الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهم:
120- أبو الفرج جرجس بن توما بن سهل بن إبراهيم اليبرودي
«13»
من النصارى اليعاقبة، رجل اهتم لسعادته، وتكلّم فأصاب فما خرج عن عادته، شكر بين الأطباء، وذكر ذكر الألبّاء، انتقل إلى الحاضرة «1» ، واشتغل بالمعالجة الحاضرة، وكان إذا دعي لتطبيب العلل طبّبها بما يقلّ لبثها، ويقلل بثّها «2» ، ويعجل للأجسام بإعادة صحتها، ويرخص لها ما يسام من عادة منحتها، فينهض من جدها العاثر، ويؤثر فيها ما يشاء الآثر، ولم يتعوّد طول العيادة، ولا غرابة الدواء خلاف العادة.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان فاضلا في صناعة الطب، عالما بأصولها وفروعها، معدودا من جملة الأكابر من أهلها، والمتميزين في أربابها، دائم الاشتغال، محبا للعلم، مؤثرا للفضيلة.
حدّثني شرف الدين ابن عنين «3» - رحمه الله تعالى- أن اليبرودي كان لا يمل من الاشتغال ولا يسأم منه. قال: وكان أبدا في سائر أوقاته لا يوجد إلا ومعه كتاب ينظر فيه.
وحدّثني بعض النصارى بدمشق- وهو السني البعلبكي الطبيب- قال:
كان مولد اليبرودي ومنشؤه بيبرود، وهي ضيعة كبيرة من صيدنايا، وبها نصارى كثيرون، وكان اليبرودي بها كسائر أهلها النصارى من معاناتهم الفلاحة، وما يصنعه الفلاحون، وكان أيضا يجمع الشيح «1» من نواحي دمشق القريبة من جهته، ويحمله على دابّة، ويأتي به إلى داخل دمشق يبيعه للذين يقدونه بالأفران وغيرها، وإنه لما كان في بعض المرّات وقد عبر من باب توما، ومعه حمل شيح، رأى شيخا من المتطبّبين وهو يفصد إنسانا قد حصل له رعاف شديد من الناحية المسامتة للموضع الذي ينبعث منه الدم، فوقف ينظر إليه وقال له: لم تفصد هذا ودمه يجري بأكثر مما يحتاج إليه؟.
فعرفه أنه إنما فعله لينقطع عنه الدم الذي ينبعث من أنفه لكونه يجذبه إلى مسامتة الجهة التي ينبعث منها.
فقال له: إذا كان الأمر هكذا فإننا في مواضعنا قد اعتدنا أنه متى كان نهر جار، وأردنا أن نقطع الماء عنه، فإنا نجعل له مسيلا إلى ناحية أخرى غير مسامتة، فينقطع من ذلك الموضع ويعود إلى الموضع الآخر. فأنت لم لا تفعل هكذا، وتفصده من الناحية الأخرى؟.
ففعل ذلك وانقطع الرعاف عن الرجل، وقال ذلك الطبيب لليبرودي: لو أنك تشتغل بصناعة الطب جاء منك طبيب حاذق.
فمال اليبرودي إلى قوله، وتاقت نفسه إلى العلم، وبقي متردّدا إلى الشيخ في أوقات وهو يعرفه، ويريه أشياء من المداواة، ثم إنه ترك يبرود وما كان يعانيه وأقام بدمشق يتعلّم أشياء من المداواة، وصناعة الطب، فلما تبصّر في أشياء
منها، وصارت له معرفة بالقوانين العلمية، حاول مداواة المرضى، ورأى اختلاف الأمراض وأسبابها، وعاماتها، وتيقّن علاجاتها، سأل عمّن هو إمام في وقته بمعرفة صناعة الطب جيدا؟.
فذكروا له أنّ ببغداد أبا الفرج ابن الطيّب كاتب الجاثليق، وإنه فيلسوف متفنّن، وله خبرة وفضل في صناعة الطب، وفي غيرها من الصنائع الحكمية.
فتأهّب للسفر، وأخذ سوارا كان لأمّه لينفقه، وتوجّه إلى بغداد، وصار ينفق عليه ما يقوم بأوده، ويشتغل على ابن الطيب إلى أن مهر في صناعته، وصارت له مباحثات جيدة، ودربة فاضلة في هذه الصناعة، واشتغل أيضا بشىء من المنطق والعلوم الحكمية، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها.
