الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّا نَعْنِي بِالْكِبْرِ الَّذِي لَا يُدْخِلُ صَاحِبَهُ الْجَنَّةَ كِبْرَ الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَتَكَبَّرُ عَلَى الْخَالِقِ لِفَرْطِ جَهْلِهِ فَيَكْفُرُ بِهِ، وَلَا يَعْبُدُهُ، وَرُبَّمَا تَكَبَّرَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَهَذَا كَافِرٌ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَبَدًا.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» يَعْنِي كِبْرَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَابَلَهُ فِي نَقِيضِهِ بِالْإِيمَانِ فَقَالَ: وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ، أَرَادَ دُخُولَ تَأْبِيدٍ.
وَقِيلَ: أَرَادَ إذَا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ نُزِعَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ الْكِبْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مِنْ بَطَرِ الْحَقِّ» هَذَا الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ ذُو الْكِبْرِ، أَوْ لَكِنْ الْكِبْرُ كِبْرُ مَنْ بَطَرَ الْحَقَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189] .
انْتَهَى.
مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَنْشَأِ الْعُجْبِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ
.
(الْخَامِسُ) : الْعَجَبُ إنَّمَا يَكُونُ وَيُوجَدُ مِنْ الْإِنْسَانِ لِاسْتِشْعَارِ وَصْفِ كَمَالٍ، وَمَنْ أُعْجِبَ بِعَمَلِهِ اسْتَعْظَمَهُ فَكَأَنَّهُ يَمُنُّ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى بِطَاعَتِهِ، وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّهَا جَعَلَتْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَوْضِعًا، وَأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ بِهَا جَزَاءً، وَيَكُونُ قَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ، فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحُّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» وَرُبَّمَا مَنَعَهُ عُجْبُهُ مِنْ الِازْدِيَادِ، وَلِهَذَا قَالُوا: عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ.
وَمَا أَضَرَّ الْعُجْبَ بِالْمَحَاسِنِ.
وَسَبَبُ الْعُجْبِ وَعِلَّتُهُ الْجَهْلُ الْمَحْضُ.
وَمَنْ أُعْجِبَ بِطَاعَتِهِ مَثَلًا فَمَا فَهِمَ أَنَّهَا بِالتَّوْفِيقِ حَصَلَتْ.
فَإِنْ قَالَ: رَآنِي أَهْلًا لَهَا فَوَفَّقَنِي.
قِيلَ لَهُ: فَتِلْكَ نِعْمَةٌ مِنْ مَنِّهِ وَفَضْلِهِ فَلَا تُقَابَلُ بِالْإِعْجَابِ.
وَفِي صَيْدِ الْخَاطِرِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ -: إذَا تَمَّ عِلْمُ الْإِنْسَانِ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ عَمَلًا، وَلَمْ يُعْجَبْ بِهِ لِأَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّهُ وُفِّقَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، وَحَبَّبَ إلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا قِيسَ بِالنِّعَمِ لَمْ يَفِ
بِمِعْشَارِ عُشْرِهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا لُوحِظَتْ عَظَمَةُ الْمَخْدُومِ اُحْتُقِرَ كُلُّ عَمَلٍ وَتَعَبُّدٍ.
هَذَا إذَا سَلِمَ مِنْ شَائِبَةٍ وَخَلَصَ مِنْ غَفْلَةٍ، فَأَمَّا وَالْغَفَلَاتُ تُحِيطُ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُغَلِّبَ الْحَذَرَ مِنْ رَدِّهِ وَيَخَافَ الْعِقَابَ عَلَى التَّقْصِيرِ فِيهِ فَيَشْتَغِلَ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهِ، وَتَأَمَّلْ عَلَى الْفُطَنَاءِ أَحْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ.
فَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ قَالُوا: مَا عَبَدْنَاك حَقَّ عِبَادَتِك.
وَالْخَلِيلُ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] وَمَا دَلَّ بِصَبْرِهِ عَلَى النَّارِ وَتَسْلِيمِهِ الْوَلَدَ إلَى الذَّبْحِ.
وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَا مِنْكُمْ مَنْ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» .
وَعُمَرُ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعًا عَلَى الْأَرْضِ لَافْتَدَيْت بِهَا مِنْ هَوْلِ مَا أَمَامِي قَبْلَ (أَنْ) أَعْلَمَ مَا الْخَبَرُ.
وَابْنُ مَسْعُودٍ: يَقُولُ: وَدِدْت إذْ مِتُّ لَا أُبْعَثُ.
