الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِالسُّحْقِ وَالدَّهْرُ أَقْبَحُ فِعْلًا مِنْهُ، أَتُرَى يَعْنِي بِهِ الزَّمَانَ كَلًّا، فَإِنَّ مَمَرَّ الْأَوْقَاتِ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا وَإِنَّمَا هُوَ، فَكَانَ يَسْتَعْجِلُ الْمَوْتَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَسْتَرِيحُ.
وَكَانَ يُوصِي بِتَرْكِ النِّكَاحِ وَالنَّسْلِ، وَلَا يَرَى فِي الْإِيجَادِ حِكْمَةً إلَّا الْعَنَاءَ وَالتَّعَبَ وَمَصِيرُ الْأَبَدَانِ إلَى الْبِلَى، وَهَذَا لَوْ كَانَ كَمَا ظَنَّ كَانَ الْإِيجَادُ عَبَثًا وَالْحَقُّ مُنَزَّهٌ عَنْ الْعَبَثِ. قَالَ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا} [ص: 27] فَإِذَا كَانَ مَا خُلِقَ لَنَا لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا أَفَنَكُونُ نَحْنُ وَنَحْنُ مَوَاطِنُ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَالُّ تَكْلِيفِهِ قَدْ وُجِدْنَا عَبَثًا،
مَطْلَبٌ: فِي رَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَا فَائِدَةُ الْإِعْدَامِ بَعْدَ الْإِيجَادِ وَالِابْتِلَاءِ
مِمَّنْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْ أَذَانَا
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: رَأَيْت كَثِيرًا مِنْ الْمُتَغَفِّلِينَ يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ السُّخْطُ بِالْأَقْدَارِ وَفِيهِمْ مَنْ قَلَّ إيمَانُهُ فَأَخَذَ يَعْتَرِضُ، وَفِيهِمْ مَنْ خَرَجَ إلَى الْكُفْرِ، وَرَأَى أَنَّ مَا يَجْرِي كَالْعَبَثِ، وَقَالَ مَا فَائِدَةُ الْإِعْدَامِ بَعْدَ الْإِيجَادِ. وَالِابْتِلَاءِ مِمَّنْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْ أَذَانَا. فَقُلْت لِبَعْضِ مَنْ كَانَ يَرْمِزُ إلَى هَذَا: إنْ حَضَرَ عَقْلُك وَقَلْبُك حَدَّثْتُك. وَإِنْ كُنْت تَتَكَلَّمُ بِمُجَرَّدِ وَاقِعَتِك مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا إنْصَافٍ فَالْحَدِيثُ مَعَك ضَائِعٌ. وَيْحَكَ أَحْضِرْ عَقْلَك وَاسْمَعْ مَا أَقُولُ:
أَلَيْسَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ مَالِكٌ وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ كَيْفَ شَاءَ. أَلَيْسَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ حَكِيمٌ وَالْحَكِيمُ لَا يَعْبَثُ. وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ فِي نَفْسِك مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ شَيْئًا، فَإِنَّهُ قَدْ سَمِعْنَا عَنْ جَالِينُوسَ أَنَّهُ قَالَ مَا أَدْرِي أَحَكِيمٌ هُوَ أَمْ لَا. وَالسَّبَبُ فِي قَوْلِ هَذَا أَنَّهُ رَأَى نَقْضًا بَعْدَ إحْكَامٍ. فَقَاسَ الْحَالَ عَلَى أَحْوَالِ الْخَلْقِ. وَهُوَ أَنَّ مَنْ بَنَى ثُمَّ نَقَضَ لَا لِمَعْنًى فَلَيْسَ بِحَكِيمٍ. وَجَوَابُهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا أَنْ يُقَالَ بِمَاذَا بَانَ لَك أَنَّ النَّقْضَ لَيْسَ بِحِكْمَةٍ. أَلَيْسَ بِعَقْلِك الَّذِي وَهَبَهُ الصَّانِعُ لَك وَكَيْفَ يَهَبُ لَك الذِّهْنَ الْكَامِلَ وَيَفُوتُهُ هُوَ الْكَمَالُ. وَهَذِهِ الْمِحْنَةُ الَّتِي جَرَتْ لِإِبْلِيسَ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِعَيْبِ الْحِكْمَةِ بِعَقْلِهِ. فَلَوْ تَفَكَّرَ عَلِمَ أَنَّ وَاهِبَ الْعَقْلِ أَعْلَى مِنْ الْعَقْلِ. وَأَنَّ حِكْمَتَهُ أَوْفَى مِنْ كُلِّ حَكِيمٍ؛ لِأَنَّهُ بِحِكْمَتِهِ التَّامَّةِ أَنْشَأَ الْعُقُولَ. فَهَذَا إذَا تَأَمَّلَهُ الْمُنْصِفُ زَالَ عَنْهُ الشَّكُّ.
وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إلَى نَحْوِ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] أَيْ جَعَلَ لِنَفْسِهِ النَّاقِصَاتِ وَأَعْطَاكُمْ الْكَامِلِينَ. فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ نُضِيفَ الْعَجْزَ عَنْ فَهْمِ مَا يَجْرِي إلَى
أَنْفُسِنَا.
وَنَقُولَ هَذَا فِعْلُ عَالِمٍ حَكِيمٍ، وَلَكِنْ مَا تَبَيَّنَ لَنَا مَعْنَاهُ. وَلَيْسَ هَذَا بِعَجَبٍ. فَإِنَّ مُوسَى عليه السلام خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي نَقْضِ السَّفِينَةِ الصَّحِيحَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ الْجَمِيلِ، فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُ الْخَضِرُ وَجْهَ الْحِكْمَةِ أَذْعَنَ.
فَلْنَكُنْ مَعَ الْخَالِقِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ. أَلَسْنَا نَرَى الْمَائِدَةَ الْمُسْتَحْسَنَةَ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ فُنُونِ الطَّعَامِ النَّظِيفِ الظَّرِيفِ يُقَطَّعُ وَيُمْضَغُ وَلَا يُنْكَرُ الْإِفْسَادُ لَهُ، لِعِلْمِنَا بِالْمَصْلَحَةِ الْبَاطِنَةِ فِيهِ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ لَهُ بَاطِنٌ لَا نَعْلَمُهُ. وَمِنْ أَجْهَلِ الْجُهَّالِ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إذَا طَلَبَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى سِرِّ مَوْلَاهُ، فَإِنَّ فَرْضَهُ التَّسْلِيمُ لَا الِاعْتِرَاضُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الِابْتِلَاءِ بِمَا تُنْكِرُهُ الطِّبَاعُ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ إذْعَانَ الْعَقْلِ وَتَسْلِيمَهُ لَكَفَى.
قَالَ: وَلَقَدْ تَأَمَّلْت حَالَةً عَجِيبَةً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْمَوْتِ هِيَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ فِي غَيْبٍ لَا يُدْرِكُهُ الْإِحْسَاسُ، فَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ هَذِهِ الْبِنْيَةَ لَتَخَايَلَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ صُنْعٌ لَا يُصَانَعُ فَإِذَا وَقَعَ الْمَوْتُ عَرَفَتْ النَّفْسُ نَفْسَهَا الَّتِي كَانَتْ لَا تَعْرِفُهَا لِكَوْنِهَا فِي الْجَسَدِ، وَتُدْرِكُ عَجَائِبَ الْأُمُورِ بَعْدَ رَحِيلِهَا، فَإِذَا رُدَّتْ إلَى الْبَدَنِ عَرَفَتْ ضَرُورَةَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنْ أَعَادَهَا، وَتَذَكَّرَتْ حَالَهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْأَذْكَارَ تُعَادُ كَمَا تُعَادُ الْأَبْدَانُ، فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: 26] . وَمَتَى رَأَتْ مَا قَدْ وُعِدَتْ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، أَيْقَنَتْ يَقِينًا لَا شَكَّ مَعَهُ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِإِعَادَةِ مَيِّتٍ سِوَاهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ هَذَا الْأَمْرِ فِيهَا، فَيَبْنِي بِنِيَّةِ تَقَبُّلِ الْبَقَاءِ، وَيَسْكُنُ جَنَّةً لَا يَنْقَضِي دَوَامُهَا.
