الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طَلَبُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِخْلَاصِ لَزِمَ الدَّوْرُ، انْتَهَى. وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خُلَاصَةَ التَّحْقِيقِ، وَدَقِيقَةَ التَّدْقِيقِ وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
مَطْلَبٌ: فِي الْحَثِّ عَلَى الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِلْمِ الْعَمَلَ، فَمَنْ تَرَكَهُ لَمْ يَنَلْ إلَّا الْخَيْبَةَ وَالْوَجَلَ، وَالنَّدَامَةَ وَالْخَجَلَ. أَمَرَك النَّاظِمَ بِهِ فَقَالَ:
وَكُنْ عَامِلًا بِالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْته
…
لِيُهْدَى بِك الْمَرْءُ الَّذِي بِك يَقْتَدِي
(وَكُنْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ، الَّذِي فِي مَرْضَاةِ مَوْلَاك رَاغِبًا (عَامِلًا بِالْعِلْمِ) الَّذِي بَذَلْت وُسْعَك فِي تَحْصِيلِهِ، وَتَبْوِيبِهِ وَتَفْصِيلِهِ، وَتَرَكْت فِيهِ الرُّقَادَ، وَرَفَضْت لِأَجْلِهِ الْمِهَادَ وَالْوِسَادَ، وَصَرَمْت النِّسَاءَ وَالْأَوْلَادَ، وَهَجَرْت الْوَطَنَ وَالْمِيلَادَ، وَأَلِفْت السُّهَادَ، وَعَزَفْت الْأَخْدَانَ وَالْأَحْفَادَ، وَالْإِخْوَانَ وَالْأَجْدَادَ (فِيمَا) أَيْ الْقَدْرِ الَّذِي (اسْتَطَعْته) مِنْ ذَلِكَ، وَمَعْنَى اسْتَطَاعَ أَطَاقَ، وَيُقَالُ اسْطَاعَ بِحَذْفِ التَّاءِ اسْتِثْقَالًا لَهَا مَعَ الطَّاءِ، وَيَكْرَهُونَ إدْغَامَ الطَّاءِ فِيهَا فَتُحَرَّكُ السِّينُ وَهِيَ لَا تُحَرَّكُ أَبَدًا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ {فَمَا اسْطَاعُوا} [الكهف: 97] بِالْإِدْغَامِ، فَجَمَعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَهَذَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ عِلْمٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ.
وَلِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ قَالَ: نُبِّئْت أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ تَتَأَذَّى أَهْلُ النَّارِ بِرِيحِهِ، فَقَالَ لَهُ: وَيْلك مَا كُنْت تَعْمَلُ أَمَا يَكْفِينَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِّ حَتَّى اُبْتُلِينَا بِك وَبِنَتِنِ رِيحِك، فَيَقُولُ كُنْت عَالِمًا فَلَمْ أَنْتَفِعْ بِعِلْمِي. فَاعْمَلْ أَيُّهَا الْأَخُ بِعِلْمِك لِتَسْلَمَ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَ (لِيُهْدَى) أَيْ يُرْشَدُ وَيُسْعَدُ بِالِاقْتِدَاءِ (بِك) أَيْ بِعَمَلِك الصَّالِحِ، وَكَدْحِك النَّاجِحِ (الْمَرْءُ) أَيْ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى (الَّذِي بِك) أَيْ بِعَمَلِك وَجِدِّك وَاجْتِهَادِك فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى (يَقْتَدِي) أَيْ يَتَّبِعُ وَيَسْتَنُّ بِسُنَّتِك، مُشْتَقٌّ مِنْ الْقُدْوَةِ بِتَثْلِيثِ الْقَافِ وَكَعِدَّةِ مَا سَنَنْت بِهِ وَاقْتَدَيْت بِهِ.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلِيَحْذَرْ الْعَالِمُ وَلِيَجْتَهِدْ فَإِنَّ ذَنْبَهُ أَشَدُّ. نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ
عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه قَالَ: الْعَالِمُ يُقْتَدَى بِهِ لَيْسَ الْعَالِمُ مِثْلَ الْجَاهِلِ.
وَمَعْنَاهُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: يُغْفَرُ لِسَبْعِينَ جَاهِلًا قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِعَالِمٍ وَاحِدٍ.
قَالَ: وَقَالَ شَيْخُنَا - يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ فَذَنْبُهُ مِنْ جِنْسِ ذَنْبِ الْيَهُودِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَفِي الْقَوْلِ الْعَلِيِّ لِشَرْحِ أَثَرِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ عَلِيٍّ مَا يَكْفِي وَيَشْفِي.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّاسَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَنْ رُزِقَ عِلْمًا وَأُعِينَ بِقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَهُمْ خُلَاصَةُ الْخَلْقِ وَمُرَادُ الْحَقِّ جَلَّ شَأْنُهُ فِي قَوْلِهِ:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الأعراف: 42] .
الثَّانِي: مَنْ حُرِمَهُمَا مَعًا، وَهُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْبَرِّيَّةِ، يُضَيِّقُونَ الدِّيَارَ، وَيُغَلُّونَ الْأَسْعَارَ، وَعِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ، وَلَكِنَّ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ. كَمَا قِيلَ فِيهِمْ وَفِي أَضْرَابِهِمْ وَجُلِّهِمْ إذَا فَكَّرْت فِيهِمْ حَمِيرٌ أَوْ كِلَابٌ أَوْ ذِئَابٌ. وَكَقَوْلِ الْبُحْتُرِيِّ:
لَمْ يَبْقَ مِنْ جُلِّ هَذَا النَّاسِ بَاقِيَةٌ
…
يَنَالُهَا الْوَهْمُ إلَّا هَذِهِ الصُّوَرُ
الثَّالِثُ: مَنْ فُتِحَ عَلَيْهِ بَابُ الْعِلْمِ وَأُغْلِقَ عَنْهُ بَابُ الْعَمَلِ وَالْعَزْمِ، فَهَذَا فِي رُتْبَةِ الْجَاهِلِ بَلْ شَرٌّ مِنْهُ. وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مَرْفُوعًا «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا، فَهَذَا جَهْلُهُ وَعِلْمُهُ سَوَاءٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ جَهْلُهُ أَخَفَّ لِعَذَابِهِ مِنْ عِلْمِهِ، فَمَا زَادَهُ الْعِلْمُ إلَّا وَبَالًا، مَعَ عَدَمِ الطَّمَعِ فِي صَلَاحِهِ، بِخِلَافِ التَّائِهِ عَنْ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يُرْجَى لَهُ الْعَوْدُ إلَيْهَا إذَا أَبْصَرَهَا، وَأَمَّا مَنْ رَآهَا وَحَادَ عَنْهَا فَمَتَى تُرْجَى هِدَايَتُهُ؟ ، الرَّابِعُ: مَنْ رُزِقَ حَظًّا مِنْ الْعَمَلِ وَالْإِرَادَةِ وَلَكِنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَهَذَا إذَا وَافَقَ لَهُ الِاقْتِدَاءُ بِدَاعٍ مِنْ دُعَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] الْآيَة. وَيُقَالُ: إذَا فَسَدَ الْعَالِمُ فَسَدَ لِفَسَادِهِ الْعَالَمُ.