الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَبِعْتُمْ فَقُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَشْبَعَنَا وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا فَأَفْضَلُ، فَإِنَّ هَذَا كَفَافٌ بِهَذَا» .
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: ثُمَّ النَّعِيمُ هَلْ هُوَ عَامٌّ، أَوْ خَاصٌّ قَوْلَانِ: الظَّاهِرُ الْعُمُومُ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هُوَ الصَّحِيحُ فَالْكَافِرُ يُسْأَلُ تَوْبِيخًا، وَالْمُؤْمِنُ عَنْ الشُّكْرِ. قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: سُؤَالُ تَعْدَادِ النِّعَمِ وَإِعْلَامٍ بِالِامْتِنَانِ بِهَا لَا سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَمُحَاسَبَةٍ.
(الرَّابِعُ) : قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: مَنْ تَفَكَّرَ فِي أَقَلِّ نِعْمَةٍ عَلِمَ أَنَّ شُكْرَهَا لَا يَسْتَوْعِبُهَا قَالَ: وَلَوْ ذَكَرْنَا نِعْمَةً وَاحِدَةً لَمَا أَحَطْنَا بِحَوَاشِيهَا. .
مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ سَبَبَ بَقَاءِ الْآدَمِيِّ الْقُوتُ
وَلَكِنْ اُنْظُرْ إلَى أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى جَعَلَ سَبَبَ بَقَاءِ الْآدَمِيِّ الْقُوتَ فَمِنْ النِّعْمَةِ: الْمُتَنَاوَلُ، وَالْمُتَبَادَلُ، فَأَمَّا الْمُتَنَاوَلُ فَالْحَبُّ مَثَلًا، فَلَوْ أَنَّك تَنَاوَلْت الْمَوْجُودَ فَنِيَ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ نَاشِئًا بِالزَّرْعِ، فَإِذَا بَذَرَهُ الْحُرَّاثُ افْتَقَرُوا إلَى الْمِيرَةِ وَتَنْقِيَةِ الْأَرْضِ مِنْ الْحَشِيشِ وَجَعَلَ فِي الزَّرْعِ قُوَّةً يَجْتَذِبُ بِهَا الْغِذَاءَ إلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ وَعُرُوقِهِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يَجْتَذِبُ ذَلِكَ فِي الْعُرُوقِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَظْهَرُ غَلِيظَةَ الْأُصُولِ فِي الْوَرَقَةِ، ثُمَّ يُسْتَدَقُّ إلَى عُرُوقٍ شِعْرِيَّةٍ تَنْبَسِطُ فِي جَمِيعِ الْوَرَقَةِ، وَكَمَا أَنَّك تَغْتَذِي بِطَعَامٍ مَخْصُوصٍ إذْ الْخَشَبُ لَا يُغَذِّيَك، فَكَذَلِكَ النَّبَاتُ يَفْتَقِرُ إلَى الْمَاءِ، وَالْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ، وَالْحَرَارَةِ.
فَانْظُرْ كَيْفَ سَخَّرَ لَهُ الْغُيُومَ وَبَعَثَ الرِّيَاحَ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ وَسَخَّرَ حَرَارَةَ الشَّمْسِ، فَلَمَّا افْتَقَرَتْ الْأَغْذِيَةُ إلَى رُطُوبَةٍ خَلَقَ الْقَمَرَ فَهُوَ يُنْضِجُ الْفَوَاكِهَ وَيَصْبُغُهَا فَإِذَا تَكَامَلَ الْبَذْرُ افْتَقَرَ إلَى الْحَصَادِ، وَالْفَرْكِ وَالتَّنْقِيَةِ وَالطَّحْنِ، وَالْعَجْنِ، وَالْخَبْزِ، وَلَوْ تَأَمَّلْت مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَطَالَ؛ لِأَنَّك إذَا نَظَرْت فِي آلَاتِ الْحِرَاثِ رَأَيْتهَا مُحْتَاجَةً إلَى نَجَّارٍ وَحَدَّادٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَا يَسْتَدِيرُ رَغِيفٌ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمَلَكِ الَّذِي يَسُوقُ السَّحَابَ إلَى أَنْ تَأْكُلَهُ.
مَطْلَبٌ: لَا يَسْتَدِيرُ الرَّغِيفُ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَانِعًا
وَفِي الْإِحْيَاءِ لِلْغَزَالِيِّ لَا يَسْتَدِيرُ الرَّغِيفُ وَيُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْك حَتَّى يَعْمَلَ
فِيهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَانِعًا أَوَّلُهُمْ مِيكَائِيلُ عليه السلام، وَهُوَ الَّذِي يَكِيلُ الْمَاءَ مِنْ خَزَائِنِ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَزْجُرُ السَّحَابَ وَالشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ، وَالْأَفْلَاكَ وَدَوَابَّ الْأَرْضِ، وَآخِرُ ذَلِكَ الْخَبَّازُ انْتَهَى.
