الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السَّلَامَةِ. قُلْت: وَالسَّلَامَةُ لَا يُعَادِلُهَا شَيْءٌ. قَالَ الْإِمَامُ الْوَزِيرُ بْنُ هُبَيْرَةَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَقْرِ إلَّا أَنَّهُ بَابُ الرِّضَا عَنْ اللَّهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْغِنَى أَلَّا أَنَّهُ بَابُ التَّسَخُّطِ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَأَى الْفَقِيرَ رَضِيَ عَنْ اللَّهِ فِي تَقْدِيرِهِ، وَإِذَا رَأَى الْغَنِيَّ سَخِطَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي فَضْلِ الْفَقِيرِ عَلَى الْغَنِيِّ، انْتَهَى.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَفْضِيلِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَدِّ الْفَقْرِ إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى لِيَصِلَ إلَى فَضِيلَةِ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى تَفْضِيلَ الِاعْتِدَالِ، وَأَنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، انْتَهَى.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ: الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ، انْتَهَى.
أَقُولُ: مَنْ تَأَمَّلَ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ وَكَوْنَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم كَانَ كَثِيرَ الْجُوعِ، بَعِيدَ الشِّبْعِ، يَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ، وَتُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ، وَرَأَى إعْرَاضَهُ عَنْ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَالِانْهِمَاكِ فِي لَذَّاتِهَا، وَنَفْضَ يَدَيْهِ مِنْ شَهَوَاتِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ عَنْ اخْتِيَارٍ لَا اضْطِرَارٍ، عَلِمَ وَتَحَقَّقَ أَنَّ التَّقَلُّلَ مِنْ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ، وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْ تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ - وَإِنْ كَانَ شَاكِرًا - عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْفَقِيرَ يَسْلَمُ مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ. وَيَسْبِقُ الْغَنِيَّ إلَى الْجَنَّةِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَهَلْ يَخْتَارُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ إلَّا أَكْمَلَ الْحَالَاتِ. وَهَلْ يَخْتَارُ الرَّسُولُ لِنَفْسِهِ إلَّا أَفْضَلَ الْمَقَامَاتِ.
وَقَدْ أَفْرَدْت لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً أَتَيْت فِيهَا بِأَكْثَرِ أَحَادِيثِ مَدْحِ الْفَقْرِ وَالْفُقَرَاءِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا
(الثَّانِي) : قَدْ تَرَادَفَتْ الْأَخْبَارُ، وَتَوَاتَرَتْ الْآثَارُ، بِذَمِّ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَمَدْحِ التَّقَلُّلِ مِنْهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَالزُّهْدِ فِيهَا وَفِي لَذَّاتِهَا.
قَالَ تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15] .
وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس: 24] الْآيَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] .
وَقَالَ {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] .
وَقَالَ {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16]{وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] .
وَقَالَ {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] .
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَالْمَتَاعُ هُوَ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ صَاحِبُهُ بُرْهَةً ثُمَّ يَنْقَطِعُ وَيَضْمَحِلُّ وَيَفْنَى. فَمَا عِيبَتْ الدُّنْيَا بِأَبْلَغَ مِنْ فَنَائِهَا، وَتَقَلُّبِ أَحْوَالِهَا.
وَهُوَ أَدُلُّ دَلِيلٍ عَلَى نُقْصَانِهَا وَزَوَالِهَا. فَتَتَبَدَّلُ صِحَّتُهَا بِالسَّقَمِ، وَوُجُودُهَا بِالْعَدَمِ، وَشَبِيبَتُهَا بِالْهَرَمِ، وَنَعِيمُهَا بِالْبُؤْسِ؛ وَحَيَاتُهَا بِالْمَوْتِ، فَتُفَارِقُ الْأَجْسَامَ النُّفُوسُ، وَعِمَارَتُهَا بِالْخَرَابِ، وَاجْتِمَاعُهَا بِفُرْقَةِ الْأَحْبَابِ. وَكُلُّ مَا فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابٌ.
كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه يَقُولُ: يَا دَارُ تُخَرَّبِينَ وَيَمُوتُ سُكَّانُكِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «عَجَبًا لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَسُرْعَةَ تَقَلُّبِهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا» مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَتَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ «اُعْبُدْ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، وَاعْدُدْ نَفْسَك فِي الْمَوْتَى، وَاذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وَكُلِّ شَجَرٍ، وَإِذَا عَمِلْت سَيِّئَةً فَاعْمَلْ بِجَنْبِهَا حَسَنَةً، السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطُوطًا صِغَارًا إلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، فَقَالَ هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ
مُحِيطٌ بِهِ أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ. وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ. فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا. وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَهَذِهِ صُورَةُ مَا خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ» وَتَقَدَّمَ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ عليه السلام «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلَّهِ عز وجل» رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالضِّيَاءِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرٍ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ.
