الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنْ أُكَذِّبَهُمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى لَذَّاتِهِ وَأَمَرَ أَنْ يُحْجَبَ عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ كُلُّ مَا يَكْرَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي صَفْوِ عَيْشِهِ إذْ تَنَاوَلَتْ حُبَابَةُ حَبَّةَ رُمَّانٍ فَغَصَّتْ بِهَا فَمَاتَتْ، فَاخْتَلَّ عَقْلُهُ إلَى أَنْ نَبَشَهَا مِنْ قَبْرِهَا وَتَحَدَّثَ النَّاسُ فِي خَلْعِهِ مِنْ الْخِلَافَةِ وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَهَا غَيْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَفِيهَا يَقُولُ لَمَّا دُفِنَتْ:
فَإِنْ تَسْلُ عَنْكِ النَّفْسُ أَوْ تَدَعُ الْهَوَى
…
فَبِالْيَأْسِ تَسْلُو عَنْكِ لَا بِالتَّجَلُّدِ
انْتَهَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مَطْلَبٌ: سَبَبُ تَوْسِيعِ الرِّزْقِ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْحَمَاقَةِ
(الثَّالِثُ) : قَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ وَهُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ أَنْ يُوَسِّعَ الدُّنْيَا عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ وَالرَّقَاعَةِ، وَالْحَمَاقَةِ وَالْخَلَاعَةِ، وَيُضَيِّقَهَا عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، وَالْأَدَبِ وَالْفَهْمِ قَالَ الْحُكَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا يَعْنِي أَنَّ الْفُضَلَاءَ يُقَلَّلُ لَهُمْ، وَالْجُهَلَاءَ يُفَاضُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ الْفُضَلَاءُ أَنَّ الْفَضْلَ يَرْزُقُهُمْ، وَإِنَّمَا يَرْزُقُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَقُولُ: النُّفُوسُ إمَّا عُلْوِيَّةٌ مَلَكِيَّةٌ، هَمُّهَا طَلَبُ مَعَالِي الْأُمُورِ وَنَفَائِسِهَا وَمَا يُلْحِقُهَا بِعَالَمِهَا الْعُلْوِيِّ، وَإِمَّا سُفْلِيَّةٌ أَرْضِيَّةٌ تُرَابِيَّةٌ، غَايَةُ مَطْلَبِهَا وَمَرْكَزِهَا الْأُمُورُ التُّرَابِيَّةُ الْأَرْضِيَّةُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ دَنِيَّةٌ سُفْلِيَّةٌ أَرْضِيَّةٌ، فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ النُّفُوسِ السُّفْلِيَّةِ تَمَامُ الْمُنَاسَبَةِ، وَشَبَهُ الشَّيْءِ يَنْجَذِبُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَزِيدِ كُلْفَةٍ، بِخِلَافِ النُّفُوسِ الْعُلْوِيَّةِ، فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الدُّنْيَا تَمَامُ الْمُبَايَنَةِ، وَإِذَا فُرِضَ بَعْضُ اتِّفَاقِ مُخَالَطَةٍ فَهِيَ إلَى التَّنَافُرِ وَالتَّبَايُنِ أَقْرَبُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي:
أَوَدُّ مِنْ الْأَيَّامِ مَا لَا تَوَدُّهُ
…
وَأَشْكُو إلَيْهَا بَيْنَنَا وَهِيَ جُنْدُهُ
يُبَاعِدْنَ حُبًّا يَجْتَمِعْنَ وَوَصْلُهُ
…
فَكَيْفَ بِحُبٍّ يَجْتَمِعْنَ وَصَدُّهُ
أَبِي خُلُقُ الدُّنْيَا حَبِيبًا تُدِيمُهُ
…
فَمَا طَلَبِي مِنْهَا حَبِيبًا تَرُدُّهُ
وَأَسْرَعُ مَفْعُولٍ فَعَلْتَ تَغَيُّرًا
…
تَكَلُّفُ شَيْءٍ فِي طِبَاعِك ضِدُّهُ
وَقَالَ أَرِسْطُو طَالِيسَ: الْأَشْكَالُ لَاحِقَةٌ بِأَشْكَالِهَا، كَمَا أَنَّ الْأَضْدَادَ مُبَايِنَةٌ لِأَضْدَادِهَا. وَقَالَ الْمُتَنَبِّي:
وَشَبَهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ
…
وَأَشْبَهَنَا بِدُنْيَانَا الطَّغَامُ
وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ: رَأَيْت جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَشْغَلُهُمْ طَلَبُهُمْ لِلْعِلْمِ فِي زَمَنِ الصِّبَا عَنْ الْمَعَاشِ، فَيَحْتَاجُونَ إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ
فَلَا يَصِلُهُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، وَلَا مِنْ صِلَاتِ الْإِخْوَانِ مَا يَكْفِي، فَيَحْتَاجُونَ إلَى التَّعَرُّضِ بِالْإِذْلَالِ، فَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ إلَّا سَبَبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: قَمْعُ إعْجَابِهِمْ بِهَذَا الْإِذْلَالِ.
وَالثَّانِي: نَفْعُ أُولَئِكَ بِثَوَابِهِمْ. ثُمَّ أَمْعَنْت الْفِكْرَ فَتَلَمَّحْتُ نُكْتَةً لَطِيفَةً، وَهِيَ أَنَّ النَّفْسَ الْأَبِيَّةَ إذَا رَأَتْ حَالَ الدُّنْيَا كَذَلِكَ لَمْ تُسَاكِنْهَا بِالْقَلْبِ، وَنَبَتْ عَنْهَا بِالْعَزْمِ، وَرَأَتْ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهَا مَزْبَلَةً عَلَيْهَا الْكِلَابُ، وَإِنَّمَا تُؤْتَى لِضَرُورَةٍ، فَإِذَا نَزَلَ الْمَوْتُ بِالرِّحْلَةِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْقَلْبِ بِهَا مُتَعَلِّقٌ يَتَمَكَّنُ فَتَهُونُ حِينَئِذٍ.
وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ نَثْرًا وَنَظْمًا، وَيُسْنِدُونَ ذَلِكَ لِلزَّمَانِ وَالدَّهْرِ وَالدُّنْيَا عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الْمَجَازِ وَإِلَّا فَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ لَا غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ الْوَرْدِيِّ فِي لَامِيَّتِهِ:
قَاطِعْ الدُّنْيَا فَمِنْ عَادَاتِهَا
…
تُخْفِضُ الْعَالِي وَتُعْلِي مَنْ سَفَلْ
عِيشَةُ الزَّاهِدِ فِي تَحْصِيلِهَا
…
عِيشَةُ الْجَاهِلِ بَلْ هَذَا أَذَلّ
كَمْ جَهُولٍ وَهُوَ مُثْرٍ مُكْثِرْ
…
وَعَلِيلٍ مَاتَ مِنْهَا بِعِلَلْ
كَمْ شُجَاعٍ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا الْمُنَى
…
وَجَبَانٍ نَالَ غَايَاتِ الْأَمَلِ
وَقَوْلُ الطُّغْرَائِيِّ فِي لَامِيَّةِ الْعَجَمِ:
أَهَبْت بِالْحَظِّ لَوْ نَادَيْت مُسْتَمِعَا
…
وَالْحَظُّ عَنِّي بِالْجُهَّالِ فِي شُغُلِ
لَعَلَّهُ إنْ بَدَا فَضْلِي وَنَقْصُهُمْ
…
لَعَيْنِهِ نَامَ عَنْهُمْ أَوْ تَنَبَّهَ لِي
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: قَالَ الْحَظُّ لِلْعَقْلِ: إنْ شِئْت سِرْ أَوْ أَقِمْ فَإِنِّي مُسْتَغْنٍ عَنْك.
وَقَالَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ:
مَا ضَرَّ جَهْلُ الْجَاهِلِينَ
…
وَلَا انْتَفَعْت أَنَا بِحِذْقِي
وَزِيَادَتِي فِي الْحِذْقِ فَهِيَ
…
زِيَادَتِي فِي نَقْصِ رِزْقِي
وَقَالَ شَمْسُ الدِّينِ الْحَكِيمُ بْنُ دَانْيَالَ:
قَدْ عَقَلْنَا وَالْعَقْلُ أَيُّ وَثَاقِ
…
وَصَبَرْنَا وَالصَّبْرُ مُرُّ الْمَذَاقِ
كُلُّ مَنْ كَانَ فَاضِلًا كَانَ مِثْلِي
…
فَاضِلًا عِنْدَ قِسْمَةِ الْأَرْزَاقِ
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ: