الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أطباء العرب ممن كانوا في أول ظهور الإسلام ومن بعدهم
فمنهم:
52- الحارث بن كلدة الثّقفيّ
«13»
طبيب العرب، وكانت له معرفة بما يحتاج إليه من مداواتها، وخبرة في طبّ أمراضها وأدواتها، أينع من نبعة البادية غصنه الفينان، وجمع إلى فصاحة العرب حكمة اليونان، ولخصت به تلك العبارات التي لا تفهم، وخلصت خلاص ابن المهلب من الأدهم.
وأخذ يعالج سكان البادية بما لا يبعد من أمزجتها، ولا يعد منه خروج عن محجّتها «1» ، بما تعهده في ديارها، وتتعهّد به ملابس غيارها.
وعمّر مدّة في صدر الإسلام، وسطر عدة تحفظ له من حرّ الكلام. وهو الذي تعدّه أمّة العرب سابق أطبائها، وسابق أبنائها، وكفاه شكرا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجرى له ذكرا.
قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان من الطائف، وسافر في البلاد وتعلّم الطب بناحية فارس، وتمرّن هناك، وعرف الداء والدواء. وكان يضرب بالعود، تعلّمه بفارس واليمن، وبقي أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأدرك سلطان معاوية. وقال له معاوية: ما الطبّ؟. قال:" الأزم". يعني: الجوع.
وفي الحديث:" إن عمر- رضي الله عنه سأل الحارث بن كلدة: ما الدواء؟. قال: الأزم- يعني الحمية-.
وروي عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه أنه مرض بمكة مرضا، فعاده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:(ادعوا له الحارث بن كلدة فإنه رجل يطبّب)«2» . فلما نظر إليه الحرث قال:" ليس عليه بأس، اتّخذوا له فريقة «3» بشيء من تمر عجوة، وحلبة «4» ، يطبخان". فتحسّاها، فبرئ.
وفد على كسرى أنوشروان، فلما وقف بين يديه قال له: من أنت؟.
قال: الحارث بن كلدة الثقفي.
قال: ما صناعتك؟.
قال: الطب.
قال: أعرابي أنت؟.
قال: نعم.
قال: فما تصنع العرب بطبيب مع جهلها، وضعف عقولها، وسوء أغذيتها؟.
قال: أيها الملك! إذا كانت هذه صفتها كانت أحوج إلى من يصلح جهلها، ويقيم عوجها، ويسوس أبدانها، ويعدل أمشاجها «1» ، فإن العاقل يعرف [ذلك من نفسه، ويميز] موضع دائه، ويحترز عن الأدواء [كلها بحسن سياسته لنفسه] .
قال كسرى: فكيف تعرف ما تورده عليها؟. ولو عرفت الحلم لم تنسب إلى الجهل.
قال الحارث: الطفل يناغي فيداوى، والحيّة ترقى فتحاوى، ثم قال: أيها الملك! العقل من قسم الله تعالى، قسمه بين عباده كقسمه الرزق فيهم، [فكل من قسمته أصاب، وخص بها قوم وزاد] ، فمنهم مثر ومعدم، وجاهل وعالم، وعاجز وحازم، وذلك تقدير العزيز العليم.
فأعجب كسرى من كلامه، ثم قال: فما الذي تحمد من أخلاقها، ويعجبك من مذاهبها وسجاياها «2» ؟.
قال الحارث: أيها الملك!، لها أنفس سخية، وقلوب جريّة، ولغة فصيحة،
وألسن بليغة، وأنساب صحيحة، وأحساب شريفة، يمرق من أفواههم الكلام مروق السهم من نبعة «1» الرام، أعذب من هواء الربيع، وألين من السلسبيل المعين، مطعمو الطعام في الجدب «2» ، وضاربو الهامّ «3» في الحرب، لا يرام عزمهم، ولا يضام «4» جارهم، ولا يستباح حريمهم، ولا يذلّ كريمهم، ولا يقرّون بفضل للأنام إلا للملك الهمام الذي لا يقاس به أحد ولا يوازيه سوقة «5» ولا ملك.