قَالَ الْحَافِظ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَاعْلَمْ أَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا سَمِعُوا ذَمَّ الدُّنْيَا وَلَمْ يَفْهَمُوا الْمَذْمُومَ، وَظَنُّوا أَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي خُلِقَتْ لِلْمَنَافِعِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ فَأَعْرَضُوا عَمَّا يُصْلِحهُمْ مِنْهَا فَتَجَفَّفُوا فَهَلَكُوا. وَلَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي الطِّبَاعِ تَوَقَانَ النَّفْسِ إلَى مَا يُصْلِحُهَا، فَكُلَّمَا تَاقَتْ مَنَعُوهَا ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَجَهْلًا بِحُقُوقِ النَّفْسِ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْمُتَزَهِّدِينَ. كَذَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ مَسْكَنًا وَمَا عَلَيْهَا مَلْبَسٌ وَمَطْعَمٌ وَمَشْرَبٌ وَمُنْكَحٌ.
وَقَدْ جُعِلَتْ الْمَعَادِنُ
فِيهَا كَالْخَزَائِنِ فِيهَا مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالْآدَمِيُّ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِصَلَاحِ بَدَنِهِ الَّذِي هُوَ كَالنَّاقَةِ لِلْمُسَافِرِ، فَمَنْ تَنَاوَلَ مَا يُصْلِحُهُ لَمْ يُذَمَّ، وَمَنْ أَخَذَ فَوْقَ الْحَاجَةِ بِكَفِّ الشَّرَهِ وَقَعَ الذَّمُّ لِفِعْلِهِ وَأُضِيفَ إلَى الدُّنْيَا تَجَوُّزًا، وَلَيْسَ لِلشَّرَهِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ إلَى الْأَذَى وَيُشْغَلُ عَنْ طَلَبِ الْأُخْرَى فَيُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ وَيُضِرُّ، بِمَثَابَةِ مَنْ أَقْبَلَ يَعْلِفُ النَّاقَةَ وَيُبْرِدُ لَهَا الْمَاءَ، وَيُغَيِّرُ عَلَيْهَا أَنْوَاعَ الثِّيَابِ، وَيَنْسَى أَنَّ الرُّفْقَةَ قَدْ سَارَتْ فَإِنَّهُ يَبْقَى فِي الْبَادِيَةِ فَرِيسَةَ السِّبَاعِ هُوَ وَنَاقَتُهُ وَلَا وَجْهَ فِي التَّقْصِيرِ فِي تَنَاوُلِ الْحَاجَةِ مِنْ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ النَّاقَةَ لَا تَقْوَى عَلَى السَّيْرِ إلَّا بِتَنَاوُلِ مَا يُصْلِحُهَا. وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ. لَمْ يَخْرُجْ إلَّا مِنْ جَوْفِ صِدِّيقٍ وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَّقَهَا، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَمَطْلَبُ نُجْحٍ لِمَنْ سَالَمَ، فِيهَا مَسَاجِدَ اللَّهِ عز وجل، وَمَهْبِطُ وَحْيِهِ، وَمُصَلَّى مَلَائِكَتِهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَائِهِ، فِيهَا اكْتَسَبُوا الرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا الْعَافِيَةَ، فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَقَدْ آذَنَتْ بِبَنِيهَا، وَنَعَتْ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا، ذَمَّهَا قَوْمٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ، وَحَمِدَهَا آخَرُونَ ذَكَّرَتْهُمْ فَذُكِّرُوا، وَوَعَظَتْهُمْ فَانْتَهَوْا. فَيَا أَيُّهَا الذَّامُّ الدُّنْيَا الْمُغْتَرُّ بِتَغْرِيرِهَا مَتَى اُسْتُذِمَّتْ إلَيْك، بَلْ مَتَى غَرَّتْك، أَبِمَنَازِل آبَائِك فِي الثَّرَى، أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِك فِي الْبِلَى. كَمْ رَأَيْت مَوْرُوثًا. كَمْ عَلَّلْت بِكَفَّيْك عَلِيلًا. كَمْ مَرَّضْت بِيَدَيْك مَرِيضًا تَبْتَغِي لَهُ الشِّفَاءَ وَتَسْتَوْصِفُ لَهُ الْأَطِبَّاءَ، لَمْ تَنْفَعْهُ بِشَفَاعَتِك، وَلَمْ تُشْفِهِ بِطِلْبَتِك. مَثَّلَتْ لَك الدُّنْيَا غَدَاةَ مَصْرَعِهِ وَمَضْجَعُهُ مَضْجَعُك. ثُمَّ الْتَفَتَ رضي الله عنه إلَى الْمَقَابِرِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ، وَيَا أَهْلَ التُّرْبَةِ، أَمَّا الدُّورُ فَقَدْ سُكِنَتْ، وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ، وَأَمَّا الْأَزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ، فَهَذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا، فَهَاتُوا خَبَرَ مَا عِنْدَكُمْ. ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَمَّا لَوْ أُذِنَ لَهُمْ لَأَخْبَرُوكُمْ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَإِذْ قَدْ عَرَفْت الْمَذْمُومَ مِنْ الدُّنْيَا فَكُنْ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا تَأْخُذْ فَوْقَ مَا يُصْلِحُك، وَلَا تَمْنَعْ نَفْسَك حَظَّهَا الَّذِي يُقِيمُهَا. كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا أَكْلَ الرِّجَالِ، وَإِذَا فَقَدْنَا صَبْرَنَا صَبْرَ الرِّجَالِ. شِعْرٌ:
أَرَى الدُّنْيَا لِمَنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ
…
وَبَالًا كُلَّمَا كَثُرَتْ عَلَيْهِ
تُهِينُ الْمُكْرَمِينَ لَهَا بِصِغَرِ
…
وَتُكْرِمُ كُلَّ مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ
إذَا اسْتَغْنَيْت عَنْ شَيْءٍ فَدَعْهُ
…
وَخُذْ مَا أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ
وَاَللَّهِ لَقَدْ سَقَتْ الدُّنْيَا أَرْبَابَهَا سُمًّا، وَأَبْدَلَتْهُمْ مِنْ أَفْرَاحِهِمْ بِهَا هَمًّا، وَأَثَابَتْهُمْ عَلَى مَدْحِهِمْ لَهَا ذَمًّا، وَقَطَّعَتْ أَكْبَادَهُمْ فَمَاتُوا عَلَيْهَا غَمًّا. فَيَا مَشْغُولًا بِهَا تَوَقَّعْ خَطْبًا مُلِمًّا، إيَّاكَ وَالْأَمَلَ أَمَّا وَأَمَّا، كَمْ نَادَتْ الدُّنْيَا نَادِمًا، أَلْهَتْهُ بِالْمُنَادَمَةِ، حَتَّى سَفَكَتْ بِالْمُنَى دَمَهُ، وَصَاحَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَةُ، وَكَيْفَ يُبْصِرُ مَنْ فِي عَيْنِهِ كَمَهٌ. إيَّاكَ وَإِيَّاهَا فَإِنَّهَا تَسْحَرُ الْعُقُولَ بِالدَّمْدَمَةِ، وَتُحْسِرُ الْمَتْبُولَ بِالزَّمْزَمَةِ، فَشَمِّرْ عَنْ سَاقِ الْجِدِّ لِتَحْظَى بِدَارِ الْجَدِّ وَدَعْ الْقَمْقَمَةَ، فَإِنَّ بُعْدَ الْعَاقِلِ عَنْ دَارِ الْمَكْرِ مَكْرُمَةٌ شِعْرٌ:
أَبِالْمَنْزِلِ الْفَانِي تُؤَمِّلُ أَنْ تَبْقَى
…
كَفَاك بِمَا تَرْجُو وَتَأْمُلُهُ خِرْقَا
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ مُحْدَثٍ لَك فُرْقَةٌ
…
تَرَى خَطْبَهَا خَطْبًا جَلِيلًا وَإِنْ دَقَّا
لَعَمْرُكَ مَا الدُّنْيَا بِبَاقِيَةٍ وَلَا
…
بِهَا أَحَدٌ يَبْقَى فَيَطْمَعُ أَنْ يَبْقَى
كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لَنَا ذُنُوبٌ نَخَافُ عَلَى أَنْفُسِنَا مِنْهَا إلَّا حُبَّ الدُّنْيَا لَخَشِينَا عَلَى أَنْفُسِنَا. وَاَللَّهِ مَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ بُسِطَ لَهُ دُنْيَا فَلَمْ يَخَفْ أَنْ يَكُونَ قَدْ مُكِرَ بِهِ فِيهَا إلَّا كَانَ قَدْ نَقَصَ عَمَلُهُ وَعَجَزَ رَأْيُهُ. وَاَللَّهِ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَيَيْبَسُ جِلْدُهُ عَلَى عَظْمِهِ وَمَا بَيْنَهُمَا شَحْمٌ وَلَا لَحْمٌ يُدْعَى إلَى الدُّنْيَا حَلَالًا فَمَا يَقْبَلُ مِنْهَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا يَقُولُ أَخَافُ أَنْ تُفْسِدَ عَلَيَّ قَلْبِي. وَاَللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا وَصَحِبْنَا طَوَائِفَ مِنْهُمْ. وَاَللَّهِ لَهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ فِي الْحَلَالِ مِنْكُمْ فِي الْحَرَامِ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ اللَّيْثِ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عليه السلام رَأَى الدُّنْيَا فِي صُورَةِ عَجُوزٍ هَتْمَاءَ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ، فَقَالَ لَهَا كَمْ تَزَوَّجْت؟ قَالَتْ لَا أُحْصِيهِمْ قَالَ: فَكُلُّهُمْ مَاتَ عَنْك أَوْ كُلُّهُمْ طَلَّقَك؟ قَالَتْ: بَلْ كُلُّهُمْ قَتَلْت، فَقَالَ عِيسَى عليه السلام:" بُؤْسًا لِأَزْوَاجِك الْبَاقِينَ، كَيْفَ لَا يَعْتَبِرُونَ بِالْمَاضِينَ "؟
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: يُؤْتَى بِالدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ عَجُوزٍ شَمْطَاءَ زَرْقَاءَ أَنْيَابُهَا بَادِيَةٌ مُشَوَّهَةٌ خَلْقُهَا، فَتُشْرِفُ عَلَى