الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعالج الطبايع، فليدخل إلى عليلتنا لعلّ عنده فرجا؟.
فأحضر جبرائيل وماسويه، فقال له ماسويه: عرّفني حالها، وجميع ما دبّرتها به إلى وقتنا هذا؟.
فقصّ عليه. فقال ماسويه: التدبير صالح، والعلاج مستقيم، ولكن أحتاج إلى أن أراها.
فأمر الرشيد بأن يدخل إليها. فلما تأمّلها، وجسّ عرقها بحضرة الرشيد، وخرجوا من عندها.
وقال ماسويه للرشيد: يكون لك طول العمر والبقاء!. هذه تقضي بعد غد ما بين ثلاث ساعات إلى نصف الليل.
فقال جبرائيل: كذب يا أمير المؤمنين!، إنها تبرأ وتعيش.
فأمر الرشيد بحبس ماسويه ليسبر «1» ما قاله. وقال: ما رأينا بعلم الشيخ بأسا.
فلما كان الوقت الذي وقّته ماسويه ماتت. فأمر الرشيد بإخراجه، وصيّره نظير جبرائيل في رزقه، ونزله، وعلوفته، ومعونته، ومرتّبه، ومرتبته.
ومنهم:
78- يوحنّا بن ماسويه
«13»
طبيب على يده الشفاء، ولديه الوفاء، ما جال رأيه إلا فل أفلاطون، وجال فكر جالينوس لعله مثله يكون، وود ابن أثال لو نحت من إبلته، وتشوق الحرث
للمقيل تحت نخلته، وسرّ السريان إذ كان منهم معدودا، وآن لليونان أن يساؤوا إذ لم يكن منهم له وولودا، ولا منه لهم ودودا.
قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا ذكيا، فاضلا، خبيرا بصناعة الطب، وله كلام حسن وتصانيف مشهورة، وكان مبجّلا، وكان حظيّا عند الخلفاء والملوك".
قال إسحاق بن علي الرهاوي في كتاب" أدب الطبيب" عن عيسى بن ماسه «1» الطبيب، قال: أخبرني أبو زكريا يوحنا بن ماسويه أنه اكتسب من صناعة الطب ألف ألف درهم، وعاش بعد قوله هذا ثلاث سنين أخر، وكان الواثق «2» مشغوفا، ضنينا به. فشرب يوما عنده، فسقاه الساقي شرابا غير صاف ولا لذيذ، على ما جرت به العادة، وهذا من عادة السقاة إذا قصّر في برّهم، فلما شرب القدح الأول، قال: يا أمير المؤمنين! أما المذاقات فقد عرفتها وأعددتها، ومذاقة هذا الشراب خارجة عن طبع المذاقات كلها!.
فوجد أمير المؤمنين على السقاة، وقال: تسقون أطبائي وفي مجلسي بمثل هذا الشراب؟!. وأمر ليوحنّا بهذا السبب وفي ذلك الوقت بمائة ألف درهم، ودعا بسمانة الخادم، وقال له: احمل إليه المال الساعة. فلما كان وقت العصر سأل سمانة: هل حمل مال الطبيب أم لا؟. فقال: لا بعد. فقال: يحمل إليه مائتا ألف درهم الساعة.
فلما صلّوا العشاء سأل عن حمل المال؟. فقيل له: لم يحمل بعد!. فدعا سمانه، وقال له: احمل إليه ثلاثمائة ألف درهم، فقال سمانة لخازن بيت المال:
احملوا مال يوحنا، وإلا لم يبق في بيت المال شيء، فحمل إليه من ساعته! «1» .
وقال سليمان بن حسان: كان يوحنا بن ماسويه مسيحي المذهب، سريانيا.
قلّده الرشيد ترجمة الكتب القديمة، مما وجد بأنقره، وعمّورية «2» ، وبلاد الروم، حين سباها المسلمون، ووضعه أمينا على الترجمة، وخدم هارون، والأمين، والمأمون، وبقي على ذلك إلى أيام المتوكل.
قال: وكانت ملوك بني هاشم لا يتناولون شيئا من أطعمتهم إلا بحضرته، وكان يقف على رؤوسهم ومعه البراني «3» بالجوارشنات «4» الهاضمة المسخنة، الطابخة، المقوية للحرارة الغريزية في الشتاء، وفي الصيف بالأشربة الباردة والجوارشنات.
قال ابن النديم البغدادي الكاتب: إن يوحنا بن ماسويه خدم بصناعة الطب المأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل.
قال يوسف بن إبراهيم: كان مجلس يوحنا بن ماسويه أعمر مجلس كنت أراه بمدينة السلام لمتطبّب أو متكلّم، أو متفلسف، لأنه كان يجتمع به كل صنف من أصناف أهل الأدب، وكان في يوحنا دعابة شديدة، يحضر بعض من يحضر لأجلها، وكان من ضيق الصدر، وشدة الحدّة على أكثر مما كان عليه جبريل بن بختيشوع، وكانت الحدة تخرج منه ألفاظا مضحكة، وكان أطيب مجلسه في وقت نظره في قوارير الماء، وكنت وابن حمدون بن عبد الصمد بن علي الملقّب بأبي العيرطرد، وإسحاق بن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الملقب ببيض البغل، قد توكلنا به نحفظ نوادره، وأظهرت له التلمذة [في قراءة كتب المنطق عليه، وأظهرا له التلمذة]«1» بقراءتهما كتب جالينوس عليه في الطب.
قال يوسف: مما حفظت من نوادره في وقت نظره: أن امرأة أتته فقالت له:
إن فلانة وفلانة وفلانة يقرءون عليك السلام!.
فقال لها: أنا بأسماء أهل سطنطينية، وعمّورية، أعلم مني بأسماء الذين أسميتيهم، فأظهري بولك حتى أنظر لك فيه!.
قال يوسف: وحفظت عليه أن رجلا شكا إليه علة كان شفاؤه منها الفصد، فأشار به عليه.
فقال له: لم أعتد الفصد!.
فقال له: ولا أحسب أحدا اعتاده في بطن أمه، وكذلك لم يعتد العلة قبل أن يعتل، وقد حدثت بك، فاختر ما شئت من الصبر على ما أحدثت لك الطبيعة من العلة، أو اعتياد الفصد لتسلم منها.
قال يوسف: وشكا إليه رجل بحضرتي" جريا"«1» قد أضرّ به. فأمره بفصد الاكحل من يده اليسرى، فأخبره أنه قد فعل. فأمره بشرب المطبوخ. فقال: قد فعلت. فأمره بشرب الأصطمخيقون. فأعلمه أنه قد فعل!. فأمره بشرب ماء الجبن أسبوعا، وشرب مخيض البقر أسبوعين. فأعلمه أنه قد فعل!.
فقال له: إنه لم يبق شيء مما أمر به المتطبّبون إلا وقد ذكرت أنك قد عملته، وقد بقي شيء لم يذكره بقراط ولا جالينوس، وقد رأيناه يعلم على التجربة كثيرا، فاستعمله؛ فإني أرجو أن ينجح علاجك إن شاء الله. فسأله ما هو؟.
فقال: ابتع زوجي قراطيس، وقطعهما رقاعا صغارا، واكتب في كل رقعة:" رحم الله من دعا لمبتلى بالعافية" وألق نصفها في المسجد الشرقي بمدينة السلام، والنصف الآخر في المسجد الغربي، وفرقها في المجالس يوم الجمعة؛ فإني أرجو أن ينفعك الله بالدعاء إذ لم ينفعك العلاج.!
قال يوسف: وصار إليه- وأنا حاضر- قسّيس الكنيسة التي يتقرّب فيها يوحنّا، وقال له: فسدت عليّ معدتي!.
فقال له: استعمل جوارشن الخوزبي. فقال: قد فعلت. فقال: استعمل الكمّوني. قال: قد أكلت منه أرطالا. فأمره باستعمال المقداذيقون. فقال: قد شربت منه جرّة. فقال: فاستعمل المروسيا. فقال: قد فعلت، وأكثرت. فغضب وقال له: إن أردت أن تبرأ فأسلم فإن الإسلام يصلح المعدة!.
قال يوسف: واشتدّت على يوحنّا علّة كان فيها حتى يئس منه أهله. ومن عادة النصارى إحضار من يئس منه أهله جماعة من الرهبان والقسّيسين «2» ،
والشمامسة «1» يقرءون حوله. ففعل مثل ذلك بيوحنّا.