ونقلت هذه الحكاية المتقدمة أو قريبا منها، وإن كانت الرواية مختلفة عن شيخنا الحكيم مهذّب الدين أسعد بن إلياس ابن المطران، قال: حدّثني أبي، قال: حدثني أبو الفرج ابن الحديد، قال: كان بدمشق فاصدا يقال له: أبو الخير، ولم يكن من المهرة، وكان من أمره أنه فصد شابّا، فوقعت الفصدة في الشريان، فتحير وتبلّد، وطلب قطع الدم، فلم يقدر على ذلك، فاجتمع الناس عليه، ففي أثناء ذلك طلع صبيّ عليه وقال: يا عماه! افصده في اليد الأخرى!.
فقال: شدّ الفصد الأول. فشدّه ووضع عليه لازوقا كان عنده، وشدّه. فوقف الدم وانقطع الجميع.
ووجد الصبي بالسوق معه دابة عليها حمل شيح، فتشبّث به، وقال: من أين لك ما أعلمتني به؟.
قال: إن أبي في وقت سقي الكرم إذا انفتح شق من النهر وخرج الماء منه بحدّة لا يقدر على إمساكه دون أن يفتح فتحا آخر ينقص منه الماء الأول الواصل
إلى ذلك الشق، ثم يسده بعد ذلك.
قال: فمنعه الجرائحي من بيع الشيح واقتطعه، وعلّمه الطب، وكان منه اليبرودي، وهو من مشاهير الأطباء الفضلاء.
وكان لليبرودي مراسلات إلى ابن رضوان بمصر، وإلى غيره من الأطباء المصريين، وله إليهم مسائل عدة طبية، ومباحث دقيقة، وكتب بخطه شيئا كثيرا من الطب، ولا سيما من كتب جالينوس، وشروحها، وجوامعها.
وحدّثني السني البعلبكي: أن اليبرودي عبر يوما في سوق جيرون بدمشق «1» ، فرأى إنسانا وقد بايع على أن يأكل أرطالا من لحم الفرس مسلوقة، مما يباع في السوق، فلما رآه وقد أمعن في أكله بأكثر مما تحمله قوته، ثم شرب بعده فقاعا كثيرا «2» ، وماء بثلج، واضطربت أحواله، فتفرّس فيه أنه لا بدّ أن يغمى عليه، وأن يكون في حالة أقرب إلى الموت، إن لم يتلاحق، فتبعه إلى المنزل الذي له، واستشرف إلى ماذا يؤول أمره، فلم يكن إلا أيسر وقت وأهله يصيحون ويضجّون بالبكاء، ويزعمون أنه قد مات فأتى إليهم، وقال: أنا أبريه، وما عليه بأس. ثم إنه أخذه إلى حمّام قريب من ذلك، وفتح فكيه كرها، ثم سكب في حلقه ماء حارا، وقد أضاف إليه أدوية مقوية للقيء، وقيّأه برفق، ثم عاله، وتلطّف في مداواته حتى أفاق وعاد إلى صحته، فتعجّب الناس منه في ذلك الفعل، وحسن تأنّيه إلى مداواة ذلك الرجل، واشتهرت عنه هذه القضية، وتميّز بعدها.
وهذه الحكاية التي قصد اليبرودي أن يتتبّع أحوال الرجل فيها، ويشاهد ما يكون من أمره أن يكون عنده معرفة بالأعراض التي تحدث له، وأن ينقذه أيضا مما وقع فيه إن أمكنه معالجته.
ومثل ذلك أيضا ما حكاه أبو جعفر أحمد بن محمد بن الأشعث في كتاب" الغاذي والمغتذي" وذلك أنه قال: إن إنسانا رأيته يوما وقد بايع أن يأكل جزر قدّره بحدّ ما، فحضرت أكله لأرى ما يكون من حاله لا رغبة مني لمجالسة من هذه حاله، ولا لي بذلك عادة والحمد لله، بل لأرى إيراد الغذاء على المعدة قسرا إلى ماذا يكون هذا الفعل، فرأيته يأكل من حائط ليري من حوله ويضاحكهم، حتى إذا مرّ على الكثير مما كان بين يديه، فرأيت الجزر ممضوغا قد خرج من حلقه، ملتفا، متحبلا، متعجبنا بريقه، وقد جحظت عيناه، وانقطع نفسه، واحمرّ لونه، ودرّت أوداجه وعروق رأسه، وأزبد، وكمد وجهه، وعرض له من التهوّع «1» أكثر مما عرض له من القذف، حتى رمى من ذلك الذي أكله شيئا كثيرا، فركنت «2» أن انقطاع نفسه لدفع المعدة حجابه إلى نحو الفم، ومنعها إياه من الرجوع إلى الانبساط إلى النفس، وأما ما عرض إلى لونه من الاحمرار، ودرور وداجيه وعروقه، فزكنت «3» أنه لإقبال الطبيعة نحو رأسه، كما يعرض لمن شدّ يده للفصد، أن تقبل الطبيعة نحو الجهة التي استنهضت نحوها.
