعنى (1).
ومن الفروق الهامة أيضًا: أن لفظ الإيمان يقابله لفظ الكفر، وأما لفظ التصديق فيقابله لفظ التكذيب، لأن الكفر ليس محصورًا في التكذيب فقط، فوجب أن يكون ما يقابله -وهو الإيمان- ليس محصورًا في التصديق، وهذا فرق رابع في المعنى (2).
المقام الثاني: مع التسليم بأن الإيمان هو التصديق:
ومع صحة القول بأن الإيمان هو التصديق، فالكلام لا يخرج -كما ذكر شيخ الإسلام- عن أمرين اثنين:
الأول: أن التصديق ليس بالقلب فقط، بل بالقول والعمل أيضًا، كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:"والفرج يصدق ذلك أو يكذبه".
وكما قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "ليس الإيمان بالتمنى، ولا بالتحلي، ولكنه ما وقر في المصدر، وصدقه العمل"(3).
الثاني: أن الإيمان -وإن كان هو التصديق- فهو تصديق مخصوص، كالصلاة -وهي في اللغة الدعاء- إلا أنها في لغة الشارع دعاء وعمل مخصوص (4).
ويقول شيخ الإسلام رحمه الله موضحًا: "أنه لو فرض أن الإيمان في اللغة التصديق، فمعلوم أن الإيمان ليس هو التصديق بكل شيء، بل بشيء مخصوص، وهو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ فيكون الإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة"(5).
(1) المصدر السابق (417).
(2)
الإيمان (229).
(3)
المصدر نفسه (230).
(4)
المصدر نفسه (232).
(5)
المصدر نفسه (105).
وعلى هذا فالإيمان كالصلاة، له أصل في لغة العرب، ولكن الشارع أضاف إليه أمورًا، وجعله بالقلب واللسان والجوارح.
وما دام أننا لم نكتف بمعرفة الصلاة في اللغة حتى ذهبنا لننظر معناها في الشرع، فكذلك الحال في الإيمان.
وحين نترك المعنى اللغوي للإيمان، ونرى معناه في القرآن، نجد أن الإيمان -كما يقول شيخ الإسلام- ورد فيه مقيدًا، أو مطلقًا مفسرًا، ولم يرد في القرآن أبدًا ذكر إيمان مطلق غير مفسر (1).
ومثال المقيد قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، وقوله تعالى:{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس: 83].
فقد قيد الإيمان في الآية الأولى بالغيب، وقيد في الآية الثانية بموسى عليه السلام.
ومثال المطلق المفسر: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، وقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15].
"وكل إيمان مطلق في القرآن فقد بين فيه أنه لا يكون الرجل مؤمنًا إلا بالعمل مع التصديق، فقد بين في القرآن أن الإيمان لا بد فيه من عمل مع التصديق، كما ذكر مثل ذلك في اسم الصلاة والزكاة والصيام والحج"(2).
وعلى العموم فإننا إذا سلمنا أن الإيمان في اللغة هو التصديق، فليس
(1) وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام يحمل على الغالب، وإلا فقد وردت آيات قليلة، ذكر فيها الإيمان مطلقًا، والسياق يوضح المراد من الإيمان، ومن هذه الآيات قول الله تعالى:{وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة: 253]، فهنا أطلق الإيمان، لم يقيد أو يفسر بشيء.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 110].
(2)
الإيمان (105).
ذلك دليلًا على أنه في الشرع كذلك -كما ذهب إلى ذلك الأشاعرة والماتريدية- فلئن كان الإيمان في اللغة هو التصديق، فهو تصديق مخصوص كما سبق، أو أن الشارع أضاف إليه أمورًا هي أعمال القلب واللسان والجوارح، فصارت هذه الأمور المجتمعة هي الإيمان الشرعي.
وفي ذلك يقول الحافظ ابن جرير الطبري رحمه الله بعد أن ذكر مذاهب الناس في الإيمان: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن الإيمان اسم للتصديق كما قالته العرب، وجاء به كتاب الله تعالى ذكره خبرًا عن إخوة يوسف من قبلهم لأبيهم يعقوب: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} بمعنى: ما أنت بمصدق لنا على قيلنا، غير أن المعنى الذي يستحق به اسم المؤمن بالإطلاق هو الجامع لمعاني الإيمان، وذلك أداء جميع فرائض الله تعالى ذكره، من معرفة وقول وعمل"(1).
وقد ذكر الإمام ابن منده كلامًا قريبًا من ذلك وملخصه: أن الإيمان في اللغة هو التصديق، ولكنه في الشرع ما أمر الله به من اعتقاد وقول وعمل (2).
والخلاصة: أنه من خلال ما سبق يظهر أن القول بأن الإيمان في اللغة هو التصديق قد يكون له أصل، ولكن الذي يترجح -والله أعلم- أن حصر معنى الإيمان في اللغة بالتصديق محل نظر، خصوصًا وقد ورد له عدة معانٍ أخرى في اللغة، ومناقشات المصنف رحمه الله تدل على هذا (3).
(1) التبصير في معالم الدين (190).
(2)
الإيمان (2/ 347).
(3)
يقول رحمه الله في مجموع الفتاوى (7/ 636): "ولفظ الإيمان: قيل: أصله التصديق -وليس مطابقًا له، لا بد أن يكون تصديقًا عن غيب، وإلا فالخبر عن مشهود ليس تصديقه إيمانًا لأنه من الأمن الذى هو الطمأنينة، وهذا إنما يكون في المخبر الذى قد يقع به ريب؛ والمشهودات لا ريب فيها- فإما تصديق القلب فقط، كما تقول الجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية، وإما القلب واللسان كما تقوله المرجئة، أو باللسان كما تقوله الكرامية، وإما التصديق بالقلب والقول والعمل -فإن الجميع يدخل في مسمى التصديق على مذهب أهل الحديث. . - وقيل: بل هو الإقرار، لأن التصديق إنما يطابق الخبر فقط، وأما الإقرار فيطابق الخبر =