فأفاق والرهبان حوله يقرءون فقال لهم: يا أولاد الفسّق! ما تصنعون في بيتي؟. فقالوا: كنا ندعو ربنا ليتفضل عليك بالعافية.
فقال لهم يوحنّا: قرص ورد أفضل من صلوات جميع أهل النصرانية منذ كانت إلى يوم القيامة!، اخرجوا من منزلي فخرجوا.
قال يوسف: وشكا- بحضرتي- إلى يوحنا رجل من التجّار جريا به في أيام الشتاء.
فقال: ليست هذه من أيام علاج ما تجد، وإنما علاج دائك هذا في أيام الربيع، فتنكّب أكل المعفّنات كلها، وطريّ السمك، ومالحه، صغار ذلك وكباره، وكل حرّيف «2» من الأبزار والبقول، وما يخرج من الضرع.
فقال له الرجل: هذه الأشياء ما أطيق عنها صبرا.
فقال يوحنا: فإن كان الأمر على ما ذكرت فأدمن أكلها، وحكّ بجنك!، فلو نزل المسيح لك خاصّة لما انتفعت بدعائه لما تصف به نفسك من الشر.
قال يوسف: وعاتبه النصارى على اتخاذ الجواري، وقالوا له: خالفت ديننا وكنت شمّاسا لنا!. وإما أخرجت نفسك من الشماسة، وأخذت ما بدا لك من الجواري.
فقال: إنما أمرنا في موضع واحد أن لا نتخذ امرأتين، ولا ثوبين، فمن جعل
" الجاثليق «1» " العاضّ بظر أمه، أولى أن يتخذ عشرين ثوبا من يوحنا الشقي في اتخاذ أربع جوار، فقولوا لجاثليقكم أن يلزم قانون دينه، حتى نلزمه معه، وإن خالفه خالفناه!.
قال يوسف: وكان بختيشوع بن جبرائيل يداعب يوحنّا كثيرا، فقال له يوما في مجلس أبي إسحاق- ونحن في عسكر المعتصم بالمدائن سنة عشرين ومائتين-: أنت يا زكرياء! أخي لأبي.
فقال يوحنا لأبي إسحاق: اشهد أيها الأمير على إقراره، فو الله لأقاسمنّه ميراثه من أبيه.
فقال له بختيشوع: إن أولاد الزنا لا يرثون، ولا يورّثون، وقد حكم دين الإسلام للعاهر بالحجر. فانقطع يوحنا ولم يحر جوابا.
قال يوسف:" وكانت دار الطيفوري في دار الروم من الجانب الشرقي من مدينة السلام لصيقة دار يوحنّا بن ماسويه، وكان للطيفوري ابن قد علم الطب علما، يقال له: دانييل. ثم ترهّب بعد ذلك فكان يدخل مدينة السلام عند تأدّي الخبر إليه بعلّة والده، أو ما أشبه ذلك. وكان ليوحنّا طاووس كان يقف على الحائط الذي فيما بين داره ودار الطيفوري. فقدم دانييل مدينة السلام ليلا في الشهر المعروف ب" آب" وهو شهر شديد الحر، كثير الرمد، فكان الطاووس كلما اشتد عليه الحرّ صاح!؛ فأنبه دانييل، وهو في ثياب صوف من ثياب
الرهبان، فطرده مرات، فلم ينفع ذلك، ثم رفع مرزبته «1» فضرب بها رأس الطاووس! فوقع ميتا.
واستتر الخبر عن يوحنّا إلى أن ركب ورجع، فصادف عند منصرفه طاووسه ميتا على باب داره، فأقبل يقذف بالجدود «2» من قتله، فخرج إليه دانييل فقال:
لا تشتم من قتله، فإني قتلته، ولك عليّ مكانه عدة طواويس.
فقال له يوحنا- بحضرتي-: ليس يعجبني راهب له سنام، وطول ذكر!.-
إلا أنه قال ذلك بفحش-.
فقال له دانييل: وكذلك ليس يعجبني شماس له عدة نساء، واسم رئيسة نسائه:" قراطيس"، وهو اسم رومي لا عربي!. ومعنى" القراطيس" عند الروم:
قرنانة!، وليس تكون المرأة قرنانة حتى تنكح غير بعلها. فخرج يوحنّا، ودخل منزله مفعولا.
قال يوسف: وحدّثني بمصر أحمد بن هارون الشرابي: أن المتوكل على الله حدّثه في خلافة الواثق أن يوحنّا بن ماسويه كان مع الواثق على دكان كان للواثق في دجلة، ومع الواثق قصبة فيها شصّ «3» ، وقد ألقاها في دجلة ليصيد بها السمك، فحرم الصيد، فالتفت إلى يوحنا- وكان على يمينه- فقال: قم يا مشؤوم عن يميني. فقال له يوحنا: يا أمير المؤمنين! لا تتكلّم بمحال. يوحنا بن ماسويه الخوزي، وأمه: رسالة الصقلبية، المبتاعة بثمانمائة درهم، أقبلت به السعادة إلى أن صار نديم الخلفاء، وسميرهم، وعشيرهم، وحتى غمرته الدنيا
فنال منها ما لم يبلغه أمله. فمن أعظم المحال أن يكون هذا مشؤوما، ولكن إن أحبّ أمير المؤمنين أن أخبره بالمشئوم من هو؟ أخبرته.
فقال: ومن هو؟.
فقال: من ولدته أربع خلفاء، ثم ساق الله إليه الخلافة، فترك الخلافة وقصورها، وبساتينها، وقعد في دكان مقدار عشرين ذراعا في مثلها، في وسط دجلة، لا يأمن عصف الريح عليه فيغرقه ثم يتشبّه بأفقر قوم في الدنيا وشرّهم، وهم صيادو السمك!.
قال لي أحمد بن هارون: قال لي المتوكل: فرأيت الكلام قد أنجع فيه، إلا أنه أمسك لمكاني.
قال يوسف: وحدثني أحمد بن هارون أن الواثق قال في هذا اليوم ليوحنّا وهو على هذه الدكان: يا يوحنا! ألا أعجبك من خلة؟. قال وما هي؟.
قال: إن الصيّاد ليطلب السمك مقدار ساعة فيصيد السمكة تساوي الدينار أو ما أشبه ذلك، وأنا أقعد منذ غدوة إلى الليل فلا أصيد ما يساوي درهما!.
فقال له يوحنا: وضع أمير المؤمنين التعجب في غير موضعه. إن الله تعالى جعل رزق الصياد من صيد السمك، فرزقه يأتيه لأنه قوته وقوت عياله، ورزق أمير المؤمنين بالخلافة، فهي غني عن أن يرزق بشيء من السمك، ولو كان رزقه جعل في الصيد لوافاه رزقه منه مثل ما يوافي الصياد.
قال يوسف: وحدّثني إبراهيم بن علي متطبّب أحمد بن طولون: إنه كان في دهليز «1» يوحنا بن ماسويه ينتظر رجوع يوحنا من دار السلطان، فانصرف وقد
أسلم في ذلك اليوم عيسى بن إبراهيم بن نوح كاتب الفتح بن خاقان.
قال إبراهيم: فقمت إليه وجماعة من الرهبان، فقال لنا: اخرجوا يا أولاد الزنا من داري، واذهبوا وأسلموا، فقد أسلم المسيح الساعة على يدي المتوكل!.
قال يوسف: وقدم جرجة بن زكريا عظيم النوبة «1» ، في شهر رمضان سنة إحدى وعشرين ومائتين إلى سرّ من رأى، وأهدى إلى المعتصم هدايا فيها قردة!.
فإني عند يوحنا في اليوم الثاني من شوال من هذه السنة، وأنا أعاتبه على تخلّفه عن حضور الدار في ذلك الوقت، لأني رأيت سلمويه وبختيشوع والحريش المتطببين، وقد وصلوا إذ دخل علينا غلام من الأتراك الخاصة، ومعه قرد من القرود التي أهداها ملك النوبة، لا أذكر أني رأيت أكبر منه جثة. وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: زوّج هذا القرد من" حماحم" قردتك!. وكان ليوحنا قردة يسميها" حماحم" كان لا يصبر عنها ساعة!.
فوجم لذلك، ثم قال للرسول: قل لأمير المؤمنين: اتخاذي لهذه القردة غير ما توهّمه أمير المؤمنين، وإنما دبرت تشريحها لأجل وضع كتاب على ما وضع جالينوس في التشريح، يكون وضعي إياه لأمير المؤمنين!، وكان في جسمها ضعف فخفت أن تكون العروق فيها والأوراد والعصب دقاقا، فلا أطيق في إيضاح الأمر فيها مثل إيضاحها فيما عظم جسمه، فتركتها لتكبر ويغلظ جسمها، فأما إذ قد وافى هذا القرد فسيعلم أمير المؤمنين أني سأضع له كتابا لم يوضع في الإسلام مثله.
ثم فعل ذلك بالقرد، فظهر له منه كتاب حسن استحسنه أعداؤه فضلا عن أصدقائه.
قال يوسف: واعتلّ محمد بن سليمان بن الهادي المعروف بأبي مشغوف، علة تطاولت به، وكان أبو العباس ابن الرشيد يلزم يوحنّا تعاهده، وكان محمد بن سليمان ربما يزيد في الحديث أشياء لا يخيل باطلها على سامعها، فدخل إليه يوما وأنا عنده، فاستشاره فيما يأخذه؟.
فقال يوحنا: قد كنت أشير عليك بما تأخذ في كل يوم، وأنا أحسبك تحب الصحة والعافية، فأما إذا صحّ عندي أنك تكره العافية وتحب العلة!.
فقال له يوحنا: أنت والبرهان على ذلك، أن العافية في العالم تشبه الحق، والسقم يشبه الكذب، وأنت تتكلم أكثر دهرك بالكذب!، فيكون كذبك مادة لسقمك، فمتى تبرأ أنت من علة متطاولة، وأنت تمدها أكثر دهرك بالكذب الزائد فيها!. فالزم الصدق ثلاثة أيام ولا تكذب فيها، فيوحنّا بريء من المسيح إن لم تخرج من هذه العلة قبل ثلاثة أيام!.
ونقلت من كتاب الهدايا والتحف لأبي بكر وأبي عثمان الخالديين قالا: حدثنا أبو يحيى قال: افتصد المتوكل فقال لخاصّته وندمائه: أهدوا إليّ يوم فصدي.
فاحتفل كل واحد منهم في هديته، وأهدى إليه الفتح بن خاقان جارية لمير الراءون مثلها حسنا وظرفا وكمالا.
فدخلت إليه ومعها جام «1» ذهب في نهاية الحسن، ودنّ «2» بلّور لم ير مثله،
فيه شراب يتجاوز الوصف، ورقعة فيها مكتوب:[الوافر]
إذا خرج الإمام من الدواء
…
وأعقب بالسلامة والشفاء
فليس له دواء غير شرب
…
بهذا الجام من هذا الطلاء
وفص الخاتم المهدى إليه
…
فهذا صالح بعد الدواء
فاستطرف المتوكل ذلك، واستحسنه، وكان بحضرته يوحنا بن ماسويه، فقال: يا أمير المؤمنين! الفتح- والله! - أطبّ مني، فلا تخالف ما أشار به.
قال: ومن نوادر يوحنّا بن ماسويه: أن المتوكّل قال له يوما: بعت بيتي بقصرين. فقال له آخر: الغداء يا أمير المؤمنين! - أراد المتوكل تعشّيت فضرّني لأنه تصحيفها- فأجابه ابن ماسويه بما تضمن العلاج.
وعتب ابن حمدون النديم ابن ماسويه بحضرة المتوكل، فقال له ابن ماسويه:
لو أن مكان ما فيك من الجهل عقلا، ثم قسم على مائة خنفساء لكانت كل واحدة منها أعقل من أرسطوطاليس!.
ووجدت في كتاب:" جراب الدولة" قال: دخل ماسويه الطبيب إلى المتوكل فقال المتوكل لخادم له: خذ بول فلان في قارورة، وأت به إليّ بين يدي ابن ماسويه. فأتى به، فلما نظر إليه قال: هذا بول بغل لا محالة!. فقال المتوكل:
كيف علمت أنه بغل؟.
قال ابن ماسويه: أحضر لي صاحبه حتى أراه، ويتبين كذبي من صدقي.
فقال المتوكل: هاتوا الغلام. فلما مثل بين يديه، قال له ابن ماسويه: أيش أكلت البارحة؟. قال: خبز شعير، وماء قراح. فقال ابن ماسويه: هذا والله! طعام حماري اليوم.
