الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحَائِطِ أَطْعِمْنَا، فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ فَقَالَ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَأَخَذَ عُمَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْعِذْقَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ نَعَمْ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: خِرْقَةٌ كَفَّ بِهَا عَوْرَتَهُ، أَوْ كِسْرَةٌ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ جُحْرٌ يَتَدَخَّلُ فِيهِ مِنْ الْحَرِّ وَالْقَرِّ» .
وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَاهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَيْسَ لِابْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ: بَيْتٌ يَكُنُّهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَجِلْفُ الْخُبْزِ وَالْمَاءُ» الْجِلْفُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهُمَا فَاءٌ هُوَ غَلِيظُ الْخُبْزِ وَخَشِنُهُ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: هُوَ الْخُبْزُ لَيْسَ مَعَهُ أُدُمٌ وَلَا مَعْنَى لِكَثْرَةِ الْإِيرَادِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، مَعَ اشْتِهَارِهِ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاقْتِصَادَ مَحْمُودٌ، وَعَمَلٌ فَاعِلُهُ مَقْبُولٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ.
فَاقْتَصِدْ فِي كُلِّ شَيْءٍ
…
تَحْظَ بِالْعُقْبَى وَتُحْفَظْ
لَا تَكُنْ حُلْوًا فَتُؤْكَلْ
…
لَا وَلَا مُرًّا فَتُلْفَظْ
وَاغْتَنِمْ ذَا الْعُمُرَ وَاعْلَمْ
…
أَنَّهُ كَالدُّرِّ مَلْحَظْ
فَإِذَا فَرَّطَ فِيهِ الْمَرْءُ
…
لَمْ يُحْمَدْ وَيُكْعَظْ
نُحْ عَلَى عُمْرٍ تَقَضَّى
…
وَمَضَى لَهْوًا يُلَاحَظْ
سَاعَةٌ مِنْهُ تُسَاوِي
…
قِيمَةَ الدُّنْيَا وَتُدْحَضْ
أَيْنَ مَنْ يُبْصِرُ قَوْلِي
…
كَيْفَ وَالنَّاظِمُ أَجْحَظْ
رَبِّ خَلِّصْنِي لَعَلِّي
…
مِنْ قُيُودِ النَّفْسِ أَنْهَضْ
مَطْلَبٌ: الْغِنَى الْحَقِيقِيُّ غِنَى النَّفْسِ
فَمَنْ يَتَغَنَّى يُغْنِهِ اللَّهُ وَالْغِنَى
…
غِنَى النَّفْسِ لَا عَنْ كَثْرَةِ الْمُتَعَدِّدِ
(فَمَا) أَيْ أَيُّ إنْسَانٍ (يَتَغَنَّى) أَوْ كُلُّ إنْسَانِ يَتَغَنَّى أَيْ يُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ الْغِنَى وَالْعَفَافَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا بِالْمَالِ (يُغْنِهِ اللَّهُ) سبحانه وتعالى مَجْزُومٌ فِي
جَوَابِ مَنْ وَالْأَلِفُ فِي يَتَغَنَّى لِلْإِشْبَاعِ بَعْدَ حَذْفِ الْأَلِفِ. يُقَالُ تَغَنَّيْت وَتَغَانَيْت وَاسْتَغْنَيْت أَيْ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ.
ثُمَّ قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَالْغِنَى) الْحَقِيقِيُّ (غِنَى النَّفْس) بِالْعَفَافِ وَالْقَنَاعَةِ وَالِاقْتِصَادِ وَعَدَمِ الِانْهِمَاكِ فِي لَذَّاتِ الدُّنْيَا (لَا عَنْ كَثْرَةِ) الْمَالِ (الْمُتَعَدِّدِ) فَإِنَّهُ لَا يُوَرِّثُ غِنًى بَلْ يُوَرِّثُ مَزِيدَ الشَّرَهِ وَالِانْهِمَاكِ، فَكُلَّمَا نَالَ عَنْهُ شَيْئًا طَلَبَ شَيْئًا آخَرَ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَهْلَكَ.
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ هُوَ الْغِنَى؟ قُلْت نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ فَتَرَى قِلَّةَ الْمَالِ هُوَ الْفَقْرُ؟ قُلْت نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ إنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ، وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ، ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ هَلْ تَعْرِفُ فُلَانًا؟ قُلْت نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَكَيْفَ تَرَاهُ أَوْ تَرَاهُ؟ قُلْت إذَا سَأَلَ أُعْطِيَ، وَإِذَا حَضَرَ أُدْخِلَ، قَالَ ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَقَالَ هَلْ تَعْرِفُ فُلَانًا؟ فَقُلْت لَا وَاَللَّهِ مَا أَعْرِفُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا زَالَ يُحَلِّيهِ وَيُنْعِتُهُ حَتَّى عَرَفْتُهُ، فَقُلْت قَدْ عَرَفْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ فَكَيْفَ تَرَاهُ أَوْ تَرَاهُ؟ قُلْت هُوَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، قَالَ هُوَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ مِنْ الْآخَرِ، قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا يُعْطَى بَعْضَ مَا يُعْطَى الْآخَرُ؟ فَقَالَ إذَا أُعْطِيَ خَيْرًا فَهُوَ أَهْلُهُ، وَإِذَا صُرِفَ عَنْهُ فَقَدْ أُعْطِيَ حَسَنَةً» .
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اُنْظُرْ أَرْفَعَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ فَنَظَرْت فَإِذَا رَجُلٌ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، قُلْت هَذَا، قَالَ: قَالَ لِي اُنْظُرْ أَوْضَعَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ فَنَظَرْت فَإِذَا رَجُلٌ عَلَيْهِ أَخْلَاقٌ، قَالَ قُلْت هَذَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهَذَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ» .
وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَيْضًا وَمُوَطَّأِ مَالِكٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه وَفِيهِ «مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أَعْطَى اللَّهُ أَحَدًا عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» . الْعَرَضُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ هُوَ مَا يُقْتَنَى مِنْ الْمَالِ وَغَيْرِهِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه:
خَبَرْت بَنِي الدُّنْيَا فَلَمْ أَرَ مِنْهُمْ
…
سِوَى خَادِعٍ وَالْخُبْثُ حَشْوُ إهَابِهِ
فَجَرَّدْت عَنْ غِمْدِ الْقَنَاعَةِ صَارِمًا
…
قَطَعْت رَجَائِي مِنْهُمْ بِذُبَابِهِ
فَلَا ذَا يَرَانِي وَاقِفًا بِطَرِيقِهِ
…
وَلَا ذَا يَرَانِي قَاعِدًا عِنْدَ بَابِهِ
غَنِيٌّ بِلَا مَالٍ عَنْ النَّاسِ كُلِّهِمْ
…
وَلَيْسَ الْغِنَى إلَّا عَنْ الشَّيْءِ لَا بِهِ
وَقَالَ غَيْرُهُ وَأَحْسَنَ:
إذَا أَعْطَشَتْك أَكُفُّ اللِّئَامِ
…
كَفَتْك الْقَنَاعَةُ شِبَعًا وَرِيَّا
فَكُنْ رَجُلًا رِجْلُهُ فِي الثَّرَى
…
وَهَامَةُ هِمَّتِهِ فِي الثُّرَيَّا
وَقَالَ آخَرُ وَأَحْسَنَ:
وَمَنْ يَطْلُبْ الْأَعْلَى مِنْ الْعَيْشِ لَمْ يَزَلْ
…
حَزِينًا عَلَى الدُّنْيَا رَهِينَ غُبُونِهَا
إذَا شِئْت أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا فَلَا تَكُنْ
…
عَلَى حَالَةٍ إلَّا رَضِيت بِدُونِهَا
وَقَالَ هَارُونُ بْنُ جَعْفَرٍ:
بُوعِدَتْ هِمَّتِي وَقُورِبَ مَالِي
…
فَفِعَالِي مُقْصَرٌ عَنْ مَقَالِي
مَا اكْتَسَى النَّاسُ مِثْلَ ثَوْبِ اقْتِنَاعِ
…
وَهُوَ مِنْ بَيْنِ مَا اكْتَسَوْا سِرْبَالِي
وَلَقَدْ تَعْلَمُ الْحَوَادِثُ أَنِّي
…
ذُو اصْطِبَارٍ عَلَى صُرُوفِ اللَّيَالِي
وَقَالَ: مُؤَيِّدُ الدِّينِ فَخْرُ الْكِتَابِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالطُّغْرَاوِيِّ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ نِسْبَةً إلَى مَنْ يَكْتُبُ (الطُّغْرَا) - وَهِيَ الطُّرَّةُ الَّتِي تُكْتَبُ فِي أَعْلَى الْكُتُبِ فَوْقَ الْبَسْمَلَةِ بِالْقَلَمِ الْغَلِيظِ تَتَضَمَّنُ نُعُوتَ الْمَلِكِ وَأَلْقَابَهُ - فِي قَصِيدَتِهِ اللَّامِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ بِلَامِيَّةِ الْعَجَمِ: