الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا بِأَيْدِينَا مِنْ أَمْلَاكِهِمْ، وَأَنَّا سَلَبْنَاهُمْ مِلْكَهُمْ وَدَوْلَتَهُمْ فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَيْفَ يُؤْمَنُ عَلَى بَدَنٍ، أَوْ غَيْرِهِ؟ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ مُنَبِّهًا بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ بَابِ أَوْلَى (لِ) أَجْلِ (إحْرَازٍ) أَيْ حِفْظِ (مَالٍ) مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ (أَوْ) أَيْ وَمَكْرُوهٌ اسْتِئْمَانُنَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ (لِ) أَجْلِ (قِسْمَتِهِ) أَيْ الْمَالِ (اشْهَدْ) بِذَلِكَ وَاعْتَقِدْهُ وَإِيَّاكَ، وَالْعُدُولَ عَنْهُ.
مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ اسْتِخْدَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ
.
قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ مُسْلِمٌ بِذِمِّيٍّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ كِتَابَةٍ وَعِمَالَةٍ وَجِبَايَةِ خَرَاجٍ وَقِسْمَةِ فَيْءٍ وَغَنِيمَةٍ وَحِفْظِ ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةٍ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلَا يَكُونُ بَوَّابًا وَلَا جَلَّادًا وَنَحْوَهُمَا. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قُلْت لِعُمَرَ رضي الله عنهما: إنَّ لِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا قَالَ: مَالَكَ قَاتَلَك اللَّهُ، أَمَا سَمِعْت اللَّهَ سبحانه وتعالى يَقُولُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] أَلَا اتَّخَذْت حَنِيفًا؟ قَالَ: قُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِي كِتَابَتُهُ وَلَهُ دِينُهُ قَالَ: لَا أُكْرِمُهُمْ إذْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ وَلَا أُدْنِيهِمْ إذْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: فَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ أَنْ يَجْعَلُوا فِي دَوَاوِينِ الْمُسْلِمِينَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا انْتَهَى.
وَلِأَنَّ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ مَا لَا يَخْفَى، وَهُوَ مَا يَلْزَمُ عَادَةً أَوْ يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ تَصْدِيرِهِمْ فِي الْمَجَالِسِ، وَالْقِيَامِ لَهُمْ وَجُلُوسِهِمْ وَوُقُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَابْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ مَعَ تَذَلُّلِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ أَيْدِيهمْ وَخُضُوعِهِمْ لَدَيْهِمْ وَالتَّمَلُّقِ وَإِظْهَارِ الْحُبِّ، وَالْإِعْزَازِ لَهُمْ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهِمْ لِكَوْنِ الدِّيوَانِ فِي أَيْدِيهِمْ.
وَذَكَرَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ فِي كِتَابِهِ دُرَرِ الْآدَابِ وَمَحَاسِنِ ذَوِي الْأَلْبَابِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى جَمِيعِ عُمَّالِهِ فِي الْآفَاقِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ عُمَرَ يُقْرِئُ عَلَيْكُمْ السَّلَامَ وَيَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْمُبِينِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] الْآيَةَ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ مَنْ هَلَكَ قَبْلَكُمْ إلَّا بِمَنْعِهِ الْحَقَّ وَبَسْطِ يَدِ الظُّلْمِ، وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا مَضَى، إذَا قَدِمُوا بَلَدًا أَتَاهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَاسْتَعَانُوا بِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ وَكِتَابَتِهِمْ لِعِلْمِهِمْ بِالْكِتَابَةِ، وَالْحِسَابِ وَالتَّدْبِيرِ وَلَا خِيَرَةَ
