الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّاسُ إنِّي يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَإِنِّي عَلَى مَا يُعْمَلُ فِي شَهِيدٌ، وَإِنِّي لَوْ قَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ لَمْ أَرْجِعْ إلَيْكُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَإِيَّاكَ وَالْغَبَنَ وَالتَّمَادِي فِي الْكَسَلِ وَهَوَى النَّفْسِ (بَلْ اجْهَدْ) فِي فِكَاكِهَا وَخَلَاصِهَا مِنْ قُيُودِ الْأَقْفَاصِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ: الْإِنْسَانُ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ، لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عز وجل، يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَفِي لِسَانِهِ وَفِي جَوَارِحِهِ كُلِّهَا.
تَجَهَّزِي بِجِهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ
…
يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثَا
وَسَابِقِي بَغْتَةَ الْآجَالِ وَانْكَمِشِي
…
قَبْلَ اللِّزَامِ فَلَا مَلْجَا وَلَا غَوْثَا
وَلَا تَكَدِّي لِمَنْ يَبْقَى وَتَفْتَقِرِي
…
إنَّ الرَّدَى وَارِثُ الْبَاقِي وَمَا وُرِثَا
وَاخْشَيْ حَوَادِثَ صَرْفِ الدَّهْرِ فِي مَهَلٍ
…
وَاسْتَيْقِظِي لَا تَكُونِي كَاَلَّذِي بَحَثَا
عَنْ مُدْيَةٍ كَانَ فِيهَا قَطْعُ مُدَّتِهِ
…
فَوَافَتْ الْحَرْثَ مَحْرُوثًا كَمَا حَرَثَا
مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ
…
أَوْ الْغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ وَالشَّعِثَا
وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ
…
فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثَا
فِي قَعْرِ مُوحِشَةٍ غَبْرَاءَ مُقْفِرَةٍ
…
يُطِيلُ تَحْتَ الثَّرَى فِي جَوْفِهَا اللَّبَثَا
فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى مَا فِيهِ خَلَاصُ نَفْسِهِ مِنْ الْهَلَاكِ، وَيَفُكُّهَا مِنْ الْقُيُودِ وَالشِّرَاكِ، وَلَا يَرْكَنُ إلَى الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَلَا يَسْكُنُ إلَى تَخَيُّلَاتِهَا وَتَمْوِيهَاتِهَا، فَمَا هِيَ إلَّا سُمُّ الْأَفَاعِي، وَأَهْلُهَا مَا بَيْنَ مَنْعِيٍّ وَنَاعِي، فَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
مَطْلَبٌ: مَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى
فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ
…
أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ
(فَمَنْ) أَيْ أَيُّ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ أَوْ امْرَأَةٍ مُؤْمِنَةٍ (هَجَرَ اللَّذَّاتِ) أَيْ صَرَمَهَا وَلَمْ يَلْوِ إلَيْهَا عِنَانَهُ، وَلَمْ يَشْغَلْ بِهَا جَنَانَهُ، وَلَا لَطَّخَ بِهَا لِسَانَهُ، وَلَا نَافَسَ فِي اكْتِسَابِهَا، وَلَمْ يَنْكَبَّ عَلَى انْتِهَابِهَا. بَلْ رَفَضَهَا وَثَنَى عَنْهَا الْعِنَانَ، وَلَهَا شَنَى، وَمَالَ عَنْهَا وَانْحَنَى (نَالَ) أَيْ أَصَابَ (الْمُنَى) أَيْ مُنَاهُ بِمَعْنَى تَمْنِيَتَهُ يَعْنِي مَا يَتَمَنَّاهُ وَيَطْلُبُهُ مِنْ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالتَّكْرِيمِ، وَمِنْ
تَحْصِيلِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، الْوَارِدَةِ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَالصَّحَابَةِ الْأَخْيَارِ، وَالتَّابِعِينَ الْأَطْهَارِ، وَالْأَئِمَّةِ الْأَبْرَارِ. كُلُّ هَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِهَجْرِ اللَّذَّاتِ وَرَفْضِ الشَّهَوَاتِ.
(وَمَنْ) أَيْ كُلُّ إنْسَانٍ (أَكَبَّ) أَيْ أَقْبَلَ (عَلَى اللَّذَّاتِ) الْمُحَرَّمَةِ، وَكَذَا الْمُبَاحَةِ الْمُشْغِلَةِ عَنْ الْعُلُومِ يَنْحُوهَا، وَانْهَمَكَ فِي الشَّهَوَاتِ الْمُلْهِيَةِ عَنْ نَيْلِ الْكَمَالَاتِ (عَضَّ) بِأَسْنَانِهِ (عَلَى الْيَدِ) تَأَسُّفًا عَلَى مَا فَرَّطَ فِي أَيَّامِهِ، وَتَلَهُّفًا عَلَى مَا تَثَبَّطَ فِي دُهُورِهِ وَأَعْوَامِهِ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} [الفرقان: 27] {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا} [الفرقان: 28] .
وَاللَّذَّاتُ جَمْعُ لَذَّةٍ وَهِيَ نَقِيضُ الْأَلَمِ، يُقَالُ لَذَّهُ وَلَذَّ بِهِ لِذَاذًا وَلَذَاذَةً، وَالْتَذَّهُ وَالْتَذَّ بِهِ وَاسْتَلَذَّهُ وَجَدَهُ لَذِيذًا، وَلِذَا هُوَ صَارَ لَذِيذًا.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ مُقَارِبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْجَسَدَ» .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ الضَّحَّاكِ مُرْسَلًا قَالَ «أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَزْهَدُ النَّاسِ؟ قَالَ مَنْ لَمْ يَنْسَ الْقَبْرَ وَالْبِلَى، وَتَرَك أَفْضَلَ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَآثَرَ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، وَلَمْ يَعُدَّ غَدًا فِي أَيَّامِهِ، وَعَدَّ نَفْسَهُ مِنْ الْمَوْتَى» .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إلَّا بَعَثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يُسْمِعَانِ أَهْلَ الْأَرْضِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى» .
وَرَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه «لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَشْعَرِيِّينَ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: حُلْوَةُ الدُّنْيَا مُرَّةُ الْآخِرَةِ، وَمُرَّةُ الدُّنْيَا حُلْوَةُ الْآخِرَةِ» .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
- رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَإِسْنَادُهُمَا جَيِّدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِلَفْظٍ «مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ جَائِعَانِ بَاتَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ أَغْفَلَهَا أَهْلُهَا يَفْتَرِسَانِ وَيَأْكُلَانِ بِأَسْرَعَ فِيهَا فَسَادًا مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي دِينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِنَحْوِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ «وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ» وَإِسْنَادُهُمَا جَيِّدٌ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: اسْتَسْقَى عُمَرُ فَجِيءَ بِمَاءٍ قَدْ شِيبَ بِعَسَلٍ فَقَالَ إنَّهُ لَطَيِّبٌ لَكِنِّي أَسْمَعُ اللَّهُ عز وجل نَعَى عَلَى قَوْمٍ شَهَوَاتِهِمْ فَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا فَلَمْ يَشْرَبْهُ ذَكَرَهُ رَزِينٌ، قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَلَمْ أَرَهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ لَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا وَلَا يُنَافِسُ فِي عِزِّهَا النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، وَنَفْسُهُ مِنْهُ فِي شُغْلٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَ الْعَاقِلَ الْمُرَاقِبَ لَمْ يَقْصِدْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ التَّلَذُّذَ بَلْ دَفْعَ الْجُوعِ مِمَّا يُوَافِقُ بَدَنَهُ وَيُقَوِّيه عَلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ قَصَدَ الِالْتِذَاذَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُتَنَاوِلَاتِ أَحْيَانًا لَمْ يُعَبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُعَابُ عَلَيْهِ الِانْهِمَاكُ فِي ذَلِكَ، وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ (أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ) يَعْنِي أَقْبَلْ عَلَيْهَا بِكُلِّيَّةٍ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، بَلْ شَأْنُهُمْ الْإِقْبَالَ عَلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ شُؤُونِهِمْ.
وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ سُلَّمٌ يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى التَّقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، فَإِذَا أَكَلُوا أَوْ شَرِبُوا أَوْ لَبِسُوا أَوْ نَكَحُوا أَوْ فَعَلُوا مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ شَيْئًا فَعَلُوهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَإِذَا تَرَكُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ تَرَكُوهُ لِلَّهِ عز وجل، فَيَكُونُ فِعْلُهُمْ وَتَرْكُهُمْ عِبَادَةً، وَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. قَالَ اللَّهُ عز وجل إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ إنَّهُ تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي» .