الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَمَّا كَانَ لَا يَسْتَغْنِي كُلُّ إنْسَانٍ عَنْ مُخَالَطَةِ أَبْنَاءِ الزَّمَانِ، إذْ الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ وَمُفْتَقِرٌ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِالْوَضْعِ، بَيَّنَ لَك النَّاظِمُ مَنْ تُخَالِطُ مَعَ اسْتِعْمَالِ الْحَمِيَّةِ عَنْ التَّخْلِيطِ، وَاسْتِصْحَابِ الْيَقَظَةِ مِنْ التَّخْبِيطِ، وَالتَّحَرُّزِ مِنْ التَّفْرِيطِ.
فَقَالَ:
مَطْلَبٌ: فِي مُخَالَطَةِ أَهْلِ التُّقَى وَالتَّعَبُّدِ
وَفِيهِ بَيَانُ مَعْنَى التَّوْفِيقِ:
وَخَالِطْ إذَا خَالَطْت كُلَّ مُوَفَّقٍ
…
مِنْ الْعُلَمَا أَهْلِ التُّقَى وَالتَّعَبُّدِ
(وَخَالِطْ) أَيُّهَا الْأَخُ الْمُسْتَرْشِدُ وَالْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَنْجِدُ (إذَا خَالَطْت) أَحَدًا مِنْ أَبْنَاءِ زَمَانِك، وَعَاشَرْت شَخْصًا مِنْ إخْوَانِك وَأَخْدَانِك، وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى اسْتِدَامَةِ الْعُزْلَةِ، أَوْ احْتَجْت لِإِصْلَاحِ بَعْضِ أُمُورِ دِينِك عَلَى يَدِ إمَامٍ رَاسِخٍ رَحْلُهُ (كُلَّ) مَفْعُولُ خَالِطْ (مُوَفَّقٍ) لِطُرُقِ الْخَيْرَاتِ، مُهْتَدٍ لِسُبُلِ السَّعَادَاتِ، مُسَدَّدٍ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، غَيْرِ مَخْذُولٍ وَلَا مُفْرِطٍ، وَلَا جَهُولٍ وَلَا مُخَلِّطٍ، وَالتَّوْفِيقُ مَصْدَرُ وَفَّقَ يُوَفِّقُ.
قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: التَّوْفِيقُ إرَادَةُ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِعَبْدِهِ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْعَبْدُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيهِ مُرِيدًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُبَغِّضُ إلَيْهِ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَهَذَا مُجَرَّدُ فِعْلِهِ تَعَالَى وَالْعَبْدُ مَحَلُّهُ.
قَالَ وَفَسَّرَتْ الْقَدَرِيَّةُ التَّوْفِيقَ بِأَنَّهُ خُلُقُ الطَّاعَةِ، وَالْخِذْلَانَ خُلُقُ الْمَعْصِيَةِ، انْتَهَى.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: التَّوْفِيقُ خُلُقٌ لَطِيفٌ يَعْلَمُ الرَّبُّ تَعَالَى أَنَّ الْعَبْدَ يُؤْمِنُ عِنْدَهُ، وَالْخِذْلَانُ مَحْمُولٌ عَلَى امْتِنَاعِ اللُّطْفِ. حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي الْإِرْشَادِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ الْمِرْدَاوِيُّ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ: وَفَّقَ أَيْ سَهَّلَ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ، وَالْمُوَفِّقُ اسْمُ فَاعِلٍ هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوَفِّقُ الْعِبَادَ أَيْ يُرْشِدُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ إلَى طَاعَتِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَفْقِ وَالْمُوَافَقَةِ وَهِيَ الْتِحَامٌ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ.
وَقَالَ الْبَغَوِيّ: التَّوْفِيقُ مِنْ اللَّهِ خَلْقُ قُدْرَةِ الطَّاعَةِ وَتَسْهِيلُ سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَعَكْسُهُ الْخِذْلَانُ.
مَطْلَبٌ: مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ أَشْرَفُ الْمَقَامَاتِ
.
فَأَرْشَدَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا خَالَطَ فَلْتَكُنْ خُلْطَتُهُ لِمُوَفَّقٍ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِمَا فِيهِ سَعَادَتُهُ وَنَجَاتُهُ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُوَفَّقُ (مِنْ الْعُلَمَا) جَمْعُ عَالِمٍ وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَصَرَهُ لِضَرُورَةِ الْوَزْنِ، وَذَلِكَ لِأَجْلِ اسْتِفَادَتِهِ مَعْرِفَةَ الْأَحْكَامِ، مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَإِصْلَاحِ دِينِهِ، وَرُسُوخِهِ وَتَمْكِينِهِ (أَهْلِ التُّقَى) صِفَةٌ لَازِمَةٌ أَوْ كَاللَّازِمَةِ لِلْعُلَمَاءِ (وَ) أَهْلِ (التَّعَبُّدِ) وَالْخُضُوعِ، وَالذُّلِّ وَالْخُشُوعِ، وَرَفْعِ الْأَيْدِي وَسَفْحِ الدُّمُوعِ
بَيْنَ يَدَيْ عَالِمِ السِّرِّ وَالنَّجْوَى، وَكَاشِفِ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى.
