الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَطْلَبٌ: فِي آدَابِ النِّكَاحِ
وَلَمَّا فَرَغَ النَّاظِمُ مِنْ آدَابِ النَّوْمِ أَخَذَ يَتَكَلَّمُ عَلَى آدَابِ النِّكَاحِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ التَّنَاسُلُ، وَعَمَارُ الدُّنْيَا، وَقَدَّمَ فِي صَدْرِ ذَلِكَ الْحَثَّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِأَخْذِ النَّصِيحَةِ وَالْحَزْمِ، فَإِنَّ إهْمَالَ نَصَائِحِ النُّصَّاحِ مِنْ أَقْوَى الْمُضِرَّاتِ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَقَالَ:
فَخُذْ لَك مِنْ نُصْحِي أُخَيَّ وَصِيَّةً
…
وَكُنْ حَازِمًا وَاحْضُرْ بِقَلْبٍ مُؤَبَّدِ
(فَخُذْ لَك مِنْ) خَالِصِ (نُصْحِي) يُقَالُ نَصَحَهُ وَنَصَحَ لَهُ كَمَنَعَهُ نُصْحًا وَنَصَاحَةً وَنَصَاحِيَةً وَهُوَ نَاصِحٌ وَنَصِيحٌ، وَالِاسْمُ النَّصِيحَةُ، وَنَصَحَ خَلِصَ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النَّصِيحَةِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ يَا (أُخَيَّ) تَصْغِيرُ أَخٍ، وَالْأُخُوَّةُ مِنْ النَّسَبِ وَالصَّدِيقِ وَالصَّاحِبِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ (وَصِيَّةً) مَفْعُولُ خُذْ.
وَالْوَصِيَّةُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَالْأَنْبِيَاءِ فِي أُمَمِهِمْ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَبْرَارِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَدَفَاتِرِ الْعُلَمَاءِ (وَكُنْ) أَيُّهَا الْأَخُ الْمُسَاعِدُ عَلَى نَجَاةِ نَفْسِهِ وَتَخْلِيصِهَا مِنْ الْآفَاتِ وَإِنْقَاذِهَا مِنْ التَّبَعَاتِ (حَازِمًا) أَيْ عَاقِلًا فَهِمًا ضَابِطًا.
قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْحَزْمُ ضَبْطُ الْأَمْرِ وَالْأَخْذُ فِيهِ بِالثِّقَةِ كَالْحَزَامَةِ وَالْحُزُومَةِ، يُقَالُ حَزُمَ كَكَرُمَ فَهُوَ حَازِمٌ وَحَزِيمٌ (وَاحْضُرْ) لِاسْتِمَاعِ وَصِيَّتِي وَتَلَقِّي مَوْعِظَتِي (بِقَلْبٍ) أَيْ بِعَقْلٍ وَفَهْمٍ وَذَوْقٍ (مُؤَبَّدِ) أَيْ قَائِمٍ مُخَلَّدٍ غَيْرِ مُتَعْتَعٍ، وَلَا مُخْتَلِجٍ، بَلْ صَامِدٌ مُتَهَيِّئٌ لِأَخْذِ مَا يُلْقَى إلَيْهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالنَّصَائِحِ.
مَطْلَبٌ: لَا يَنْكِحُ الْكَبِيرُ الشَّابَّةَ وَفِيهِ كَلَامٌ نَفِيسٌ
وَلَا تَنْكِحَنْ إنْ كُنْت شَيْخًا فَتِيَّةً
…
تَعِشْ فِي ضِرَارِ الْعَيْشِ أَوْ تَرْضَ بِالرَّدِي
(وَلَا تَنْكِحَنْ) أَيْ لَا تَتَزَوَّجَنْ (إنْ كُنْت) أَنْتَ (شَيْخًا) أَيْ بَلَغْت سِنَّ الشَّيْخُوخَةِ.
قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخُونُ مَنْ اسْتَبَانَتْ فِيهِ السِّنُّ أَوْ مِنْ خَمْسِينَ أَوْ إحْدَى وَخَمْسِينَ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ أَوْ إلَى ثَمَانِينَ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الشَّيْخُ مِنْ الْخَمْسِينَ إلَى السَّبْعِينَ، وَالشَّبَابُ مِنْ الْبُلُوغِ إلَى الثَّلَاثِينَ، وَالْكَهْلُ مِنْ الثَّلَاثِينَ إلَى الْخَمْسِينَ ثُمَّ هُوَ شَيْخٌ إلَى السَّبْعِينَ.