وَلَمَّا تَمَّ ذَلِكَ جَعَلَ لَك مَيْلًا إلَيْهِ وَشَوْقًا فِي الطَّبْعِ؛ لِأَنَّك لَوْ رَأَيْته وَلَمْ يَكُنْ لَك إلَيْهِ شَوْقٌ لَمْ تَطْلُبْهُ فَجَعَلَ شَهْوَتَك لَهُ كَالْمُتَقَاضِي، فَإِذَا أَخَذْت مِقْدَارَ الْحَاجَةِ سَكَنَتْ تِلْكَ الشَّهْوَةُ، وَكَذَلِكَ شَهْوَةُ الْوِقَاعِ لِيَبْقَى النَّسْلُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَلَدِك فَيُلْقِي الْحِرْصَ فِي قُلُوبِ التُّجَّارِ فَيَنْقُلُونَهُ إلَيْك، فَإِذَا تَنَاوَلْت الطَّعَامَ أَلْقَيْته فِي دِهْلِيزِ الْفَمِ وَبِذَلِكَ لَا يَتَهَيَّأُ ابْتِلَاعُهُ فَخَلَقَ الْأَسْنَانَ تَقْطَعُهُ، وَالْأَضْرَاسَ تَطْحَنُهُ وَجَعَلَ الرَّحَى الْأَسْفَلَ يَدُورُ دُونَ الْأَعْلَى لِئَلَّا يُخَاطِرَ بِالْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ وَلَسْت تَرَى رَحَى قَطُّ يَدُورُ أَسْفَلَهَا.
وَلَمَّا كَانَ الْمَطْحُونُ يَفْتَقِرُ إلَى تَقْلِيبٍ لِيُطْحَنَ بِهِ مَا لَمْ يُطْحَنْ خَلَقَ اللِّسَانَ لِيُقَلِّبَهُ، ثُمَّ لَا سَبِيلَ إلَى، بَلْعِهِ إلَّا أَنْ يُزْلَقَ بِنَوْعِ رُطُوبَةٍ، فَانْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ تَحْتَ اللِّسَانِ عَيْنًا يَفِيضُ اللُّعَابُ مِنْهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَيَعْجِنُ بِهَا الطَّعَامَ، أَلَا تَرَاهَا إذَا دَنَا مِنْك الطَّعَامُ تَنْهَضُ لِلْخِدْمَةِ فَتَتَحَلَّبُ، ثُمَّ هَيَّأَ الْمَرِيءَ، وَالْحَنْجَرَةَ لِبَلْعِهِ، فَيَهْوَى فِي دِهْلِيزِ الْمَرِيءِ إلَى الْمَعِدَةِ، فَيُطْبَخُ هُنَاكَ وَيَصِيرُ مَائِعًا، ثُمَّ تَصْبُغُهُ الْكَبِدُ بِلَوْنِ الدَّمِ، وَتُنْضِجُهُ فَيَنْبَعِثُ إلَى الْأَعْضَاءِ فِي الْعُرُوقِ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَتَبْقَى فَضْلَتَانِ إحْدَاهُمَا شَبِيهٌ بِالدُّرْدِيِّ، وَالْعَكِرِ، وَهُوَ الْخَلْطُ السَّوْدَاوِيُّ، وَالْأُخْرَى شَبِيهٌ بِالرَّغْوَةِ، وَهِيَ الصَّفْرَاءُ فَيَبْقَى الدَّمُ صَافِيًا، وَإِنَّمَا يَثْقُلُ الشُّكْرُ أَوْ تُقَالُ لَفْظَةُ " الْحَمْدُ لِلَّهِ " عَلَى سَبِيلِ الْغَفْلَةِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ بِالْمُنْعِمِ وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِمِقْدَارِ النِّعْمَةِ وَيَدُلُّك عَلَى الْجَهْلِ أَنَّك لَوْ حُبِسْت فِي حَمَّامٍ فَخَرَجْت إلَى الْهَوَاءِ الْبَارِدِ وَجَدْت لَذَّةً لَمْ تَجِدْهَا وَذَلِكَ النَّفَسُ هُوَ الدَّائِمُ غَيْرَ أَنَّ الضِّدَّ عَرَّفَك قَدْرَهُ. وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ، ثُمَّ قَالَ:
فَيَا غَافِلًا عَنْ النِّعَمِ زَاحَمْت فِي الْغَفْلَةِ النَّعَمَ مَا تَعْرِفُ مِنْ الطَّعَامِ إلَّا الْأَكْلَ وَلَا مِنْ الْمَاءِ إلَّا الشُّرْبَ. وَتَتَكَاسَلُ فِي لَفْظِ الْحَمْدِ، ثُمَّ تُنْفِقُ النِّعَمَ فِي مَعَاصِي الْمُنْعِمِ. يَا عَدِيمَ الْعَقْلِ وَلَيْسَ بِمَجْنُونٍ. يَا رَاقِدًا فِي غَفْلَتِهِ وَلَيْسَ بِنَائِمٍ، يَا مَيِّتًا فِي حَيَاتِهِ وَلَيْسَ بِمَقْبُورٍ افْتَحْ بَصَرَ الْبَصِيرَةِ تَرَ الْعَجَائِبَ، وَإِنْ تَرَقَّيْت بِفَهْمِك عَلِمْت أَنَّ مَا بَيْنَ يَدَيْك أَعْجَبُ.
وَإِنَّمَا هِيَ الدَّارُ كَالْمَكْتَبِ يَخْرُجُ مِنْهُ الصِّبْيَانُ بَيْنَ حَاذِقٍ وَبَيْنَ غَافِلٍ وَمُتَعَلِّمٍ.