فأما ما عرض لوجهه من الاربداد «1» والكهوبة «2» ، فرأيت أيضا أنه لسوء مزاج قلبه، وأنه لو لم يخرج ما خرج، ودافعت المعدة حجابه هذه المدافعة التي قد عاقته آلته من التنفس، عرض له الموت بالاختناق، كما قد رأينا ذلك في عدد كثير ماتوا بعقب القذف، فزكنت من ذلك أن التهوّع لشدة اضطراب في ذلك الفصل، وحسن تأتيه، ونقي المعدة.
قال ابن أبي الأشعث بعد ذلك: إن الغذاء إذا حصل في المعدة وهو كثير الكمية تمدّدت تمدّدا يبسط سائر غضونها، كما رأيت ذلك في سبع شرّحته حيا بحضرة الأمير الغضنفر، وقد استصغر بعض الحاضرين معدته، فتقدمت بصب الماء في فيه، فما زلنا نصب الماء في حلقه دورقا «3» بعد أخرى، حتى عددنا من الدواريق عددا كان مقدار ما حوت معدته نحو أربعين رطلا ماء، فنظرت إذ ذاك إلى الطبقة الداخلة وقد امتدت حتى صارت له سطحا مستويا ليس بدون استواء الخارج، ثم شققتها، فعندما اجتمعت عند خروج الماء منها عاد غضون الداخلة والبواب يشهد الله في جميع ذلك، لا يرسل نفسه.
وحدثني الشيخ مهذّب الدين عبد الرحيم بن علي قال: حدثني موفق الدين ابن أسعد بن إلياس ابن المطران قال: حدثني أبي عن خالي أبي الفرج بن حيان، قال: حدثني أبو الكرم الطبيب قال: كنت يوما أساير الشيخ أبا الفرج اليبرودي،
إذ اعترضه رجل فقال: يا سيدي!، كنت في صناعتي هذه في الحمام، وحلقت رأسي، وأجد الآن في وجهي كله انتفاخا وحرارة عظيمة. قال: فنظرنا إلى وجهه يربو وينتفخ، وتزيد حمرته بغير توقف ولا تدريج.
قال: فأمره أن يكشف رأسه ويلقى به الماء الجاري من قناة كانت بين يديه، وكان الزمان إذ ذاك صميم الشتاء، وغاية البرد، ثم لم يزل واقفا حتى بلغ ما أراد مما أمر به، ثم أمر الرجل بالانصراف، وأشار إليه بالأوفق، وهو تلطيف التدبير واستعمال النقوع الحامض مبردا، وقطع الزّفر، قال: فامتنع أن يحدث له شرّ ما.
وقال الطرطوشي في كتاب" سراج الملوك"«1» : حدثني بعض الشاميّين، أن رجلا خبازا بينما هو يخبز في تنّوره بدمشق، إذ عبر عليه رجل يبيع المشمش، فاشترى منه، وجعل يأكله بالخبز الحار. فلما فرغ سقط مغشيا عليه، فنظروا، فإذا هو ميت!؛ فجعلوا يتربصون به، ويحملون له الأطباء، فيلتمسون دلائله، ومواضع الحياة منه، فلم يجدوا؛ فقضوا بموته، فغسل وكفّن، وصلّي عليه، وخرجوا به إلى الجبانة، فبينما هم في الطريق على باب البلد إذ استقبلهم رجل طبيب يقال له اليبرودي، وكان طبيبا ماهرا حاذقا، فاضلا عارفا بالطب، فسمع الناس يلهجون بقضيته، فقال: حطّوه حتى أراه!.
فوضعوه، فجعل يقلبه، وينظر في أمارات الحياة التي يعرفها، ثم فتح فمه وسقاه شيئا، أو قال: حقنه، فاندفع هناك، فإذا الرجل قد فتح عينيه، وتكلم، وعاد إلى حانوته كما كان!!.
وحدّثني الشيخ مهذّب الدين عبد الرحيم بن علي عن موفق الدين أسعد بن