نقلت من خط المختار بن الحسن بن بطلان «1» ، أن أبا عثمان الجاحظ، ويوحنا بن ماسويه قال: اجتمعا- بغالب ظني- على مائدة إسماعيل بن بلبل الوزير، وكان من جملة ما قدم مضيرة «2» بعد سمك. فامتنع يوحنا من الجمع بينهما.
قال له أبو عثمان: أيها الشيخ! لا يخلو أن يكون السمك من طبع اللبن، أو مضاد له، فإن كان أحدهما ضد الآخر فهو دواء له، وإن كانا طبعا واحدا فلنحسب أنّا قد أكلنا من أحدهما إلى أن اكتفينا. فقال يوحنا: والله ما لي خبرة بالكلام، ولكن كل يا أبا عثمان، وانظر ما يكون في غد؟.
فأكل أبو عثمان- نصرة لدعواه- ففلج في ليلته!. فقال:" هذه- والله- نتيجة المحال من القياس". والذي ضلّل أبا عثمان اعتقاده أن السمك من طبع اللبن، ولو سامحناه في أنهما من طبع واحد لكان امتزاجهما قوة ليست في أحدهما.
وحدّث الصولي «3» في كتاب" الأوراق" قال: كان المأمون نازلا" بذندون"-
نهر من أعمال طرسوس، فجلس يوما وأخوه المعتصم عليه، وجعلا أرجلهما فيه استبرادا له، وكان أبرد الماء وأرقّه وألذّه. فقال المأمون للمعتصم: أحببت الساعة من أزاذ «1» العراق آكله، وأشرب عليه من هذا الماء البارد.
وسمع صوت حلقة البريد وأجراسه، فقيل: هذا يزيد بن مقبل بريد «2» العراق؛ فأحضر طبقا من فضة فيه رطب أزاذ!، فعجب من تمنيه، وما تم له، فأكلا وشربا من الماء ونهضا، وتودع المأمون وأقال، ثم نهض محموما، وفصد فظهرت في رقبته نفخة كانت تعتاده، ويراعيها الطبيب إلى أن تنضج، وتفتح، فتبرا.
فقال المعتصم للطبيب- وهو ابن ماسويه-: ما أطرف ما نحن فيه!، تكون الطبيب المفرد المتوحّد في صناعتك، وهذه النفخة تعتاد أمير المؤمنين، ولا تزيلها عنه! وتتلطّف في حسم مادتها حتى لا ترجع إليه؟. والله لئن عادت هذه العلة عليه لأضربنّ عنقك.
فاستطرق ابن ماسويه لقول المعتصم، وانصرف، فحدّث به بعض من يثق به ويأنس منه، فقال: تدري ما قصد المعتصم؟. قال: لا. قال: قد أمرك بقتله! حتى لا تعود النفخة إليه، وإلا فهو يعلم أن الطبيب لا يقدر على دفع الأمراض عن الأجسام، وإنما قال: لا تدعه يعيش ليعود المرض عليه.!
فتعالل ابن ماسويه، وأمر تلميذا له بمشاهدة النفخة، والتردّد إلى المأمون نيابة عنه، والتلميذ يجيئه كل يوم، ويعرف حال المأمون، وما تجدّد له.
فأمره بفتح النفخة. فقال: أعيذك بالله؛ ما احمرّت ولا بلغت حد الجرح!.
فقال له: امض وافتحها كما أقول لك، ولا تراجعني. فمضى وفتحها، ومات المأمون، رحمة الله عليه.
أقول «1» :" إنما فعل ابن ماسويه ذلك لكونه كان عديم المروءة، عديم الدين والأمانة، وكان على غير ملة الإسلام، ولا له تمسك بدينه أيضا- كما حكى عنه يوسف بن إبراهيم في أخباره المتقدمة. ومن ليس له دين يتمسك به، ويعتقد فيه فالواجب أن لا يدانيه عاقل، ولا يركن إليه حازم.
وكانت وفاة يوحنا بن ماسويه بسرّمن رأى، يوم الاثنين، لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين ومائتين، في خلافة المتوكل.
ومن كلام يوحنا بن ماسويه:" سئل عن الخير الذي لا شرّ معه؟. فقال:
القليل من الشراب الصافي".
ثم سئل عن الشر الذي لا خير معه؟. فقال:" نكاح العجوز".
وقال:" أكل التفاح يرد النفس.
فقال:" عليك من الطعام بما حدث، ومن الشراب بما عتق".