وَالْهَرِمُ مِنْ
السَّبْعِينَ إلَى أَنْ يَمُوتَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالشَّيْخِ مَنْ بَانَتْ فِيهِ السِّنُّ، فَنَهَاهُ النَّاظِمُ أَنْ يَنْكِحَ (فَتِيَّةً) وَهِيَ مَنْ بَلَغَتْ إلَى حَدِّ الثَّلَاثِينَ كَالْفَتَى، مِثْلُ الشَّابِّ وَالشَّابَّةِ، فَإِنَّك إنْ نَكَحْت وَأَنْتَ شَيْخٌ شَابَّةً (تَعِشْ) مَعَهَا (فِي ضِرَارِ الْعَيْشِ) مِنْ احْتِمَالِكَ لِمَا يَبْدُو مِنْهَا مِنْ بَذَاذَةِ اللِّسَانِ وَسُوءِ الْعِشْرَةِ وَالتَّبَرُّمِ مِنْك، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ مَا تَجِدُ عِنْدَك مِنْ بُغْيَةِ النِّسَاءِ وَطِلْبَتِهِنَّ، فَإِنَّ غَايَةَ مَقْصُودِ النِّسَاءِ الْجِمَاعُ الَّذِي عَجَزْت عَنْهُ لِكِبَرِ سِنِّك، فَأَنْتَ فِي سِنِّ الْكِبَرِ وَقَدْ غَلَبَتْ عَلَيْك الْبُرُودَةُ، وَهِيَ فِي سِنِّ الشَّبَابِ وَقَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْحَرَارَةُ وَالشَّبَقُ، فَأَنْتُمَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ
سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسَارَ مُغَرِّبًا
…
شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ
(أَوْ) أَيْ إنْ لَمْ تَحْبِسْهَا عَنْ نَيْلِ شَهَوَاتِهَا وَتَقْصُرْهَا عَلَيْك (تَرْضَ بِ) الْفِعْلِ (الرَّدِي) وَهُوَ الزِّنَا الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ، وَكُنْت حِينَئِذٍ دَيُّوثًا وَالدَّيُّوثُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَخَسِرْت عِرْضَك وَتَنَغَّصَتْ عَلَيْك عِيشَتُك، وَخَسِرْت آخِرَتَك، وَذَلِكَ هُوَ الْخَسْرَانُ الْمُبِينُ.
وَلِذَا قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَمِنْ التَّغْفِيلِ أَنْ يَتَزَوَّجُ شَيْخٌ صَبِيَّةً. وَفِي صَيْدِ الْخَاطِرِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ مَعَ كِبَرِ سِنِّهِ وَضَعْفِ قُوَّتِهِ وَأَنَّ نَفْسَهُ تَطْلُبُ مِنْهُ شِرَاءَ الْجَوَارِي الصِّغَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ يُرِدْنَ النِّكَاحَ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْكَبِيرِ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ: يَنْبَغِي لَك أَنْ تَشْتَغِلَ بِذَكَرِ الْمَوْتِ، وَمَا قَدْ تَوَجَّهْت إلَيْهِ، وَأَنْ تَحْذَرَ مِنْ اشْتِرَاءِ جَارِيَةٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ حَقِّهَا فَإِنَّهَا تَبْغَضُكَ، فَإِنْ أَجْهَدْت نَفْسَك اسْتَعْجَلْت التَّلَفَ، وَإِنْ اسْتَبْقَيْت قُوَّتَك غَضِبَتْ هِيَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُرِيدُ شَيْخًا كَيْفَ كَانَ.
قَالَ: وَقَدْ أَنْشَدَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ
أَفِقْ يَا فُؤَادِي مِنْ غَرَامِك وَاسْتَمِعْ
…
مَقَالَةَ مَحْزُونٍ عَلَيْك شَفِيقِ
عَلِقْت فَتَاةً قَلْبُهَا مُتَعَلِّقٌ
…
بِغَيْرِك فَاسْتَوْثَقْت غَيْرَ وَثِيقِ
فَأَصْبَحْت مَوْثُوقًا وَرَاحَتْ طَلِيقَةً
…
فَكَمْ بَيْنَ مَوْثُوقٍ وَبَيْنَ طَلِيقِ
ثُمَّ قَالَ: فَاعْلَمْ أَنَّهَا تَعُدُّ عَلَيْك الْأَيَّامَ، وَتَطْلُبُ مِنْك فَضْلَ الْمَالِ لِتَسْتَعِدَّ