وَلَا تَدْبِيرَ فِيمَا يُغْضِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مُدَّةٌ، وَقَدْ قَضَاهَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا نَعْلَمَنَّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُمَّالِ أَبْقَى فِي عَمَلِهِ رَجُلًا مُتَصَرِّفًا عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ إلَّا نُكِّلَ بِهِ، وَلْيَكْتُبْ كُلٌّ مِنْكُمْ بِمَا فَعَلَهُ فِي عَمَلِهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُمْنَعَ النَّصَارَى، وَالْيَهُودُ مِنْ الرُّكُوبِ عَلَى السُّرُوجِ إلَّا عَلَى الْأَكُفِّ. قَالَ: وَكَتَبَ إلَى حَيَّانَ عَامِلِهِ بِمِصْرَ بِاعْتِمَادِ ذَلِكَ فَكَتَبَ إلَيْهِ حَيَّانُ: أَمَّا بَعْدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنْ دَامَ هَذَا الْأَمْرُ فِي مِصْرَ أَسْلَمَتْ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَبَطَلَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْخَرَاجِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ خَالِدًا، وَقَالَ لَهُ: ائْتِ مِصْرَ فَاضْرِبْ حَيَّانَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثِينَ سَوْطًا أَدَبًا عَلَى قَوْلِهِ وَقُلْ لَهُ: وَيْلَك يَا حَيَّانُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَضَعْ عَنْهُ الْجِزْيَةَ فَوَدِدْت أَنْ أَسْلَمُوا كَافَّةً، اللَّهُ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم دَاعِيًا لَا جَابِيًا.
قَالَ: وَكَتَبَ فِي أَيَّامِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ بَعْضُ الزُّهَّادِ لَمَّا رَأَى تَمَكُّنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِهْمَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَيَّامِهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
بِأَبِي وَأُمِّي ضَاعَتْ الْأَحْلَامُ
…
أَمْ ضَاعَتْ الْأَذْهَانُ وَالْأَفْهَامُ
مَنْ حَادَ عَنْ دِينِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
…
أَلَهُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ قِيَامُ
إلَّا تَكُنْ أَسْيَافُهُمْ مَشْهُورَةً
…
فِينَا فَتِلْكَ سُيُوفُهُمْ أَقْلَامُ
ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّك تَحَمَّلْت أَمَانَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا فَتُسْلِمُ أَنْتَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ الَّتِي قَدْ تَدَرَّكْتَ بِهَا وَخَصَّك اللَّهُ بِهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَا سَمِعْت تَفْسِيرَ جَدِّك عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ:{لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] ، وَأَنَّ الصَّغِيرَةَ التَّبَسُّمُ، وَالْكَبِيرَةَ الضَّحِكُ فَمَا ظَنُّك بِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَانَتِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَقَدْ نَصَحْتُك وَهَذِهِ النَّصِيحَةُ حُجَّةٌ عَلَيَّ مَا لَمْ تَصِلْ، فَإِذَا وَصَلَتْ إلَيْك صَارَتْ حُجَّةً عَلَيْك فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقَدَّمَ إلَى جَمِيعِ الْعُمَّالِ فِي الْبِلَادِ أَنْ لَا يُتْرَكَ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ يَكْتُبُ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُمَّالِ.
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَكْتَبَ أَحَدًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قُطِعَتْ يَدُهُ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ مِنْ قَصِيدَةٍ يَمْدَحُ بِهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رضي الله عنه وَيَحُثُّهُ عَلَى قَتْلِ الْقِبْطِ وَيُغْرِيه بِهِمْ وَأَنْشَدَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لِلْمَأْمُونِ لَمَّا اسْتَحْضَرَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ الْقِبْطِ فَقَالَ: هُمْ بَقِيَّةُ الْفَرَاعِنَةِ الَّذِينَ
كَانُوا بِمِصْرَ.
