الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَطْلَبٌ: فِي التَّحْذِيرِ عَنْ الْإِعْجَابِ وَالْكِبْرِ
وَإِيَّاكَ وَالْإِعْجَابَ وَالْكِبْرَ تَحْظَ بِالسَّعَادَةِ
…
فِي الدَّارَيْنِ فَارْشُدْ وَأَرْشِدْ
(وَإِيَّاكَ) أَيُّهَا الطَّالِبُ الَّذِي حَصَّلَ أَسْنَى الْمَطَالِبِ (وَالْإِعْجَابَ) أَيْ احْذَرْهُ وَانْفِرْ مِنْهُ وَلَا تُسَاكِنْهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ رُؤْيَةِ النَّفْسِ وَالرِّضَا عَنْهَا وَاسْتِشْعَارِ وَصْفِ كَمَالٍ. وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ بِأَنَّ الْكِبْرَ خُلُقٌ بَاطِنٌ يَصْدُرُ عَنْهُ أَعْمَالٌ، وَذَلِكَ الْخُلُقُ هُوَ رُؤْيَةُ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَنْ يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ. وَالْعُجْبُ يُتَصَوَّرُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ غَيْرُ الْمُعْجِبِ. وَقَدْ يَكُونُ الْكِبْرُ نَاشِئًا عَنْ الْعُجْبِ، فَإِنَّ مَنْ أُعْجِبَ بِشَيْءٍ تَكَبَّرَ بِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إنَّمَا يَكُونُ الْعُجْبُ لِاسْتِشْعَارِ وَصْفِ كَمَالٍ، وَمَنْ أُعْجِبَ بِعِلْمِهِ اسْتَعْظَمَهُ، فَكَأَنَّهُ يَمُنُّ عَلَى الْخَالِقِ سبحانه وتعالى بِطَاعَتِهِ، وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّهَا جُعِلَتْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَوْضِعًا، وَأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ بِهَا جَزَاءً. وَمَنْ أُعْجِبَ بِعَمَلِهِ مَنَعَهُ عُجْبُهُ مِنْ الِازْدِيَادِ. وَعِلَّةُ الْعُجْبِ الْجَهْلُ الْمَحْضُ.
(وَ) إيَّاكَ وَ (الْكِبْرَ) فَإِنَّهُ آفَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَعْصِيَةٌ جَسِيمَةٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ مَثَالِبِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعَادَةِ. فَإِنْ أَنْتَ اجْتَنَبْتهمَا وَأَبْعَدْت عَنْهُمَا وَلَمْ تُسَاكِنْهُمَا وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمَا (تَحْظَ بِالسَّعَادَةِ) أَيْ تَمِلْ إلَيْهَا وَتَظْفَرْ بِهَا. وَالسَّعَادَةُ خِلَافُ الشَّقَاوَةِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا (فِي الدَّارَيْنِ) أَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَذَا فِي الْبَرْزَخِ وَهُوَ مَا بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّهُ بِالْآخِرَةِ أَشْبَهُ.
فَكَأَنَّ النَّاظِمَ أَلْحَقَهُ بِالْآخِرَةِ (فَارْشُدْ) مِنْ رَشَدَ أَيْ اتَّخِذْ الرُّشْدَ وَاتَّصِفْ بِهِ فِي ذَاتِك، يُقَالُ رَشَدَ كَنَصَرَ وَفَرِحَ رُشْدًا وَرَشَدًا وَرَشَادًا اهْتَدَى (وَأَرْشِدْ) لِغَيْرِك، مِنْ أَرْشَدَ، لِتَكُونَ عَالِمًا عَامِلًا مُعَلِّمًا، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ رَبَّانِيًّا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الرُّشْدُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَطْلَبٌ: فِي لُزُومِ التَّوْبَةِ]
(خَاتِمَةٌ) : فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّوْبَةِ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهَا وَاجِبَةٌ لِوُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَنْظُومَةِ إمَّا لِاشْتِهَارِ الْكَلَامِ
عَلَيْهَا، وَإِمَّا لِكَوْنِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ خَاتِمَةً لِمَنْظُومَتِهِ الْكُبْرَى فِي الْفِقْهِ. وَذَكَرَهَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي صَدْرِ الْآدَابِ الْكُبْرَى. فَرَأَيْت أَنْ أَخْتِمَ بِهَا هَذَا الشَّرْحَ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
مَطْلَبٌ: فِي لُزُومِ التَّوْبَةِ شَرْعًا لَا عَقْلًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: تَلْزَمُ التَّوْبَةُ شَرْعًا لَا عَقْلًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، كُلُّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَدْ أَثِمَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَقِيلَ غَيْرَ مَظْنُونٍ. قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِمَّا يَظُنُّ أَنَّهُ إثْمٌ. وَقِيلَ لَا، وَلَا تَجِبُ بِدُونِ تَحَقُّقِ إثْمٍ.
قَالَ فِي الْآدَابِ: وَالْحَقُّ وُجُوبُ قَوْلِهِ إنِّي تَائِبٌ إلَى اللَّهِ مِنْ كَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مَذْهَبًا؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَالنَّدَمُ لَا يُتَصَوَّرُ مَشْرُوطًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا حَصَلَ أَبْطَلَ النَّدَمَ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا شَكَّ فِي الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ هَلْ هُوَ قَبِيحٌ أَمْ لَا فَهُوَ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ هَذَا التَّفْرِيطِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِفَةِ قُبْحِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ حُسْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ أُخِذَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ قَبِيحٍ وَلَا عَلَى مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا. فَإِذَا قَدِمَ عَلَى فِعْلٍ يَشُكُّ أَنَّهُ قَبِيحٌ فَإِنَّهُ مُفَرِّطٌ. وَذَلِكَ التَّفْرِيطُ ذَنْبٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: فَمَنْ تَابَ تَوْبَةً عَامَّةً كَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا إلَّا أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْعَامَّ مُعَارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ. مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ إيَّاهُ. أَوْ لِاعْتِقَادِ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَتَصِحُّ مِنْ بَعْضِ ذُنُوبِهِ فِي الْأَصَحِّ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. نَعَمْ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ أَصَرَّ عَلَى مِثْلِهِ مِثْلُ أَنْ يَتُوبَ مِنْ زِنَاهُ يَوْمَ كَذَا أَوْ فِي فُلَانَةَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الزِّنَا بِغَيْرِهَا أَوْ بِهَا. وَإِنَّمَا تَابَ مِنْ الزِّنَا الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ أَوَّلًا دُونَ مَا يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى أَصْلِ فِعْلِ الزِّنَا. فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنْهُ حِينَئِذٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالتَّوْبَةُ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الْعُرْفِ النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ. وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهَا دَائِمًا لِلَّهِ عز وجل لَا لِأَجْلِ نَفْعِ الدُّنْيَا أَوْ أَذَى النَّاسِ. وَأَنْ لَا يَكُونَ عَلَى إكْرَاهٍ أَوْ إلْجَاءٍ. بَلْ اخْتِيَارٍ حَالَ
التَّكْلِيفِ. وَقِيلَ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ إنِّي تَائِبٌ إلَيْك مِنْ كَذَا وَكَذَا.
وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْمُسْتَوْعِبِ. فَظَاهِرُ هَذَا اعْتِبَارُ التَّوْبَةِ بِالتَّلَفُّظِ وَالِاسْتِغْفَارِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا.
قَالَ: وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِاعْتِبَارِهِمَا وَلَا أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا انْتَهَى. وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ اعْتِبَارِ وَاحِدٍ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَأَنْ يَكُونَ إذَا ذَكَرَهَا يَعْنِي الْمَعْصِيَةَ انْزَعَجَ قَلْبُهُ وَتَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ وَلَمْ يَرْتَحْ لِذِكْرِهَا وَلَا يُنَمِّقُ فِي الْمَجَالِسِ صِفَتَهَا. فَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ تَوْبَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَذِرَ إلَى الْمَظْلُومِ عَنْ ظُلْمِهِ مَتَى كَانَ ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا مُطْمَئِنًّا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَظْلَمَةِ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ وَقِلَّةِ الْفِكْرَةِ بِالْجُرْمِ السَّابِقِ، وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِخِدْمَةِ الْمُعْتَذَرِ إلَيْهِ، وَيُجْعَلُ كَالْمُسْتَهْزِئِ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْ لَا.
قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُمْكِنَ الْمُنَازَعَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ وَقْتَ النَّدَمِ وَالْغَرَضُ النَّدَمُ الْمُعْتَبَرُ وَقَدْ وُجِدَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ تَكَرُّرِهِ كُلَّمَا ذَكَرَ الذَّنْبَ. وَأَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ وَعَدَمُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ تَجْدِيدُ النَّدَمِ إذَا ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُوَافِقُونَ غَيْرَهُمْ فِي أَنَّ تَوْبَتَهُ السَّابِقَةَ لَا تَبْطُلُ بِمُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ: وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّدَمَ تَوْبَةٌ مَعَ شَرْطِ الْعَزْمِ أَنْ لَا يَعُودَ وَرَدُّ الْمَظْلَمَةِ مِنْ يَدِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ النَّدَمُ مَعَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ هُوَ التَّوْبَةُ وَلَيْسَ فِيهَا شَرْطٌ بَلْ هِيَ بِمَجْمُوعِهَا شَرْطٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا «النَّدَمُ تَوْبَةٌ، وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» وَلَيْسَ لِلْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَقُولُوا أَجْمَعْنَا عَلَى احْتِيَاجِهَا إلَى الْعَزْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ وَلَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّوْبَةَ. كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ شَرْطِهَا الطَّهَارَةُ وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا وَلَيْسَتْ هِيَ الصَّلَاةُ؛ وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ النَّدَمُ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