وَهَذِهِ مِنْ صِفَاتِ عُلَمَاءِ الْآخِرَةِ الَّذِينَ عُلُومُهُمْ زَاخِرَةٌ، وَنُفُوسُهُمْ طَاهِرَةٌ، وَمَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ اخْتَارَهُ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ عَلَى مَقَامِ الْمُلْكِ وَهُوَ مَقَامٌ عَظِيمٌ، وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ بِهِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ كَمَقَامِ التَّنْزِيلِ فِي قَوْلِهِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] وَمَقَامِ الدَّعْوَةِ فِي قَوْلِهِ {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] . وَفِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ فِي قَوْلِهِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] .
«وَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يَوْمَ الْفَتْحِ فَارْتَعَدَ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْك إنِّي لَسْت بِمَلِكٍ إنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» . وَصَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «جَلَسَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مَلَكٌ مَهُولٌ، فَقَالَ جِبْرِيلُ إنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمَ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنَا إلَيْك رَبُّك أَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُك أَمْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: فَتَوَاضَعْ لِرَبِّك يَا مُحَمَّدُ، قَالَ بَلْ عَبْدًا رَسُولًا» .
وَمِنْ مَرَاسِيلِ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ» خَرَّجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ.
وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَتَانِي مَلَكٌ فَقَالَ إنَّ رَبَّك يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ وَيَقُولُ لَك: إنْ شِئْت نَبِيًّا مَلِكًا، وَإِنْ شِئْت نَبِيًّا عَبْدًا فَأَشَارَ إلَيَّ جِبْرِيلَ عليه السلام ضَعْ نَفْسَك فَقُلْت نَبِيًّا عَبْدًا. قَالَتْ فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا وَيَقُولُ: آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ» .
قُلْت: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مَا وَلَفْظُهُ «أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى أَرْسَلَ إلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ الْمَلَكُ إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يُخَيِّرُك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَلِكًا، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ، فَأَشَارَ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا بَلْ أَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا. فَمَا أَكَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَامًا مُتَّكِئًا» .
وَمِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ قَالَ «بَلَغَنَا أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَلَكٌ لَمْ يَأْتِهِ قَبْلَهَا وَمَعَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ الْمَلَكُ وَجِبْرِيلُ صَامِتٌ إنَّ رَبَّك يُخَيِّرُك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا، فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَأْمِرِ، فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا» قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَزَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْكُلْ مُنْذُ قَالَهَا مُتَّكِئًا. وَتَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ فِي آدَابِ الْأَكْلِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ غُنْيَةٌ.
وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَقَوْلِهَا لَهُ «يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَكَلْت وَأَنْتَ مُتَّكِئٌ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْك، فَأَصْغَى بِجَبْهَتِهِ إلَى الْأَرْضِ حَتَّى كَادَ يَمَسُّ بِهَا الْأَرْضَ وَقَالَ بَلْ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَنَا جَالِسٌ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ» .
قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ ادَّعَى الْعُبُودِيَّةَ وَلَهُ مُرَادٌ بَاقٍ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ، إنَّمَا تَصِحُّ الْعُبُودِيَّةُ لِمَنْ أَفْنَى مُرَادَاتِهِ وَقَامَ بِمُرَادِ سَيِّدِهِ يَكُونُ اسْمُهُ مَا يُسَمَّى بِهِ وَنَعْتُهُ مَا حُلِّيَ بِهِ، إذَا دُعِيَ بِاسْمِهِ أَجَابَ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ، فَلَا اسْمَ لَهُ وَلَا رَسْمَ وَلَا يُجِيبُ إلَّا لِمَنْ يَدْعُوهُ بِعُبُودِيَّةِ سَيِّدِهِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا عَمْرُو ثَارِي عِنْدَ زَهْرَاءَ
…
يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي
لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا
…
فَإِنَّهُ أَصْدَقُ أَسْمَائِي
وَقَالَ آخَرُ:
مَالِي وَلِلْفَقْرِ إلَى عَاجِزٍ
…
مِثْلِي لَا يَمْلِكُ إغْنَائِي
وَإِنَّمَا يَحْسُنُ فَقْرِي إلَى
…
مَالِكٍ إسْعَادِي وَإِشْقَائِي
أَتِيهُ عَجَبًا بِانْتِمَائِي إلَى
…
أَبْوَابِهِ إذْ قُلْت مَوْلَائِي
لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهُ
…
فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي