الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْت: الْعَقْلُ عَقْلَانِ، غَرِيزِيٌّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَزِيدُ وَلَا يَخْتَلِفُ، وَالثَّانِي تَجْرِيبِيٌّ يَخْتَلِفُ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الطُّوفِيُّ مِنَّا وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ وَمُخْتَصَرِهِ، وَقَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُ النَّاظِمِ مُؤَيَّدُ. النُّسَخُ الَّتِي رَأَيْتهَا بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ مِنْ أَيَّدْتُهُ تَأْيِيدًا قَوَّيْته تَقْوِيَةً.
قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَوَّحَ اللَّهِ رُوحَهُ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: إنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةَ، يَعْنِي الْكُتُبَ. قَالَ وَقَالَ لِي مَرَّةً: مَا يَصْنَعُ أَعْدَائِي بِي أَنَا جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي أَيْنَ رُحْت فَهِيَ مَعِي لَا تُفَارِقُنِي، أَنَا حَبْسِي خَلْوَةٌ، وَقَتْلِي شَهَادَةٌ، وَإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سِيَاحَةٌ.
وَقَالَ لِي مَرَّةً: الْمَحْبُوسُ مَنْ حُبِسَ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ، وَالْمَأْسُورُ مَنْ أَسَرَهُ هَوَاهُ. قَالَ وَعَلِمَ اللَّهُ مَا رَأَيْت أَحَدًا أَطْيَبُ عَيْشًا مِنْهُ قَطُّ مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ وَخَلَاقِ الرَّفَاهِيَةِ وَالنَّعِيمِ بَلْ ضِدِّهَا مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَبْسِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْإِرْجَافِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَطْيَبُ النَّاسِ عَيْشًا وَأَشْرَحُهُمْ صَدْرًا، وَأَقْوَاهُمْ قَلْبًا وَأَسَرُّهُمْ نَفْسًا تَلُوحُ نَضِرَةُ النَّعِيمِ عَلَى وَجْهِهِ قَالَ: وَكُنَّا إذَا اشْتَدَّ بِنَا الْخَوْفُ وَسَاءَتْ مِنَّا الظُّنُونُ وَضَاقَتْ بِنَا الْأَرْضُ أَتَيْنَاهُ فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ نَرَاهُ وَنَسْمَعَ كَلَامَهُ فَيَذْهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَيَنْقَلِبَ انْشِرَاحًا وَقُوَّةً وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً، فَسُبْحَانَ مَنْ أَشْهَدَ عِبَادَهُ جَنَّتَهُ قَبْلَ لِقَائِهِ وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَهَا فِي دَارِ الْعَمَلِ فَأَتَاهُ مِنْ رُوحِهَا وَنَسِيمِهَا وَطِيبِهَا مَا اسْتَفْرَغَ قُوَاهُمْ لِطَلَبِهَا وَالْمُسَابَقَةِ إلَيْهَا.
مَطْلَبٌ: فِي مَدْحِ الْخَلْوَةِ
.
وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ مَدْحِ الْخَلْوَةِ وَكَفِّ رَجُلٍ لِرَجُلٍ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ نَثْرًا وَنَظْمًا. قَالَ بَعْضُهُمْ:
أَنِسْت بِوِحْدَتِي وَلَزِمْت بَيْتِي
…
فَدَامَ الْأُنْسُ لِي وَنَمَا السُّرُورُ
وَأَدَّبَنِي الزَّمَانُ فَلَا أُبَالِي
…
هَجَرْت فَلَا أُزَارُ وَلَا أَزُورُ
وَلَسْت بِسَائِلٍ مَا دُمْت حَيًّا
…
أَسَارَ الْجَيْشُ أَمْ رَكِبَ الْأَمِيرُ
وَقَالَ غَيْرُهُ:
اُعْكُفْ عَلَى الْكُتُبِ
…
وَادْرُسْ تُؤْتَى فَخَارَ النُّبُوَّةِ
فَاَللَّهُ قَالَ لِيَحْيَى
…
خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ
وَقَالَ آخَرُ:
رَأَيْت الِانْقِبَاضَ أَجَلَّ شَيْءٍ
…
وَأَدْعَى فِي الْأُمُورِ إلَى السَّلَامَةِ
فَهَذَا الْخَلْقُ سَالِمْهُمْ وَدَعْهُمْ
…
فَخُلْطَتُهُمْ تَقُودُ إلَى الْمَلَامَةِ
وَلَا تَعْبَأْ بِشَيْءٍ غَيْرِ شَيْءٍ
…
يَقُودُ إلَى خَلَاصِك فِي الْقِيَامَةِ
وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْبَاقِي الْحَنْبَلِيُّ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٍ وَهُوَ يَنْظُرُ فِي الْكُتُبِ فَقَالَ لَهُ إلَى مَتَى هَذَا؟ فَأَنْشَدَ فِي الْحَالِ:
إنْ صَحِبْنَا الْمُلُوكَ تَاهُوا وَعَقُّوا
…
وَاسْتَخَفُّوا جَهْلًا بِحَقِّ الْجَلِيسِ
أَوْ صَحِبْنَا التُّجَّارَ صِرْنَا إلَى الْبُؤْسِ
…
وَأَشْغَلُونَا كَمَا هُمْ بِضَبْطِ الْفُلُوسِ
فَلَزِمْنَا الْبُيُوتَ نَسْتَكْثِرُ الْخَيْرَ
…
وَنُمْلِي مِنْ الْفَضْلِ بُطُونَ الطُّرُوسِ
لَوْ تَرَكْنَا وَذَاكَ كُنَّا ظَفَرْنَا
…
كُلَّ أَعْمَارِنَا بِعَلَقٍ نَفِيسِ
غَيْرَ أَنَّ الزَّمَانَ بَثَّ بَنِيهِ
…
فَهُمْ حَسَدُونَا عَلَى حَيَاةِ النُّفُوسِ
وَمِنْ نَظْمِ الْفَقِيرِ عَلَى ظَهْرِ كِتَابِ الْمُلَحِ الْغَرَامِيَّةِ فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ ابْنِ فَرَحٍ اللَّامِيَّةِ شِعْرٌ:
رَوِّحْ النَّفْسَ فِي مَعَانٍ رَقِيقَهْ
…
وَنِكَاتٍ مِنْ الْغَرَامِ رَشِيقَهْ
وَامْحُ عَنْ قَلْبِك الْهُمُومَ بِنَظْمِ
…
كُلِّ مَنْ حَازَهُ أَثَارَ رَحِيقَهْ
وَاغْتَذِي بِالْفُنُونِ عَنْ كُلِّ لَهْوٍ
…
يُغْتَدَى بِالنَّهْيِ لِغَيْرِ حَقِيقَهْ
وَاكْتَفِي بِالْبَيَانِ عَنْ ظِلِّ بَانٍ
…
وَعَنْ الْغِيدِ بِالْعُلُومِ الدَّقِيقَهْ
وَاصْحَبْ السِّفْرَ حَيْثُ كُنْت رَفِيقًا
…
فَازَ مَنْ سِفْرُهُ يَكُونُ رَفِيقَهْ
فَهِيَ عِنْوَانُ عَقْلِ مَنْ يَصْحَبُهَا
…
عُرْوَةٌ فِي الْمَعَادِ تُدْعَى وَثِيقَهْ
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَفْضَلِ كُلِّ جَلِيسٍ، مُجَالَسَتُك لِكِتَابٍ أَنِيسٍ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.