الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَلَمَّا كَانَ الصِّيَامُ مُجَرَّدَ تَرْكِ حُظُوظِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي جُبِلَتْ عَلَى الْمِيلِ إلَيْهَا لِلَّهِ عز وجل أَضَافَهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ، مَعَ أَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُ تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: طُوبَى لِمَنْ تَرَكَ شَهْوَةَ حَاضِرِهِ لِمَوْعِدٍ غُيِّبَ لَمْ يَرَهُ.
مَطْلَبٌ: التَّقَرُّبُ بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَهَجْرِ اللَّذَّاتِ.
فِيهِ فَوَائِدُ وَفِي التَّقَرُّبِ بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَهَجْرِ اللَّذَّاتِ فَوَائِدُ: مِنْهَا كَسْرُ النَّفْسِ فَإِنَّ الِانْهِمَاكَ فِي اللَّذَّاتِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ تَحْمِلُ النَّفْسَ عَلَى الْأَشَرِ وَالْبَطَرِ وَالْغَفْلَةِ، وَمِنْهَا تَخَلِّي الْقَلْبِ لِلْفِكْرِ وَالذِّكْرِ، فَإِنَّ تَنَاوُلَ الشَّهَوَاتِ وَالِانْهِمَاكَ فِي اللَّذَّاتِ، قَدْ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيُعْمِيهِ وَيَحُولُ بَيْن الْعَبْدِ وَبَيْنَ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَيَسْتَدْعِي الْغَفْلَةَ، وَخُلُوَّ الْبَاطِنِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يُنَوِّرُ الْقَلْبَ وَيُوجِبُ رِقَّتَهُ وَيُزِيلُ قَسْوَتَهُ، وَمِنْهَا الِاشْتِغَالُ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا مِنْ دِرَاسَةِ الْعِلْمِ وَالْإِمْعَانِ فِي تَفَهُّمِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَمِنْهَا الْإِعْرَاضُ وَالنَّزَاهَةُ عَنْ اشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إلَى النَّجَاسَةِ فَكُلَّمَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ حَمْلُهُ لِلنَّجَاسَةِ أَكْثَرُ، وَغَايَةُ الِالْتِذَاذِ بِذَلِكَ فِي مِقْدَارِ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ يَسْتَوِي طَيِّبُهُ وَخَبِيثُهُ. فَمَنْ رَاقَبَ هَذِهِ الْحَالَةَ تَرَكَ الِانْهِمَاكَ فِي اللَّذَّاتِ لَا مَحَالَةَ.
وَلَمَّا كَانَ فِي هَجْرِ اللَّذَّاتِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ قَمْعٌ لِلنَّفْسِ وَهَوَاهَا. قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
مَطْلَبٌ: فِي ذَمِّ الْهَوَى
وَأَنَّ عِزَّ النُّفُوسِ فِي مُخَالَفَةِ هَوَاهَا:
وَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا
…
وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذُلٌّ سَرْمَدُ
(وَفِي قَمْعِ) أَيْ صَرْفِ (أَهْوَاءِ) جَمْعُ هَوًى بِالْقَصْرِ مَيْلُ (النُّفُوسِ) إلَى الشَّيْءِ وَفِعْلُهُ هَوَى يَهْوَى هَوًى مِثْلُ عَمِي يَعْمَى عَمًى، وَأَمَّا هَوًى بِالْفَتْحِ فَهُوَ السُّقُوطُ وَمَصْدَرُهُ الْهُوِيُّ بِالضَّمِّ، وَيُطْلَقُ الْهَوَى عَلَى نَفْسِ الْمَحْبُوبِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إنَّ الَّتِي زَعَمْت فُؤَادَك مَلَّهَا
…
خَلَقَتْ هَوَاك كَمَا خَلَقْت هَوًى لَهَا
وَيُقَالُ هَذَا هَوَى فُلَانٍ وَفُلَانَةُ هَوَاهُ أَيْ مُهْوِيَتُهُ وَمَحْبُوبَتُهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِينَ مُصْعِدٌ
…
جَنُوبًا وَجُثْمَانِي بِمَكَّةَ مُوثَقُ
وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحُبِّ الْمَذْمُومِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] .
وَيُقَالُ إنَّمَا سُمِّيَ هَوًى؛ لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ إلَى النَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي مُخَالَفَةِ النُّفُوسِ لِهَوَاهَا (اعْتِزَازُهَا) أَيْ قُوَّتُهَا وَمَنْعَتُهَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَجُنُودِهِ وَعَدَمُ ذُلِّهَا، فَلَمَّا قَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ بِمِقْمَعَةِ الْمُتَابَعَةِ وَضَرَبَهَا بِسِيَاطِ الِاقْتِدَاءِ، وَصَرَفَهَا بِزِمَامِ التَّقْوَى، حَصَلَ لَهَا الْعِزُّ وَالِامْتِنَاعُ، وَالْقُوَّةُ وَالِارْتِفَاعُ، بِحُسْنِ الِاتِّبَاعِ، وَمُخَالَفَةِ الِابْتِدَاعِ. يُقَالُ قَمَعَهُ كَمَنَعَهُ ضَرَبَهُ بِالْمِقْمَعَةِ وَقَهَرَهُ وَذَلَّلَهُ كَأَقْمَعَهُ. وَيُقَالُ عَزَّ عِزًّا وَعِزَّةً بِكَسْرِهِمَا وَعِزَازَةً صَارَ عَزِيزًا كَتَعَزَّزَ وَقَوِيَ بَعْدَ ذُلِّهِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عِدَّةُ آيَاتٍ فِي ذَمِّ الْهَوَى كَقَوْلِهِ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} [الفرقان: 43]، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه: تَفْسِيرُهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ مِنْ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ، وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] : الْمُرَادُ بِهَذَا الْهَوَى مَا مُنِعَ مِنْهُ وَحُرِمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَفْتَقِرُ إلَى تَرْكِهِ فِي أَوْقَاتٍ لِئَلَّا يَحْمِلَ إلَى مَا يُؤْذِي، وَالْكُلُّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِيَاضَةٍ؛ وَالْآدَمِيُّ كَالْفَرَسِ إذَا أَنْتَجَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَائِضٍ، فَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا حَرَّكَتْ الرِّيَاضَةُ أَصْلَهُ الْجَيِّدَ فَظَهَرَ جَوْهَرُهُ، كَمَا أَنَّ الْمَسَّ يُؤَثِّرُ فِي الْفُولَاذِ، وَإِنْ كَانَ كَوْدَنًا مَنَعَتْ بَعْضُ أَخْلَاقِهِ الرَّدِيئَةِ، كَمَا أَنَّ الْحَدِيدَ قَدْ يُقْطَعُ، وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ خُلِقَ عَلَى صِفَةٍ حَسَنَةٍ تُؤَدِّبُهُ نَفْسُهُ وَيُقَوِّمُهُ عَقْلُهُ، فَتَأْتِي الرِّيَاضَةُ بِتَمَامِ التَّقْوِيمِ وَكَمَالِ التَّعْلِيمِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِلُّ ذَلِكَ فِي جَوْهَرِهِ فَيَفْتَقِرُ إلَى زِيَادَةِ رِيَاضَةٍ، وَيَتْرُكُ الْمَحْبُوبَاتِ عَلَى كُرْهٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ رِيَاضَةِ هَذَا لِيُفَارِقَ الْمُؤْذِيَ كَيْفَ اتَّفَقَ. وَالرِّيَاضَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَتُؤَثِّرَ فِي حَقِّ الشَّرَهِ تَقْلِيلُ الْمَطْعَمِ إلَى أَنْ يَعُودَ إلَى حَالَةِ الِاعْتِدَالِ، وَأَخْذِ مَا يَصْلُحُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إعْطَاءِ النَّفْسِ مَا يُوَافِقُهَا فِي مَصَالِحِهَا، فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا» وَكَذَلِكَ الشَّرَهُ فِي
النِّكَاحِ وَجَمْعِ الْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ نَرُدُّهُ بِالرِّيَاضَةِ عَمَّا يُؤْذِي، وَنَأْمُرُ الْمُتَكَبِّرَ بِالتَّوَاضُعِ، وَنَأْمُرُ السَّيِّئَ الْخُلُقَ بِالِاحْتِمَالِ وَالصَّفْحِ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ: الْهَوَى مَيْلُ النَّفْسِ إلَى مَا يُلَائِمُهَا، وَهَذَا الْمَيْلُ خُلِقَ فِي الْإِنْسَانِ لِضَرُورَةِ بَقَائِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا مَيْلُهُ إلَى الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمُنْكَحِ مَا أَكَلَ وَلَا شَرِبَ وَلَا نَكَحَ. فَالْهَوَى سَاحِبٌ لَهُ لِمَا يُرِيدُهُ، كَمَا أَنَّ الْغَضَبَ دَافِعٌ عَنْهُ مَا يُؤْذِيه، فَلَا يَنْبَغِي ذَمُّ الْهَوَى مُطْلَقًا وَلَا مَدْحُهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُذَمُّ الْمُفْرِطُ مِنْ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ.
وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ مِمَّنْ يُطِيعُ هَوَاهُ وَشَهْوَتَهُ وَغَضَبَهُ أَنَّهُ لَا يَقِفُ فِيهِ عَلَى حَدِّ الْمُنْتَفِعِ بِهِ، أَطْلَقَ ذَمَّ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ لِعُمُومِ غَلَبَةِ الضَّرَرِ؛ لِأَنَّهُ يَنْدُرُ مَنْ يَقْصِدُ الْعَدْلَ فِي ذَلِكَ وَيَقِفُ عِنْدَهُ، كَمَا أَنَّهُ يَنْدُرُ فِي الْأَمْزِجَةِ الْمِزَاجُ الْمُعْتَدِلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَلَبَةِ أَحَدِ الْأَخْلَاطِ وَالْكَيْفِيَّاتِ عَلَيْهِ، فَحِرْصُ النَّاصِحِ عَلَى تَعْدِيلِ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَحِرْصِ الطَّبِيبِ عَلَى تَعْدِيلِ الْمِزَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَذَّرُ وُجُودُهُ إلَّا فِي حَقِّ أَفْرَادٍ مِنْ الْعَالَمِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى الْهَوَى فِي كِتَابِهِ إلَّا ذَمَّهُ، وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ لَمْ يَجِئْ إلَّا مَذْمُومًا إلَّا مَا جَاءَ مِنْهُ مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ» .
وَتَقَدَّمَ التَّنْصِيصُ عَلَى هَذَا، وَقَدْ قِيلَ: الْهَوَى كَمِينٌ لَا يُؤْمَنُ وَمُطْلِقُهُ يَدْعُو اللَّذَّةَ الْحَاضِرَةَ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ فِي الْعَاقِبَةِ، وَيَحْثُ عَلَى نَيْلِ الشَّهَوَاتِ عَاجِلًا، وَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا لِأَعْظَمِ الْآلَامِ أَجْلًا وَرُبَّمَا يَكُونُ عَاجِلًا أَيْضًا، فَالْهَوَى وَالنَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ وَالدُّنْيَا يَدْعُونَ إلَى مَا فِيهِ الْبَوَارُ، وَيُعْمِينَ عَيْنَ الْبَصِيرَةِ عَنْ النَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ وَمَا يُغْضِبُ وَيُرْضِي الْجَبَّارَ، وَالدِّينُ وَالْمُرُوءَةُ وَالْعَقْلُ وَالرُّوحُ يَنْهَيْنَ عَنْ لَذَّةٍ تَعْقُبُ أَلَمًا، وَشَهْوَةً تُورِثُ نَدَمًا. وَلَمَّا اُبْتُلِيَ الْمُكَلَّفُ وَامْتُحِنَ بِالْهَوَى مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْبَهَائِمِ، وَكَانَ كُلُّ وَقْتٍ تَحْدُثُ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ جُعِلَ فِيهِ حَاكِمَانِ حَاكِمُ الْعَقْلِ وَحَاكِمُ الدِّينِ.
وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَمَرَّنَ عَلَى دَفْعِ الْهَوَى الْمَأْمُونِ الْعَوَاقِبِ، لِيَتَمَرَّنَ بِذَلِكَ عَلَى تَرْكِ مَا تُؤْذِي عَوَاقِبُهُ. وَلِيَعْلَمَ اللَّبِيبُ أَنَّ مُدْمِنِي الشَّهَوَاتِ يَصِيرُونَ إلَى
حَالَةٍ لَا يَلْتَذُّونَ بِهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَرْكَهَا، لِأَنَّهَا صَارَتْ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْشِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ.
وَلِيَعْلَمَ الْعَاقِلُ الْمُؤْمِنُ أَنَّ الْهَوَى حِظَارُ جَهَنَّمَ الْمُحِيطُ بِهَا حَوْلَهَا، فَمَنْ وَقَعَ فِيهِ وَقَعَ فِيهَا، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» .
وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ أَرْسَلَ إلَيْهَا جِبْرِيلُ فَقَالَ اُنْظُرْ إلَيْهَا، وَإِلَى مَا أَعْدَدْت لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَجَاءَ فَنَظَرَ إلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَرَجَعَ إلَيْهِ وَقَالَ وَعِزَّتُك لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ عِبَادِك إلَّا دَخَلَهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُجِبَتْ بِالْمَكَارِهِ، وَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهَا فَانْظُرْ إلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُجِبَتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ وَعِزَّتُك لَقَدْ خَشِيت أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: اذْهَبْ إلَى النَّارِ فَانْظُرْ إلَيْهَا، وَإِلَى مَا أَعْدَدْت لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَرَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ: وَعِزَّتُك لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهَا، فَرَجَعَ إلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَرَجَعَ إلَيْهِ وَقَالَ: وَعِزَّتُك لَقَدْ خَشِيت أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ شَهَوَاتُ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ وَمُضِلَّاتِ الْهَوَى» . وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ هَوًى مُتَّبَعًا.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: مُخَالَفَةُ الْهَوَى تُورِثُ الْعَبْدَ قُوَّةً فِي بَدَنِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْغَالِبُ لِهَوَاهُ أَشَدُّ مِنْ الَّذِي يَفْتَحُ الْمَدِينَةَ وَحْدَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» . وَكُلَّمَا تَمَرَّنَ عَلَى مُخَالَفَةِ هَوَاهُ اكْتَسَبَ قُوَّةً عَلَى قُوَّتِهِ، وَبِمُخَالَفَتِهِ لِهَوَاهُ تَعْظُمُ حُرْمَتُهُ وَتَغْزُرُ مُرُوءَتُهُ. قَالَ مُعَاوِيَةُ خَالُ الْمُؤْمِنِينَ: الْمُرُوءَةُ تَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَعِصْيَانُ الْهَوَى.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذَا أَشْكَلَ عَلَيْك أَمْرٌ أَنْ لَا تَدْرِيَ أَيَّهمَا أَرْشَدُ