وَقَالَ لَهُ: وَقَدْ نَهَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ اسْتِخْدَامِهِمْ فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: صِفْ لِي كَيْفَ كَانَ شَأْنُهُمْ فِي مِصْرَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أَخَذَتْ الْفُرْسُ الْمُلْكَ مِنْ أَيْدِي الْفَرَاعِنَةِ قَتَلُوا الْقِبْطَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ اصْطَنَعَتْهُ أَيْدِي الْهَرَبِ وَاخْتَفَى وَتَعَلَّمُوا كُتَّابًا وَأَطِبَّاءً وَحُسَّابًا، فَلَمَّا مَلَكَتْ الرُّومُ كَانُوا هُمْ سَبَبًا لِإِخْرَاجِ الْفُرْسِ عَنْ مُلْكِهِمْ، وَأَقَامُوا فِي مَمْلَكَةِ الرُّومِ إلَى أَنْ ظَهَرَتْ كَلِمَةُ الْمَسِيحِ، ثُمَّ أَنْشَدَهُ الْقَصِيدَةَ، وَهِيَ:
يَا عَمْرُو قَدْ مَلَكَتْ يَمِينُك مِصْرَنَا
…
وَمَلَكْت فِيهَا الْعَدْلَ وَالْإِقْسَاطَا
فَاقْتُلْ بِسَيْفِك مَنْ تَعَدَّى طَوْرَهُ
…
وَاجْعَلْ فَتُوحَ سُيُوفِك الْأَقْبَاطَا
فِيهِمْ أُقِيمَ الْجَوْرُ فِي جَنَبَاتِهَا
…
وَرَأَى الْأَنَامُ النَّفْيَ وَالْإِفْرَاطَا
عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَثَلَّثُوا لَاهُوتَهمْ
…
وَتَوَازَرُوا وَتَعَدَّوْا الْأَشْرَاطَا
لَا تَرْكَنَنَّ إلَى النَّصَارَى إنَّهُمْ
…
شَعْبٌ عَلَى دِينِ الْإِلَهِ تَعَاطَا
وَاذْكُرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَوْلَهُ
…
إنْ كُنْت فِي طَاعَاتِهِ مُحْتَاطًا
لَا تَقْبَلَنْ لِمُشْرِكٍ عَهْدًا وَلَا
…
تَرْعَى لَهُ ذِمَمًا وَلَا أَخْلَاطَا
فَأَوْغَرَ صَدْرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا عَادَ إلَى بَغْدَادَ اتَّفَقَ أَنَّهُمْ أَسَاءُوا إلَى الْكِسَائِيّ الِاعْتِمَادَ وَجَاهَرُوهُ بِالْبَغْيِ، وَالْفَسَادِ، فَلَمَّا قَرَأَ الْمَأْمُونُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] .
فَقَالَ لَهُ الْكِسَائِيُّ: أَيَقْرَأُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِصَرْفِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِالْمَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَاتَّفَقَ فِي أَيَّامِ ذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْمَأْمُونِ وَعِنْدَهُ ذِمِّيٌّ فِي مَجْلِسِهِ لَهُ حُرْمَةٌ وَوَقَارٌ، فَاسْتَأْذَنَهُ الْفَاضِلُ فِي إنْشَادِ بَيْتَيْنِ مِنْ الشِّعْرِ، فَأَذِنَ لَهُ فَأَنْشَدَ:
يَا ابْنَ الَّذِي طَاعَتُهُ فِي الْوَرَى
…
وَحُبُّهُ مُفْتَرَضٌ وَاجِبُ
إنَّ الَّذِي شُرِّفْت مِنْ أَجْلِهِ
…
يَزْعُمُ هَذَا أَنَّهُ كَاذِبُ
فَقَالَ: أَصَحِيحٌ مَا يَقُولُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَأَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ وَذَكَرَ السُّلْطَانُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ الْمَزْبُورِ: أَنَّ النَّصَارَى فِي زَمَنِ الْآمِرِ بِاَللَّهِ اشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ وَامْتَدَّتْ أَيْدِيهمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْأَذِيَّةِ وَإِيصَالِ
الْأَذَى إلَيْهِمْ لَا سِيَّمَا أَرْبَابُ الدِّينِ، وَأَجْلَسَ كَاتِبًا مِنْهُمْ يُعْرَفُ بِالرَّاهِبِ، وَيُلَقَّبُ بِالْأَبِ الْقِدِّيسِ، فَصَادَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ مِصْرَ وَامْتَدَّتْ يَدُهُ إلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَامَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ عَلَى قَبِيحِ فِعْلِهِ وَمَا يَبْدُو مِنْهُ لِلْخَاصَّةِ، وَالْعَامَّةِ إشْفَاقًا عَلَيْهِ، فَكَانَ جَوَابُهُ نَحْنُ مُلَّاكُ هَذِهِ الْبِلَادِ حَرْثًا وَخَرَاجًا، وَإِنَّمَا مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَّا وَتَغَلَّبُوا عَلَيْنَا وَغَصَبُونَا وَاسْتَمْسَكُوهَا مِنْ أَيْدِينَا.
