الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم:
100- أوحد الزمان وهو أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي ثم البغدادي
«13»
طبيب لو رام الصخر الجلمد لتفجّر، أو إمساك الماء السائل لتحجّر، بمداومة نظر لو صابرت الزمان لتضجّر، أو فرّعت حصا الدهناء «1» لتشجّر. بعلم أوسع امتدادا من المشرقين، وأجمع مدى مما بين الخافقين. كان يصون وديعة العلم ويحفظها، ويغيظ بكتمانها صدور الرجال ويخفضها، ونسيمه تهبّ خافقته، وشميمه تفتت عنبر الغمام بارقته.
قال ابن أبي أصيبعة «2» :" كان يهوديا وأسلم، وخدم المستنجد. وتصانيفه في النهاية «3» ، وكان له اهتمام بالغ في العلوم، ونظره فائق فيها.
بدأ بالطب على أبي الحسن سعيد بن هبة الله «4» ، وكان لا يقرئ يهوديا ولا نصرانيا، فثقل عليه أبو البركات بالناس، ليقرئه فلم يفعل، فصحب بوّاب داره، ليتوصل به إلى غرضه، وكان يقعد في الدهليز فيسمع جميع ما يقرأ عليه، وما يجري معه من البحث، وهو كلما فهم شيئا وتعقّله علّقه عنده.
فلما مضت سنة أو نحوها، جرت مسألة عند الشيخ وبحثوا فيها فلم يتّجه لهم عنها جواب، فدخل أبو البركات، وخدم، وقال للشيخ: عن أمر مولانا أتكلّم في هذه المسألة؟.
فقال: قل. فأجاب عنها بشيء من كلام جالينوس. ثم قال: وهذا كان بحثكم في اليوم الفلاني، في ميعاد فلان!!.
فعجب الشيخ منه، ومن حرصه، فقال: من يكون هكذا ما يستحل أن نمنعه، فصار من أجلّ تلامذته.
ومن نوادره أن مريضا عرض له الماليخوليا، وكان يعتقد أن على رأسه دنّا، وأنه لا يفارقه أبدا، وكان كلّما مشى يتحايد المواضع التي سقوفها قصيرة، ويمشي برفق ولا يترك أحدا يدنو منه، حتى لا يميل الدّن، أو يقع على رأسه، وبقي هذا المرض مدّة طويلة وهو في شدّة منه، وعالجته جماعة من الأطبّاء، ولم يحصل بمعالجتهم تأثير ينتفع به، وأنهي أمره إلى أوحد الزمان، ففكّر أنه ما بقي شيء يمكنه أن يبرأ به إلا بالأمور الوهمية.
فقال لأهله: إذا كنت في الدار فأتوني به.
ثم إن أوحد الزمان أمر أحد غلمانه بأن ذلك المريض إذا دخل عليهم وشرع في الكلام، وأشار إلى الغلام بعلامة بينهما، أنه يسارع بخشبة كبيرة فيضرب بها فوق رأس المريض على بعد منه، كأنه يريد كسر الدنّ الذي يزعم أنه على راسه. وأوصى غلاما آخر، وكان قد أعدّ معه دنّا في أعلى السطح، أنه متى رأى ذلك الغلام قد ضرب فوق رأس صاحب الماليخوليا أن يرمي الدنّ الذي معه بسرعة إلى الأرض.
ولما كان أوحد الزمان في داره وأتاه من غير علم المريض، فأقبل عليه، وقال:
لا بدّ أن أكسر هذا الدّن، وأريحك منه.
ثم أدار تلك الخشبة التي معه، وضرب بها فوق رأسه بنحو ذراع، وعند ذلك رمى الغلام الدّنّ من أعلى السطح، فكانت له وجبة «1» عظيمة، وكسر قطعا كبيرا. فلمّا عاين المريض ما فعل به، ورأى الدّنّ المتكسّر، تأوّه لكسرهم إياه، ولم يشكّ أنه هو الذي كان على رأسه بزعمه، وأثّر فيه الوهم أثرا برىء به من علّته تلك!.
وهذا باب عظيم في المداواة، وقد جرى أمثال ذلك لجماعة من المتقدّمين مثل جالينوس وغيره «2» في مداواتهم بالأمور الوهمية.
وحكى أبو الفضل تلميذ أبي البركات المعروف بأوحد الزمان، قال: كنا في خدمة أبي الزمان في عسكر السلطان، ففي بعض الأيام جاءه رجل به داحس «3» ، إلا أن الورم كان ناقصا، وكان يسيل منه صديد، قال: فحين رأى ذلك أوحد الزمان بادر إلى سلامية «4» إصبعه فقطعها!.
قال: فقلنا له: يا سيدي! لقد أجحفت في المداواة، وكان يغنيك أن تداويه بما يداوي به غيرك، وتبقي عليه إصبعه، ولمناه، وهو لا ينطق بحرف!.
قال: ومضى ذلك اليوم، وجاءه في اليوم الثاني رجل آخر، مثل ذلك سواء، فأومأ إلينا بمداواته، وقال: افعلوا في هذا ما ترونه صوابا.
قال: فداويناه بما يداوى به الدّاحس، فاتّسع المكان، وذهب الظفر، وتعدّى
الأمر إلى ذهاب السلامية الأولى من سلاميات الأصابع، وما تركنا دواء إلا داويناه به، ولا علاجا إلا عالجناه، ولا لطوخا إلا لطخناه به «1» ، ولا مسهلا إلا وسقيناه، وهو مع ذلك يزيد، ويأكل الإصبع أسرع أكل، وآل أمره إلى القطع، فعلمنا أن وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
«2»
قال: فشاع هذه المرض في تلك السنة، وغفل جماعة منهم عن القطع، فتأدّى أمر بعضهم إلى هلاك اليد، وبعضهم إلى هلاك أنفسهم.
ونقلت من خط الشيخ موفق الدين عبد اللطيف البغدادي «3» ، فيما ذكره عن ابن الدّهان المنجم، قال: كان أبو البركات قد عمي في آخر عمره، وكان يملي على جمال الدين بن فضلان، وعلى ابن الدّهّان المنجّم، وعلى يوسف والد الشيخ موفق الدين عبد اللطيف، وعلى المهذب ابن النقّاش كتاب" المعتبر»
".