فَيَصْلُحُ بِذَلِكَ الْيَقِينُ أَنْ تُجَاوِرَ الْحَقَّ؛ لِأَنَّهَا آمَنَتْ بِمَا وَعَدَ، وَصَبَرَتْ بِمَا ابْتَلَى، وَسَلَّمَتْ لِأَقْدَارِهِ فَلَمْ تَعْتَرِضْ، وَرَأَتْ فِي غَيْرِهَا الْعِبَرَ ثُمَّ فِي نَفْسِهَا، فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28] {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29]{وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 30] . فَأَمَّا الشَّاكُّ وَالْكَافِرُ فَيَحِقُّ لَهُمَا الدُّخُولُ إلَى النَّارِ وَاللُّبْثُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمَا رَأَيَا الْأَدِلَّةَ وَلَمْ يَسْتَفِيدَا، وَنَازَعَا الْحَكِيمَ وَاعْتَرَضَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَفِعْ بِالدَّلِيلِ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْمَوْتِ وَالْإِعَادَةِ.
وَدَلِيلُ بَقَاءِ الْخُبْثِ فِي الْقُلُوبِ قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] .
فَنَسْأَلُ اللَّهَ عز وجل عَقْلًا مُسْلِمًا يَقِفُ عَلَى حَدِّهِ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى خَالِقِهِ
ثُمَّ الْوَيْلُ لِلْمُعْتَرِضِ أَيَرُدُّ اعْتِرَاضُهُ الْأَقْدَارَ.
فَمَا يَسْتَفِيدُ إلَّا الْخِزْيَ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: لَيْسَ فِي التَّكْلِيفِ أَصْعَبُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَلَا فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الرِّضَا بِهِ. فَأَمَّا الصَّبْرُ فَهُوَ فَرْضٌ، وَأَمَّا الرِّضَا فَهُوَ فَضْلٌ، وَإِنَّمَا صَعُبَ الصَّبْرُ؛ لِأَنَّ الْقَدَرَ يَجْرِي فِي الْأَغْلَبِ بِمَكْرُوهِ النَّفْسِ، وَلَيْسَ مَكْرُوهُ النَّفْسِ يَقِفُ عَلَى الْمَرَضِ وَالْأَذَى فِي الْبَدَنِ، بَلْ هُوَ يَتَنَوَّعُ حَتَّى يَتَحَيَّرُ الْعَقْلُ فِي جَرَيَانِهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّك إذَا رَأَيْت مَغْمُورًا بِالدُّنْيَا، قَدْ سَالَتْ لَهُ أَوْدِيَتُهَا حَتَّى لَا يَدْرِي مَا صَنَعَ بِالْمَالِ، فَهُوَ يَصُوغُهُ أَوَانِي يَسْتَعْمِلُهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبِلَّوْرَ وَالْعَقِيقَ وَالشَّبَهُ قَدْ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْهَا صُورَةً، غَيْرَ أَنَّ قِلَّةَ مُبَالَاتِهِ بِالشَّرِيعَةِ جَعَلَتْ عِنْدَهُ وُجُودُ النَّهْيِ كَعَدَمِهِ، وَيَلْبَسُ الْحَرِيرَ وَيَظْلِمُ النَّاسَ وَالدُّنْيَا مُنَصَّبَةٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُرَى خَلْقًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَطُلَّابِ الْعِلْمِ مَغْمُورِينَ بِالْفَقْرِ وَالْبَلَاءِ، مَقْهُورِينَ تَحْتَ وِلَايَةِ ذَلِكَ الظَّالِمِ، فَحِينَئِذٍ يَجِدُ الشَّيْطَانُ طَرِيقًا لِلْوَسْوَاسِ؛ وَيَبْتَدِئُ بِالْقَدْحِ فِي حِكْمَةِ الْقَدَرِ.
فَيَحْتَاجُ الْمُؤْمِنُ إلَى صَبْرٍ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْ الضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا. وَعَلَى جِدَالِ إبْلِيسَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي تَسْلِيطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالْفُسَّاقِ عَلَى أَهْلِ الدِّينِ. وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا إيلَامُ الْحَيَوَانِ وَتَعْذِيبُ الْأَطْفَالِ. فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ يَتَمَحَّضُ الْإِيمَانُ.
وَمِمَّا يُقَوِّي الصَّبْرَ عَلَى الْحَالَتَيْنِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ. أَمَّا النَّقْلُ فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَمُنْقَسِمٌ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ سَبَبِ إعْطَاءِ الْكَافِرِ وَالْعَاصِي. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] . {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] .
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16] . وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي ابْتِلَاءُ الْمُؤْمِنِ بِمَا يَلْقَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] . {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214] . {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 16] . وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمُنْقَسِمَةٌ إلَى قَوْلٍ وَحَالٍ. أَمَّا الْحَالُ فَإِنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَقَلَّبُ عَلَى رِمَالٍ وَحَصِيرٍ تُؤَثِّرُ فِي جَنْبَيْهِ، فَبَكَى عُمَرُ رضي الله عنه وَقَالَ «كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ. فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم أَفِي شَكٍّ أَنْتَ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا» .
وَأَمَّا الْقَوْلُ فَكَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا تُسَاوِي عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» .
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّهُ يُقَوِّي عَسَاكِرَ الصَّبْرِ بِجُنُودٍ. مِنْهَا أَنْ يَقُولَ: قَدْ ثَبَتَتْ عِنْدِي الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ بِحِكْمَةِ الْقَدَرِ. فَلَا أَتْرُكُ الْأَصْلَ الثَّابِتَ لِمَا يَظُنُّهُ الْجَاهِلُ خَلَلًا. وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: مَا قَدْ اسْتَهْوَلْته أَيُّهَا؛ النَّاظِرُ مِنْ بَسْطِ يَدِ الْعَاصِي فَإِنَّهُ قَبْضٌ فِي الْمَعْنَى. وَمَا قَدْ أَثَّرَ عِنْدَك مِنْ قَبْضِ يَدِ الطَّائِعِ فَإِنَّهُ بَسْطٌ فِي الْمَعْنَى.
لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَسْطَ يُوجِبُ عِقَابًا طَوِيلًا. وَهَذَا الْقَبْضُ يُؤْثِرُ انْبِسَاطًا فِي الْأَجْرِ جَزِيلًا. فَزَمَانُ الرَّجُلَيْنِ يَنْقَضِي عَنْ قَرِيبٍ. وَالْمَرَاحِلُ تُطْوَى وَالرُّكْبَانُ فِي الْحَدِيثِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِاَللَّهِ كَالْأَجِيرِ. وَأَنَّ زَمَنَ التَّكْلِيفِ كَبَيَاضِ نَهَارٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْتَعْمَلِ فِي الطِّينِ أَنْ يَلْبَسَ نَظِيفَ الثِّيَابِ. بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُصَابِرَ سَاعَاتِ الْعَمَلِ فَإِذَا فَرَغَ تَنَظَّفَ وَلَبِسَ أَجْوَدَ ثِيَابِهِ. فَمَنْ تَرَفَّهَ وَقْتَ الْعَمَلِ نَدِمَ وَقْتَ تَفْرِيقِ الْأُجْرَةِ. وَعُوقِبَ عَلَى الْتَوَانِي فِيمَا كُلِّفَ.
فَهَذِهِ النُّبَذُ تُقَوِّي أَزْرَ الصَّبْرِ. قَالَ وَأَزِيدُهَا بَسْطًا فَأَقُولُ: أَتَرَى إذَا أُرِيدَ اتِّخَاذُ شُهَدَاءَ فَكَيْفَ لَا يَخْلُقُ أَقْوَامًا يَبْسُطُ أَيْدِيَهُمْ لِقَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ.
أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ لِعُمَرَ إلَّا مِثْلُ أَبِي لُؤْلُؤَةَ. وَلِعَلِيٍّ إلَّا مِثْلُ ابْنِ مُلْجِمٍ.
أَفَيَصْلُحُ أَنْ يُقْتَلَ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الْأَحْبَارُ. وَلَوْ أَنَّ عَيْنَ الْفَهْمِ زَالَ عَنْهَا غِشَاءُ الْعَشَا لَرَأَتْ الْمُسَبِّبَ لَا الْأَسْبَابَ، وَالْمُقَدِّرَ لَا الْأَقْدَارَ، فَصَبَرَتْ عَلَى بَلَائِهِ إيثَارًا لِمَا يُرِيدُ. وَمِنْ هُنَا يَنْشَأُ الرِّضَا. كَمَا قِيلَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْبَلَاءِ: اُدْعُ اللَّهَ بِالْعَافِيَةِ. فَقَالَ أَحَبُّهُ إلَيَّ أَحَبُّهُ إلَى اللَّهِ عز وجل.
إنْ كَانَ رِضَاكُمْ فِي سَهَرِي
…
فَسَلَامُ اللَّهِ عَلَى وَسَنِي