قال: فاستوى كسرى جالسا، وجرى ماء رياضة الحلم في وجهه، وقال لجلسائه: إني وجدته راجحا، ولقومه مادحا، وبفضلهم ناطقا، [وبما يورده من لفظه] صادقا، وكذلك العاقل الذي أحكمته التجارب.
ثم أمره بالجلوس، فجلس. ثم قال: كيف بصرك بالطب؟. قال: ناهيك «6» .
قال: فما أصل الطب؟.
قال: الأزم.
قال: فما الأزم؟.
قال: ضبط الشفتين، والرفق باليدين.
قال: أصبت. قال: فما الداء الدويّ «1» ؟.
قال: إدخال الطعام على الطعام، هو الذي يفني البريّة، ويهلك السباع في البرّيّة.
قال: أصبت.
قال: فما العلّة التي تصطلم «2» منها الأدواء؟.
قال: هي التخمة. إن بقيت في الجوف قتلت، وإن تحللت أسقمت.
قال: فما تقول في الحجامة؟.
قال: في نقصان الهلال في يوم صحو لا غيم فيه، والنفس طيبة، والعروق ساكنة، لسرور يفاجئك، وهمّ يباعدك.
قال: فما تقول في دخول الحمّام؟.
قال: لا تدخله شبعانا، ولا تغش «3» أهلك سكرانا، ولا تقم بالليل عريانا، ولا تقعد على الطعام غضبانا، وارفق بنفسك يكن أرخى لبالك، وقلّل من مطعمك يكن أهنأ لنومك.
قال: فما تقول في الدواء؟.
قال: ما لزمتك الصحة فاجتنبه، فإن هاج داء فاحسمه بما يردعه قبل استحكامه، فإن البدن بمنزلة الأرض إن أصلحتها عمرت، وإن تركتها خربت.
قال: فما تقول في الشراب.
قال: أطيبه أهناه، وأرقّه «1» أمرؤه «2» ، وأعذبه أشهاه، لا تشربه صرفا «3» فيورثك صداعا، ويثير عليك من الأدواء أنواعا.
قال: فأي اللّحمان «4» أفضل؟.
قال: الجداء الرضع الفتي، والقديد «5» المالح مهلك للآكل. واجتنب لحم الجزور «6» والبقر.
قال: فما تقول في الفواكه؟.
قال: كلها في إقبالها، وحين أوانها، واتركها إذا أدبرت وولّت، وانقضى زمانها. وأفضل الفاكهة الرمّان والأترج «7» ، وأفضل الرياحين الورد والبنفسج، وأفضل البقول الهندباء «8» والخس.
قال: فما تقول في شرب الماء؟.
قال: هو حياة البدن، وبه قوامه، ينفع ما شرب منه بقدر، وشربه بعد النوم
ضرر. لأفضله أمرؤه، وأرقّه أصفاه، ومن عظام أنهار البارد الزلال، لا يختلط بماء الآجام «1» ، والآكام، ينزل من صرادح «2» المسطان، ويتسلسل عن الرضراض «3» وعظام الحصبا في الإيفاع «4» .
قال: فما طعمه؟.
قال: لا يوصف له طعم، إلا أنه مشتق من الحياة.
قال: فما لونه؟.
قال: اشتبه على الأبصار لونه، لأنه يجلو كل لون يكون فيه.
قال: فأخبرني عن أصل الإنسان ما هو؟.
قال: أصله من حيث شرب الماء، يعني رأسه.
قال: فما هذا النور الذي في العينين؟.
قال: مركّب من ثلاثة أشياء؛ فالبياض شحم، والسواد: ماء، والنظر: ريح.
قال: فعلى كم جبلّ «5» وطبع هذا البدن؟.