وَعَائِشَةُ تَقُولُ: لَيْتَنِي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.
وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ صُلَحَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مَا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الْإِفْهَامِ لِمَا شَرَحْته؛ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى أَعْمَالِهِمْ فَأَدَلُّوا بِهَا.
مَطْلَبٌ: حِكَايَةُ الْعَابِدِ.
فَمِنْهُ حَدِيثُ الْعَابِدِ الَّذِي تَعَبَّدَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ فِي جَزِيرَةٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً، وَسَأَلَ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُمِيتَهُ فِي سُجُودِهِ، فَإِذَا حُشِرَ قِيلَ لَهُ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، قَالَ بَلْ بِعَمَلِي، فَيُوزَنُ جَمِيعُ عَمَلِهِ بِنِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَفِي، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ بِرَحْمَتِك.
قُلْت: هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ هَرِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. قَالَ جَابِرٌ «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّ لِلَّهِ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ عَبَدَ اللَّهَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فِي الْبَحْرِ، عَرْضُهُ وَطُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، وَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَرْسَخٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَأَخْرَجَ لَهُ عَيْنًا عَذْبَةً بِعَرْضِ الْأُصْبُعِ تَبِضُّ بِمَاءٍ عَذْبٍ، فَيَسْتَنْقِعُ فِي
أَسْفَلِ الْجَبَلِ، وَشَجَرَةَ رُمَّانٍ تُخْرِجُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً يَتَعَبَّدُ يَوْمَهُ فَإِذَا أَمْسَى نَزَلَ فَأَصَابَ مِنْ الْوُضُوءِ، وَأَخَذَ تِلْكَ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا ثُمَّ قَامَ لِصَلَاتِهِ فَسَأَلَ رَبَّهُ عِنْدَ وَقْتِ الْأَجَلِ أَنْ يَقْبِضَهُ سَاجِدًا، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ لِلْأَرْضِ، وَلَا لِشَيْءٍ يُفْسِدُهُ عَلَيْهِ سَبِيلًا حَتَّى يَبْعَثَهُ، وَهُوَ سَاجِدٌ قَالَ فَفَعَلَ فَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إذَا هَبَطْنَا، وَإِذَا خَرَجْنَا فَنَجِدُ لَهُ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي فَيَقُولُ اللَّهُ: قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ، فَيُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَبَقِيَتْ نِعْمَةُ الْجَسَدِ فَضْلًا عَلَيْهِ فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ فَيُجَرُّ إلَى النَّارِ فَيُنَادِي: رَبِّ بِرَحْمَتِك أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: رُدُّوهُ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ يَا عَبْدِي مَنْ خَلَقَك، وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: مَنْ قَوَّاك لِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْزَلَك فِي جَبَلٍ وَسَطَ اللُّجَّةِ، وَأَخْرَجَ لَك الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنْ الْمَاءِ الْمَالِحِ، وَأَخْرَجَ لَك كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ، وَسَأَلْتَهُ أَنْ يَقْبِضَك سَاجِدًا فَفَعَلَ؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ قَالَ: فَذَلِكَ بِرَحْمَتِي، وَبِرَحْمَتِي أُدْخِلُك الْجَنَّةَ، أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ، فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْتَ يَا عَبْدِي فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ جِبْرِيلُ: إنَّمَا الْأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ» .
مَطْلَبٌ: حِكَايَةُ مَنْ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ الصَّخْرَةُ.
وَفِيهِ كَلَامٌ نَفِيسٌ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْغَارِ الَّذِينَ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ الصَّخْرَةُ وَقَدْ قَدَّمْت حَدِيثَهُمْ.
قَالَ: فَإِنَّ أَحَدَهُمْ تَوَسَّلَ بِعَمَلٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى الزِّنَا ثُمَّ خَافَ الْعُقُوبَةَ فَتَرَكَهُ.
فَلَيْتَ شِعْرِي بِمَاذَا يُدِلُّ مَنْ خَافَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى شَيْءٍ فَتَرَكَهُ لِخَوْفِ الْعُقُوبَةِ إنَّمَا لَوْ كَانَ مُبَاحًا فَتَرَكَهُ كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ.
وَلَوْ فَهِمَ لَشَغَلَهُ خَجَلُ التُّهْمَةِ عَنْ الْإِدْلَالِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ عليه السلام.
وَالْآخَرُ تَرَكَ صِبْيَانَهُ يَتَضَاغَوْنَ إلَى الْفَجْرِ لِيَسْقِيَ أَبَوَيْهِ اللَّبَنَ.