فَنَحْنُ مَهْمَا فَعَلْنَا بِالْمُسْلِمِينَ فَهُوَ قُبَالَةُ مَا فَعَلُوهُ بِنَا، وَجَمِيعُ مَا نَأْخُذُهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ حِلٌّ لَنَا وَبَعْضُ مَا نَسْتَحِقُّهُ، فَإِذَا حَمَلْنَا إلَيْهِمْ مَالًا كَانَتْ الْمِنَّةُ لَنَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
بِنْتَ كَرَمٍ غَصَبُوهَا أَهْلَهَا
…
وَأَهَانُوهَا بِدَوْسِ بِالْقَدَمْ
ثُمَّ عَادُوا حَكَّمُوهَا فِيهِمْ
…
وَلَهَا أَمْرٌ بِخَصْمٍ يُحْتَكَمْ
وَنُقِلَ مِنْ مِثْلِ هَذَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ جِدًّا فَرَاجِعْهُ إنْ شِئْت، ثُمَّ قَالَ: وَمَا أَحْسَن قَوْلَ الْجَاحِظِ: الْخِيَانَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ: تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا عَسَى أَنْ يُقَالَ فِيمَنْ مَحَاسِنُهُمْ مَسَاوِي السِّفَلِ وَمَسَاوِيهِمْ فَضَائِحُ الْمِلَلِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ.
(تَنْبِيهٌ) : اقْتَصَرَ النَّاظِمُ عَلَى كَوْنِ اسْتِئْمَانِنَا أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي مَالٍ وَقِسْمَتِهِ مَكْرُوهًا، وَظَاهِرُ مَا اعْتَمَدَهُ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ حُرْمَةُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي الْغَزْوِ وَبِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَحْرُمُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِكُفَّارٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَأَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ إلَّا خَوْفًا قَالَ الشَّيْخُ: وَمَنْ تَوَلَّى مِنْهُمْ دِيوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ انْتَقَضَ عَهْدُهُ وَيَحْرُمُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَزْوٍ وَعِمَالَةٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ مُسْلِمٌ بِذِمِّيٍّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ كِتَابَةٍ وَعِمَالَةٍ وَجِبَايَةِ خَرَاجٍ وَقِسْمَةِ فَيْءٍ وَغَنِيمَةٍ وَحِفْظِ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ وَنَقْلِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالضَّرُورَةِ الْحَاجَةَ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ زَوَالُ الْكَرَاهَةِ بِأَدْنَى حَاجَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَكُونُ بَوَّابًا وَلَا جَلَّادًا وَجَهْبَذًا، وَهُوَ النَّقَّادُ الْخَبِيرُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
قَالَ: وَيَحْرُمُ تَوْلِيَتُهُمْ الْوِلَايَاتِ مِنْ دِيوَانِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُسْتَشَارُوا أَوْ يُؤْخَذَ بِرَأْيِهِمْ قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى فَارِقًا بَيْنَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالذِّمَّةِ: إنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ دُعَاةٌ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ،.
وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يَدْعُونَ إلَى أَدْيَانِهِمْ نَصًّا، وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَحْرُمُ وَيُتَوَجَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِكُفَّارٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ لِحَاجَةٍ، وَعَنْهُ: يَجُوزُ مَعَ حُسْنِ رَأْيٍ فِينَا، زَادَ جَمَاعَةٌ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ وَقُوَّتُهُ بِهِمْ