قال: على أربعة طبائع؛ المرة السوداء: وهي باردة يابسة. والمرّة الصفراء: وهي حارّة يابسة. والدّم: وهو حارّ رطب. والبلغم: وهو بارد رطب.
قال: فلم لم يكن من طبع واحد؟.
قال: لو خلق من طبع واحد لم يأكل ولم يشرب، ولم يمرض، ولم يهلك.
قال: فمن طبيعتين، لو كان اقتصر عليهما؟.
قال: لم يجز، لأنهما ضدان يقتتلان.
قال: فمن ثلاث؟.
قال: لم يصلح!، موفقان ومخالف!. فالأربع هو الاعتدال والقيام.
قال: فأجمل لي الحارّ والبارد في أحرف جامعة.
قال: كل حلو حار، وكل حامض بارد، وكل حريف حار، وكل مرّ معتدل، وفي المرّ حارّ وبارد.
قال: فأفضل ما عولج به المرة الصفراء؟.
قال: كل بارد ليّن.
قال: فالمرّة السوداء؟.
قال: كل حارّ لين.
قال: والبلغم؟.
قال: كل حارّ يابس.
قال: والدم؟.
قال: إخراجه إذا زاد، وتطفئته إذا سخن، بالأشياء الباردة اليابسة.
قال: فالرياح؟.
قال: بالحقن اللينة، والأدهان الحارّة اللينة.
قال: أفتأمر بالحقنة؟.
قال: نعم. قرأت في بعض كتب الحكماء: أن الحقنة تنقي الجوف، وتكسح الأدواء عنه، والعجب لمن احتقن كيف يهرم! أو يعدم الولد!. وإن الجهل كل الجهل من أكل ما قد عرف مضرّته، ويؤثر شهوته على راحة «1» بدنه!.
قال: فما الحمية؟.
قال: الاقتصاد في كل شيء، فإن الأكل فوق المقدار يضيق على الروح ساحتها، ويسدّ مسامّها.
قال: فما تقول في النساء، وإتيانهنّ؟.
قال: كثرة غشيانهنّ رديء، وإياك وإتيان المرأة المسنّة، فإنها كالشّنّ «2» البالي، تجذب قوتك، وتسقم بدنك، ماؤها سمّ قاتل، ونفسها موت عاجل، تأخذ منك الكل، ولا تعطيك البعض، والشابّة ماؤها عذب زلال، وعناقها غنج «3» ودلال، فوها «4» بارد، وريقها عذب، وريحها طيب، وهنها ضيّق، تزيدك قوة إلى قوتك، ونشاطا إلى نشاطك.
قال: فأيهنّ القلب إليها أميل، والعين برؤيتها أسرّ؟.
قال: إذا أصبتها!!: المديدة القامة، العظيمة الهامة، واسعة الجبين، أقناة
العرنين»
، كحلاء، لعساء «2» ، صافية الخد، عريضة الصدر، مليحة النحر، في خدّها رقّة، وفي شفتيها لعس، مقرونة الحاجبين، ناهدة الثديين، لطيفة الخصر والقدمين، بيضاء، فرعاء «3» ، جعدة «4» ، غضّة بضّة «5» ، تخالها في الظلمة بدرا زاهرا تبسّم عن أقحوان «6» ، وعن مبسم كالأرجوان «7» ، كأنها بيضة مكنونة «8» ، ألين من الزبد، وأحلى من الشّهد، وأنزه من الفردوس والخلد، وأذكى ريحا من الياسمين والورد، تفرح بقربك، وتسرّك الخلوة معها.
قال: فاستضحك كسرى حتى اختلجت كتفاه.
قال: ففي أي الأوقات إتيانهنّ أفضل؟.