وَفِي ضِمْنِ هَذَا الْبِرِّ أَذًى
لِلْأَطْفَالِ.
قَالَ: وَلَكِنَّ الْفَهْمَ عَزِيزٌ.
وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا أَحْسَنُوا قَالَ لِسَانُ الْحَالِ: أَعْطُوهُمْ مَا طَلَبُوا فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أُجْرَةَ مَا عَمِلُوا.
ثُمَّ قَالَ: وَلَوْلَا عِزَّةُ الْفَهْمِ مَا تَكَبَّرَ مُتَكَبِّرٌ عَلَى جِنْسِهِ، وَلَكَانَ كُلُّ كَامِلٍ خَائِفًا مُحْتَقِرًا لِعَمَلِهِ حَذِرًا مِنْ التَّقْصِيرِ فِي شُكْرِ مَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ.
وَفَهْمُ هَذَا الْمَشْرُوحِ يُنَكِّسُ رَأْسَ الْكِبْرِ وَيُوجِبُ مُسَاكَنَةَ الذُّلِّ.
وَقَالَ فِي مَكَان آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: عَجِبْت لِمَنْ يَعْجَبُ بِصُورَتِهِ، وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَيَنْسَى مَبْدَأَ أَمْرِهِ، إنَّمَا أَوَّلُهُ لُقْمَةٌ ضَمَّتْ إلَيْهَا جَرْعَةَ مَاءٍ، فَإِنْ شِئْت فَقُلْ كِسْرَةَ خُبْزٍ مَعَهَا تَمَرَاتٌ، وَقِطْعَةٌ مِنْ لَحْمٍ، وَمَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ، وَجَرْعَةٌ مِنْ مَاءٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، طَبَخَتْهُ الْكَبِدُ، فَأَخْرَجَتْ مِنْهُ قَطَرَاتِ مَنِيٍّ فَاسْتَقَرَّتْ فِي الْأُنْثَيَيْنِ، فَحَرَّكَتْهَا الشَّهْوَةُ، فَبَقِيَتْ فِي بَطْنِ الْأُمِّ مُدَّةً حَتَّى تَكَامَلَتْ صُورَتُهَا، فَخَرَجَتْ طِفْلًا تَتَقَلَّبُ فِي خِرَقِ الْبَوْلِ.
وَأَمَّا آخِرُهُ فَإِنَّهُ يُلْقَى فِي التُّرَابِ فَيَأْكُلُهُ الدُّودُ، وَيَصِيرُ رُفَاتًا تَسْفِيهِ السَّوَافِي.
وَكَمْ يَخْرُجُ تُرَابُ بَدَنِهِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان آخَرَ، وَيُقَلَّبُ فِي أَحْوَالٍ إلَى أَنْ يَعُودَ فَيُجْمَعَ.
وَأَمَّا الرُّوحُ فَإِنْ تَجَوْهَرَتْ بِالْأَدَبِ، وَتَقَوَّمَتْ بِالْعِلْمِ، وَعَرَفَتْ الصَّانِعَ، وَقَامَتْ بِحَقِّهِ، فَلَا يَضُرُّهَا نَقْضُ الْمُرَكَّبِ.
وَإِنْ هِيَ بَقِيَتْ عَلَى طَبْعِهَا مِنْ الْجَهَالَةِ شَابَهَتْ الطِّينَ، بَلْ صَارَتْ إلَى أَخَسِّ حَالَةٍ مِنْهُ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: اعْتَبَرْتُ عَلَى أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ أَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ الْكِبْرَ.
فَهَذَا يَنْظُرُ فِي مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَعُودُ مَرِيضًا فَقِيرًا يَرَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْهُ، حَتَّى رَأَيْتُ جَمَاعَةً يُومَأُ إلَيْهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا أُدْفَنُ إلَّا فِي دِكَّةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَيَعْلَمُ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَسْرَ عِظَامِ الْمَوْتَى، ثُمَّ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ادْفِنُونِي إلَى جَانِبِ مَسْجِدِي ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَصِيرُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَزُورًا كَمَعْرُوفٍ، وَلَا يَعْلَمُونَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ تَكَبَّرَ» وَقَلَّ مَا رَأَيْتُ إلَّا وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ.
وَالْعُجْبُ كُلُّ الْعُجْبِ مِمَّنْ يَرَى نَفْسَهُ.
أَتُرَاهُ بِمَاذَا رَآهَا.
إنْ كَانَ بِالْعِلْمِ فَقَدْ