قال: عند إدبار الليل يكون الجوف أخلى، والنفس أهدأ، والقلب أشهى، والرحم أدفأ، فإن أردت الاستمتاع بها نهارا تسرح عينيك في جمال وجهها،
ويجتني فوك من ثمرات حسنها، ويعي سمعك من حلاوة لفظها، وتسكن الجوارح كلها إليها.
قال كسرى: لله درّك من أعرابي!، لقد أعطيت علما، وخصصت فطنة وفهما.
وأحسن صلته، وأمر بتدوين ما نطق به.
وقال الواثق بالله في كتابه المسمى:" البستان": إن الحرث بن كلدة مرّ بقوم وهم في الشمس، فقال: عليكم بالظلّ، فإن الشمس تنهج الثوب «1» ، وتنقل الريح، وتشحب اللون، وتهيّج الداء الدفين".
ومن كلام الحارث:" البطنة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعوّدوا كل جسد بما اعتاد". وقيل: هو من كلام عبد الملك بن أبجر. وقد نسب قوم هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوله: (المعدة بيت الداء)«2» وهو أبلغ من لفظ
" البطنة".
وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنه وكرّم وجهه- قال:" من أراد البقاء- ولا بقاء- فليجوّد الغذاء، وليأكل على نقاء «1» ، وليشرب على ظماء، وليقلّ من شرب الماء، ويتمدّد بعد الغداء، ويتمشّى بعد العشاء، ولا يبيت حتى يعرض نفسه على الخلاء، ودخول الحمّام على البطنة من شرّ الداء، ودخلة إلى الحمّام في الصيف خير من عشرة في الشتاء، وأكل القديد اليابس في الليل معين على الفناء، ومجامعة العجوز تهدم أعمار الأحياء".
وروى حرب بن محمد قال: حدثنا أبي، قال: قال لي الحارث بن كلدة:" أربعة اشياء تهدم البدن: الغشيان على البطنة، ودخول الحمّام على الامتلاء، وأكل القديد، ومجامعة العجوز".
وروى داود بن رشيد عن عمرو بن عوف قال: لما احتضر الحارث بن كلدة اجتمع إليه الناس فقالوا له: مرنا بأمر ننتهي إليه من بعدك. فقال:" لا تتزوجوا من النساء إلا شابّة، ولا تأكلوا الفاكهة إلا في أوان نضوجها، ولا يتعالجنّ
أحدكم ما احتمل بدنه الداء، وعليكم بالنّورة «1» في كل شهر؛ فإنها مذهبة للبلغم، مهلكة للمرّة، منبتة للّحم، وإذا تغدى أحدكم فلينم على أثر غدائه، وإذا تعشّى فليخط أربعين خطوة.
ومن كلام الحارث أيضا:" دافع بالدواء ما وجدت مدفعا، ولا تشربه إلا من ضرورة، فإنه لا يصلح شيئا إلا أفسد مثله".
وقال سليمان بن جلجل: أخبرنا الحسن بن الحسين الأزدي، قال: أخبرنا محمد بن سعيد الأموي، عن عبد الملك بن عمير قال:" كان أخوان من ثقيف من بني كنّه، يتحابّان، لم ير قط أحسن ألفة منهما، فخرج الأكبر إلى سفر فأوصى الأصغر بامرأته، فوقعت عينه عليها يوما، ولم يتعمّد لرؤيتها، فهويها، وضني، وقدم أخوه فجاءه بالأطباء، فلم يعرفوا ما به. إلى أن جاءه بالحارث بن كلدة، فقال: أرى عينين محتجبتين، وما أدري ما هذا الوجع؟ وسأجرب، فاسقوه نبيذا.
فلما عمل «2» النبيذ فيه قال: [الهزج]
ألا رفقا ألا رفقا
…
قليلا ما أكوننّه
ألمّا «3» بي إلى الأبيا
…
ت بالخيف أزرهنّه
غزالا ما رأيت اليو
…
م في دور بني كنّه
أسيل «4» الخدّ مربوب
…
وفي منطقه غنّه «5»